سينما تحرق البيئة وتعوق التنمية المستدامة

سينما تحرق البيئة وتعوق التنمية المستدامة
إننا جميعًا نحب تلك اللحظات التي نغوص فيها داخل عالم السينما الساحر، حيث تنفصل عقولنا عن الواقع، وتندمج قلوبنا بالحكايات، حينما نتابع بشغف أفلام المغامرات، ونضحك على الكوميديا، ونتأثر بالدراما. ولكن وسط هذه المتعة قلَّما نتساءل: ما الأثر البيئي لكل ذلك؟ هل الفيلم الذي نبكي أمامه دمَّر غابة أو أطلق آلاف الأطنان من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي؟!
فمنذ عقود كانت صناعة السينما تُصنَّف ضمن الصناعات “الناعمة”، لكنها اليوم -مع التوسع الهائل في الإنتاج السينمائي- تحوَّلت إلى واحدة من أكثر الصناعات استهلاكًا للطاقة والموارد الطبيعية، بخاصة تلك الموارد المرتبطة بالمناخ والاستهلاك غير المسئول.
وعلى ذلك تتناول حماة الأرض في هذا المقال موضوعَ البصمة الكربونية لصناعة السينما، وكيف يمكن لهذا الصناعة الرائجة أنْ تكون مضرة بالبيئة، وكيف يتحول هذا الفن إلى كابوس من الانبعاثات والنفايات؛ فتابعوا القراءة.
الأثر البيئي لصناعة السينما
يقول الخبراء إنَّ فيلمًا متوسط الميزانية يمكن أنْ يخلِّف انبعاثات تعادل استخدام مئات السيارات مدةَ عامٍ كاملٍ؛ فكيف يكون الحال مع أفلام الأبطال الخارقين أو الأفلام صاحبة الإنتاج العالمي، التي تُصوَّرُ في عدة قارات وبأجهزة ضخمة؟!
وللوهلة الأولى قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنَّ المشكلة حكر على هوليوود، باعتبارها مركز الإنتاج السينمائي الأول عالميًّا، غير أنَّ الواقع مختلف؛ إذْ تنتشر صناعة الأفلام في عشرات الدول، ومع توسع منصات البث واستثمارات المحتوى الرقمي، أصبحت مناطق مثل الشرق الأوسط، آسيا، وأمريكا اللاتينية جزءًا من معادلة التلوث السينمائي.
وفي هولندا -على سبيل المثال- لا توجد إلى الآن بنية واضحة تضمن استدامة الإنتاج السينمائي، وهذا يعني أنَّ كل تصوير يترك خلفه أثرًا بيئيًّا دون أي قيود أو ضوابط. وأمَّا في بعض دول الجنوب العالمي فإنَّ الحديث عن الإنتاج السينمائي المستدام لا يزال نظريًّا، بالرغم من امتلاك هذه الدول بيئات تعاني من التغيرات المناخية؛ ومِن هنا يبرز تساؤل عالمي؛ هو: كيف يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة داخل صناعة السينما في ظل غياب الضوابط ذات الصلة؟
حلول قابلة للتنفيذ
وانطلاقًا من هذا التدهور البيئي في قطاع صناعي يلمس حياة الملايين حول العالم تعمل منظمات مثل منظمة “Earth Angel” مع شركات إنتاج واستوديوهات كبرى في أمريكا الشمالية؛ من أجل إعادة تعريف مفهوم “النجاح السينمائي”، ليشمل أيضًا أثره البيئي، وليس إيرادات شباك التذاكر أو التقييمات النقدية فقط.
وضمن هذه الخطى المستدامة تم اعتماد ممارسات بسيطة فعَّالة، مثل استخدام مصادر الطاقة المتجددة في مواقع التصوير، وإدارة النفايات بطريقة ذكية تقلل من الهدر، واعتماد ديكورات قابلة لإعادة الاستخدام بدلًا من بناء ديكورات مؤقتة تُهدر بعد انتهاء التصوير؛ فكانت النتيجةُ أفلامًا بنسبة انبعاثات تصل إلى 47% مقارنة بالإنتاج التقليدي، دون أنْ يتأثر مستوى الجودة أو الأداء الفني، وهو ما يكسر الحجة السائدة بأنَّ الاستدامة مكلفة.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل دور الإعلام والنقد السينمائي والجوائز العالمية في قيادة هذا التحول المستدام؛ فماذا لو أدرجت جائزةُ الأوسكار فئةً جديدةً في فئات التقييم الخاصة بها، مثل تقييم “أكثر فيلم مسئول بيئيًّا”؟! فهذا النوع من التكريم لا يمنح فقط الشرعية للإنتاج السينمائي المستدام فحسبُ، وإنما يُحفِّز صُنَّاع السينما على التفكير بمنطق مختلف، ويُطلق موجة جديدة من الإبداع المسئول الذي يمكنه أنْ ينقذ الأرض وسكانها ومواردها.
