كيف يمكن تحويل صناعة البطاريات إلى الاستدامة؟
كيف يمكن تحويل صناعة البطاريات إلى الاستدامة؟
تعتبر صناعة البطاريات واحدة من الصناعات المهمة، لكونها جزءًا أساسيًّا في العديد من الصناعات الأخرى، مثل صناعة الإلكترونيات، وصناعة السيارات، إلا إنَّ هذه الصناعة يشوبها عديدٌ من التأثيرات البيئية السلبية، التي تستدعي التوقف عندها لبحث كيف يمكن التحول بهذه الصناعة إلى الاستدامة، والحد من الملوثات المرتبطة بعمليات تصنيعها، وهذا ما حاولنا طرحه في هذا المقال.
التوسع في استخدام البطاريات
عادةً ما تكون البطارياتُ التي نستخدمها بشكل يوميّ مصنوعةً من مزيج من المعادن والمواد الكيميائية، مثل البطاريات الجافة وبطاريات الرصاص المستخدمة في السيارات، إلا إنه في العقدين الماضيين ظهرتْ على السطح -بشكل بارز- بطاريات أيون الليثيوم، التي نجدها في هواتفنا الذكية، ووسائل النقل التي تعمل بالكهرباء وغيرها.
وقد أدَّى الارتفاع الكبير في إنتاج بطاريات أيون الليثيوم في خلال العقد الماضي إلى انخفاض أسعارها بنسبة وصلت إلى 85%، وهو ما شجع بدوره على زيادة استخدام هذه البطاريات في تطبيقاتٍ عديدةٍ على نطاق واسع؛ بسبب الخصائص المميزة، التي تتمتع بها بطاريات أيون الليثيوم.
ولفهم الوضع بشكل أوضح، نجد أنَّ في بلدٍ كالمملكة المتحدة -على سبيل المثال- يتم التخلص من حوالي 600 مليون بطارية سنويًّا، وهذا الرقم -بكل تأكيد- نقطة في بحرٍ، مقارنةً بالكميات التي يتم التخلص منها على مستوى العالم.
وفي حين أنَّ إعادةَ التدويرِ تسمح باستعادة المواد الخام من البطاريات لاستخدامها في الصناعات والمنتجات الأخرى، فإنَّ أغلب البطاريات التي يتم التخلص منها تشق طريقها إلى مكبات النفايات؛ مما يؤدي إلى تسرب محتوياتها الكيميائية إلى الأرض؛ ملوِّثةً التربة والمياه.
أهم الملوِّثات المرتبطة بتصنيع البطاريات
تعتبر المُركبات العضوية المتطايرة (VOCs)، إحدى الملوثات الأساسية التي تتولد في العديد من عمليات التصنيع بشكل عامٍّ، وصناعة البطاريات بشكل خاص، حيث تعتبر هذه المُركباتُ منتجًا ثانويًّا أصيلًا في عملية تصنيع البطاريات. ومعظم دول العالم -نظرًا إلى خطورة هذه المُركبات- لديها تشريعات تنظم المستويات المسموح بها من المُركبات العضوية المتطايرة.
تشكل هذه المواد المتطايرة خطرًا شديدًا على البشر عند استنشاقها بكميات لأوقاتٍ طويلةٍ، كما أنها تؤثر في دورة الحياة الطبيعية للنباتات، وتؤدي دورًا مهمًّا في تكوين الضباب الدخانيّ والأوزون، حيث يعتبر الأخيرُ عنصرًا ضارًّا إذا ما وُجِدَ بالقرب من سطح الأرض بمستويات عالية.
ومن بين أخطر المُركبات العضوية المتطايرة فئة تُعرف باسم “ملوثات الهواء الخطرة”، واختصارًا: “HAPs”، وهي مُركبات متطايرة ذات تأثيرات ضارة إضافية، بما في هذا التسبب في التشوهات الخِلْقية، وتلف الجهاز العصبيّ، بل تتسبب في الموت عند استنشاقها بمستويات كبيرة، وللأسف الشديد فهذه الفئة الأكثر ضررًا تتولد أيضًا في خلال عمليات تصنيع البطاريات.