وفي إطار دعم صناعة السينما للانتقال نحو مستقبل محايد كربونيًّا، أطلقت منظمة “albert” المعنية بدعم الإنتاج المستدام في صناعة السينما والتليفزيون؛ مبادرة “Green Rider“؛ وهي مبادرة صُمِّمَتْ لتعزيز العمل المناخي من خلال عقود الممثلين، حيث تساعد هذه المبادرة الممثلين ووكلائهم ومديري فِرق الإعداد على التأكد من إمكانية تنفيذ تدابير الاستدامة في مواقع التصوير.
وبدلًا من الطلبات المعتادة المتعلقة بأطعمة معينة أو وسائل نقل فاخرة، تدعو مبادرة “Green Rider” إلى اتباع ممارسات بيئية جيدة في مواقع التصوير، مثل:
- عدم الإسراف في تناول الطعام، وتقليل النفايات.
- استخدام إضاءة منخفضة الطاقة.
- مطالبة شركة الإنتاج بالالتزام بسياسة “صفر نفايات” فيما يخص ديكورات التصوير.
حين تقود السينما وعي الكوكب
ما سبق من مبادرات وخطوات مستدامة هو الصورة التي يجب أن تكون عليها صناعة السينما، غير أنَّ هناك جانبًا آخر من جوانبها هو ضرورة أنْ تشارك في تعزيز الوعي بمثل هذه القضايا، لا أنْ تكون استدامتها في عمليات إنتاجها فقط، فلا بُدَّ من وجود سينما تحث الشعوب على تقدير نعمة الطبيعة ومواردها؛ فإنه لا شكَّ في أنَّ لها قدرةً على تشكيل الوعي العام وتغيير السلوكيات، لأنها قادرة على أنْ تحوِّل القضايا البيئية من تقارير علمية باردة إلى مشاهد حية تنبض بالمشاعر والتجربة الإنسانية.
ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك فيلم “Avatar” لجيمس كاميرون، ذلك الفيلم الذي كان دعوةً صريحةً للتأمل في علاقتنا بالطبيعة، واستنكارًا لنهب الموارد، وتوعيةً بآثار تدمير النظم البيئية؛ فعبر كوكب “باندورا” لمس الجمهور معاني الارتباط الروحي بالطبيعة، حيث قدَّم الفيلم نموذجًا لحضارة تعيش في انسجام تام مع بيئتها.
ولذلك رفض كوكب “باندورا” -من خلال شبكته البيولوجية “إيوا”- الخضوعَ لمنطق النهب، فانتفضت قبائل “النافي” دفاعًا عن هذا التوازن الدقيق، في مشهد رمزي يعكس الصراع بين نموذج حضاري قائم على الانسجام وآخر قائم على الاستغلال والسيطرة.
هذا الفيلم -برسائله البيئية العميقة- لم يكتف بتسليط الضوء على الكارثة، بل دعا إلى ما يشبه “يوتوبيا بيئية”، حيث يُعاد تعريف التقدم خارج منطق الاستهلاك المفرط، ويُستبدل الطمع الجماعي بفلسفة “الكفاية”. ومن خلال شخصية “جيك سولي” -الجندي الذي وجد في الطبيعة خلاصًا لجسده وروحه- قُدمت تجربة إنسانية ملهمة عن إمكانية التصالح مع الأرض، والانخراط في نضال لحمايتها، لا بوصفها موردًا ماديًّا، بل لكونها كائنًا حيًّا.
وما يميز هذا الفيلم أيضًا هو أنه تجاوز الشاشة ليترك أثرًا في العالم الواقعي؛ فقد ارتبط إطلاق نسخة “DVD” بيوم الأرض، كما أُطلقت حملة لزراعة مليون شجرة في أنحاء العالم، في تجسيد فعلي للربط بين السينما والفعل البيئي الحقيقي. وبهذا أثبت الفيلم كيف أنَّ السينما قوة تغيير بيئي عميق، ولها دور محوري في بناء وعي جديد يُعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعي بوصفه جزءًا من منظومة الحياة، لا سيدًا عليها.
السينما والمناخ علاقة مؤكدة
ومهما كانت سبل تعزيز الاستدامة في عمليات الإنتاج السينمائي أو من خلال الأفلام نفسها؛ فإنَّ أزمة المناخ لم تعد ترفًا فكريًّا أو نقاشًا نظريًّا؛ فإنَّ كوكب الأرض يئن بسبب ارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب الكوارث المناخية المتلاحقة.
ولذلك يجب النظر بعين الاعتبار إلى أنَّ مثل هذه التحولات المستدامة في صناعة السّينما يمكنها -بشكل أو بآخر- تحقيق الهدف (12) الخاص بتعزيز مفاهيم الاستهلاك والإنتاج المسئولين، والهدف (13) المتعلق بالعمل المناخي، وذلك كله يتطلب تكاملًا بين جميع القطاعات؛ ولهذا حان الوقت لأنْ تضع شركات الإنتاج السّينمائي الاستدامةَ في قلب سياساتها، لا على هامش حملاتها الدعائية.
وفي النهاية، تناشد حماة الأرض صنَّاع السّينما حول العالم بأنْ يجعلوا الاستدامة جزءًا من عملهم؛ لأنَّ صناعة السّينما قادرة على إلهام الملايين، وحينها يمكننا أنْ نستخدم هذه القوة لصالح البيئة، مشهدًا بعد مشهد، وفيلمًا بعد فيلم.