من بعض الأمثلة الأخرى على الملوثات الناتجة عن عمليات إنتاج البطاريات: الهيدروكربونات، وفلوريد الهيدروجين (HF)، وكبريتيد الهيدروجين (H2S)، وثاني أكسيد الكبريت (SO2)، وأكاسيد الكبريت (SOx)، وأكاسيد النيتروجين (NOx)، وأول أكسيد الكربون (CO)، والسيلان (SiH4).
وعندما تصل البطاريات إلى نهاية دورة استخدامها، نجد أنفسنا أمام “الكتلة السوداء”، وهو مصطلح يطلق على الخليط المعدنيّ الناتج عن بقايا بطاريات أيون الليثيوم المستخدمة، وهي الكتلة التي يتوجب علينا التعامل معها لاستعادة عناصر مثل الليثيوم والنيكل والمنجنيز والكوبالت؛ لإعادة استخدامها في تصنيع بطاريات جديدة.
مواكبة التطور في صناعة البطاريات
تتطور تقنيات تصنيع البطاريات باستمرار، وهذا للحفاظ على القدرة التنافسية لكل تقنية، وهذا عن طريق زيادة سعة التخزين بالبطارية، وتحسين الكفاءة، مع تقليل الحجم والوزن. ونظرًا إلى الطلب المتزايد على البطاريات -تماشيًا مع الثورة التكنولوجية التي نعيشها- نجد أنَّ شركات هذا القطاع في حالِ تغيُّرٍ مستمرٍّ، ما بين التحول من تقنية إلى تقنية، وتلبية الاحتياجات الجديدة الناشئة؛ مما يجعل مشروعات الحد من الملوثات في هذه الصناعة أمرًا غير تقليديّ.
ولتوضيح ما سبق، يتوجب علينا فهم أنه عند حدوث أي تطورات في تقنية ما لتصنيع البطاريات، تحتاج العديد من المصانع إلى التكيف مع هذه التطورات، وهذا من خلال تعديل مدخلات الإنتاج، وإعادة صياغة ممارسات التصنيع بشكل أسرع. ومن الأمثلة على ذلك: التحول إلى مواد خام جديدة، أو تطوير/ تغيير معدات الإنتاج؛ ونتيجة لهذه التحولات السريعة من وقتٍ إلى آخرَ، تتأثر تقنيات مكافحة التلوث المستخدمة في مصانع البطاريات ومواقع التعدين.
لا شك في أنَّ هناك أساليبَ وتقنياتٍ متبعةً عديدةً في صناعة البطاريات للحد من -وخفض- الملوثات الناتجة عن العمليات الإنتاجية، ولكن السؤال هنا: ما مدى سرعة تطور هذه التقنيات، مقارنةً بالقفزات الكبيرة التي تشهدها تقنيات التصنيع؟
التوجهات المستدامة في صناعة البطاريات
تعتبر مياه الصرف الصناعيّ واحدة من أبرز المشكلات التي تواجهها صناعة البطاريات؛ لذا فإنَّ التوجه العامَّ الآن في هذا القطاع الصناعيّ المهم يتجه نحو خفض كميات المياه المستهلَكة إلى أقل حد ممكن، وإعادة استخدام المياه كلما أمكن؛ وهذا للحد من تكلفة شراء المياه نفسها، وكذا تكلفة معالجة -والتخلص- من مياه الصرف الصناعيّ.
وفي ما يخص تطبيقات التحكم في تلوث الهواء، نجد أنَّ هناك توجهًا نحو الاستعانة بمصادر الطاقة المتجددة، بدلًا من الوقود الأحفوريّ في المؤكسدات الحرارية والحفزية، وهي وحدات تستخدم في صناعة البطاريات للحد من الانبعاثات.
وبدلًا من الاعتماد على تقنيات الأكسدة التقليدية التي تستخدم الغاز الطبيعيّ أو البروبان لتوفير الحرارة اللازمة، نجد أنَّ بعضَ المصانع أصبحتْ تتوجه -بشكل تدريجيّ- إلى الاعتماد على المؤكسدات التي تعمل بالوقود الهيدروجينيّ؛ مما يعني خفض البصمة الكربونية لصناعة البطاريات.
والتوجه الأهم في الوقت الحاليّ -بكل تأكيد- هو تعظيم وتحسين عمليات إعادة التدوير، حيث تقدم إعادة التدوير فائدةً بيئيةً مزدوجةً؛ فمن ناحية تحفظ الأنظمة البيئية من كميات ضخمة من المخلفات الخطرة، التي يتم التخلص منها سنويًّا، ومن ناحية أخرى توفر المواد الخام اللازمة لعمليات التصنيع، بدلًا من الاعتماد بشكل كليّ على تعدين المواد الخام البكر، وهي العملية التي تستهلك كميات هائلة من المياه والطاقة.
بطاريات أيونات الألومنيوم
من أبرز التقنيات المثيرة للاهتمام في عالم البطاريات، هي بطارية أيون الألومنيوم. يقدم هذا النوعُ المبتكَرُ من البطاريات بديلًا واعدًا لبطاريات الليثيوم؛ وهذا نظرًا لوفرة الألومنيوم في القشرة الأرضية، ولقدرته -من حيث المبدأ- على حمل الشحنات الكهربية بشكل أفضل من الليثيوم.
إنَّ انخفاضَ التكاليف المادية والبيئية -التي تأتي مع استخدام الألومنيوم بدلًا من الليثيوم- قد يعني أنَّ البطاريات المصنوعة منه يمكن أنْ توفر خيارًا مستدامًا يمكن استخدامه على نطاق واسع وبأسعار معقولة، ومع تأثير بيئيّ أقل كثيرًا.
ولكن المشكلة هنا، هي أنَّ بطاريات أيونات الألومنيوم تتمتع -حتى الآن- بفترة صلاحية قصيرة نسبيًّا، كما أنَّ الحرارةَ المتولدةَ عن شحنها، ومعدلَ الشحن، وعددَ دورات الشحن؛ تؤثر جميعها في سعة البطارية بشكل ملحوظ، ولعل هذا يُعْزَى إلى كون ذرات الألومنيوم أكبر -بصورة ملحوظة- مقارنةً بذرات الليثيوم.
وبناءً على ما سبق، ربما سيتوجب علينا -على الأرجح- الانتظار لسنواتٍ أو حتى لعقودٍ قادمة قبل أنْ تصبح بطارياتُ الألومنيومُ الخيارَ الأولَ في حياتنا اليومية.
مستقبل صناعة البطاريات
لا ينكر عاقلٌ أنَّ البطاريات أصبحتْ تشكل ركنًا أساسيًّا في تَقَدُّمِ ورفاهية البشرية، كما أنها شقَّتْ طريقها إلى العديد من التطبيقات المستدامة، مثل وحدات تخزين الطاقة في محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ولكن هذا ليس مبررًا لغض الطرف عن الجوانب البيئية السلبية في هذه الصناعة الحيوية.
لذا، يتوجب على هذا القطاع المهم بذل المزيد من الجهود؛ للتحول بهذه الصناعة إلى الاستدامة، والاستثمار في البحث والتطوير لإيجاد تقنيات جديدة تعمل على تعظيم العمر الافتراضيّ للبطاريات، وكذا السماح بسهولة عملية إعادة التدوير.
لا شك في أنَّ الطريقَ ما يزال طويلًا لتقيل التأثير البيئيّ لإعادة تدوير وإنتاج البطاريات؛ لذا فإنَّ التطويرَ المستمرَّ لكلٍّ من تقنيات صناعة البطاريات وتقنيات التصنيع بشكل عام؛ يمكن أنْ يمهد الطريقَ لمستقبل أنظف وأكثر أمانًا، وصناعة بطاريات مستدامة وصديقة للبيئة.