ممشى السيدة عائشة مسار سياحي مستدام
ممشى السيدة عائشة مسار سياحي مستدام
تُعد القاهرة واحدة من أكثر المدن التي تحمل في زواياها قصصًا تاريخية وحضارية، ومع تقدم خطط التطوير العمرانية الحديثة التي تركز على الاستدامة، نشهد مشروعات حضرية جديدة تجمع بين الحفاظ على التراث وتحديث البنية التحتية، ومن أبرز هذه المشروعات ممشى السيدة عائشة السياحي.
فما الذي يجعل هذا المشروع مميزًا؟ وكيف يعيد إحياء الماضي ويتطلع إلى المستقبل المستدام؟ في هذا المقال تأخذكم حماة الأرض في جولة تفصيلية تكشف فيها أبعاد هذا المشروع، الذي يسعى إلى بناء نموذج تنموي يحترم الهوية ويواكب التقدم؛ فتابعوا القراءة.
ممشى حضاري يصل السيدة عائشة بالقلعة
تعكف الدولة المصرية على تنفيذ مشروع طموح يتمثل في إنشاء ممشى سياحي يبدأ من مسجد السيدة عائشة، ويمتد حتى قلعة صلاح الدين ومسجد السلطان حسن، مرورًا بعدة ساحات ومسارات تاريخية. هذا الممشى -الذي من المقرر أن يحل محل كوبري السيدة عائشة الذي يعاني من مشكلات إنشائية متراكمة- ليس مجرد مسار للمشاة، بل تجربة بصرية وروحية، تمنح الزائر فرصة للتجول في قلب التاريخ واستكشاف ملامح القاهرة القديمة.
وتأتي هذه الخطوة في إطار خطة أوسع لتطوير القاهرة التاريخية وفق معايير النمو الحضري المستدام، من خلال رؤية متكاملة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الحفاظ على الموروث الثقافي وتحسين جودة الحياة، بما يتفق مع الأجندة الوطنية “رؤية مصر 2030”.
منطقة السيدة عائشة تستعيد هويتها
ظلت منطقة السيدة عائشة سنوات طويلة تعاني من مظاهر العشوائية، وسط زحام عمراني واختناقات مرورية وتشوهات بصرية غيّبت ملامحها التاريخية، غير أنه مع إزالة مناطق مثل بطن البقرة، وتل العقارب، وعزبتي بني هلال وأبو قرن، بدأت ملامح التحول تظهر، وبدأت المنطقة تستعيد شيئًا من هدوئها وهويتها، وهو ما أتاح الفرصة لوضع خطوات جادة نحو إحيائها من جديد.
وما يلفت الانتباه أن هذا التغيير لم يكن عفويًّا، بل جاء في إطار خطة شاملة لإعادة التنظيم، وتأمين مساكن بديلة تليق بالأهالي الذين تم نقلهم، وتهيئة الأرض لانطلاقة جديدة تستحقها هذه المنطقة العريقة. ومن هذا المنطلق يمثل مشروع تطوير السيدة عائشة تجسيدًا عمليًّا لمفهوم الاستدامة الاجتماعية، الذي يحرص على دمج جميع فئات المجتمع في مسار التنمية دون إقصاء.
كيف يخدم الممشى أهداف التنمية المستدامة؟
لا شك أنَّ مشروع تطوير منطقة السيدة عائشة يمثل نموذجًا ملهمًا للتنمية العمرانية التي توفّق بين السياحة والتخطيط الحضري المستدام؛ فقد تم تصميم الممشى السياحي ليكون خاليًا من السيارات، غنيًّا بالمساحات الخضراء، ومترابطًا من حيث الرؤية والاستخدام مع المعالم التاريخية المجاورة؛ مما يوفر تجربة سياحية متكاملة تسهم في الوقت نفسه في تحسين جودة الحياة للسكان المحليين.
هذا الدمج الذكي بين الحفاظ على التراث وتنشيط السياحة يتفق مع أهداف التنمية المستدامة، وتحديدًا الهدف (11) “مدن ومجتمعات محلية مستدامة” الذي يركز على جعل المدن أكثر شمولًا واستدامة؛ فالمشروع لا يقتصر على الحفاظ على المعالم التاريخية، وإنما يعيد توظيفها في سياق عمراني يعزز التوازن البيئي، ويقدم نموذجًا للتحرك الذكي، وتوزيع المساحات بما يخدم السكان والزوار على حد سواء.
إضافة إلى ذلك، يسهم المشروع في تحقيق الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بأنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة، من خلال تحويل النشاط السياحي إلى ممارسة مسئولة بيئيًّا واقتصاديًّا، تحافظ على الموارد وتضيف إلى قيمة المكان دون أن تشوّه هويته.
ترميم متكامل
ويُعد أحد أعظم إنجازات مشروع ممشى السيدة عائشة السياحي هو إعادة إحياء سور القاهرة القديم؛ ذلك السور الذي كان مدفونًا خلف كتلٍ خرسانيةٍ ومبانٍ عشوائيةٍ سنواتٍ طويلةً، وقد بدأت وزارة الآثار بالفعل في أعمال الترميم بعد نقل السكان وتعويضهم، في خطوة تُعيد الاعتبار لهذا المعلم التاريخي الذي يشهد على عصور من العظمة والمجد.
وتشهد المنطقة حاليًّا أعمال ترميم واسعة تشمل مآذن المساجد والمقابر الأثرية، مثل مسجدي المسبح والغوري، ومقبرة الإمام جلال الدين السيوطي، وتتم هذه العمليات بدقة بالغة، حيث تُفك المآذن ويعاد تركيبها بعد معالجة التربة المتأثرة بالمياه الجوفية، وتُنفذ هذه العمليات تحت إشراف فرق متخصصة من المرمّمين والمهندسين المعماريين، باستخدام مواد وأساليب تضمن الحفاظ على الطابع الأثري لكل عنصر بصورة مستدامة.
كما يتم توثيق شامل لكل مرحلة من مراحل العمل، لضمان استدامة الترميم وتعزيز القيمة المعرفية للموقع. ولا تقتصر جهود التطوير على الجانب المعماري فقط، وإنما تشمل أيضًا تحسين البيئة المحيطة، من خلال توسعة المساحات المفتوحة، وتوفير مسارات للحركة، وإنشاء نقاط مشاهدة تُبرز جماليات المكان وتمنح الزائر تجربة متكاملة تربط بين التاريخ والحاضر.
البازارات والمطاعم
وبالقرب من قلعة صلاح الدين، وتحديدًا في اتجاه ميدان السيدة عائشة، بدأت ملامح الحياة تدبّ من جديد في المكان؛ فقد أُنشئت مجموعة من البازارات السياحية، والمحلات، والمطاعم، والمقاهي. وقد جاء تصميم هذه المنشآت متسقًا مع الطابع التاريخي للموقع، حيث رُوعي الحفاظ على حرمة القلعة من خلال ترك فاصل من المساحات الخضراء والأشجار التي توفر التهوية الطبيعية، وتضفي جمالية بصرية على المنطقة.
وما يلفت النظر أن هذه الإضافات لا تقتصر على تلبية احتياجات الزوار والسياح، وإنما تهدف أيضًا إلى تحفيز الاقتصاد المحلي عبر توفير فرص عمل جديدة، وتحقيق عوائد اقتصادية مستدامة، وهو ما يعكس التزام المشروع بالهدف (8) من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بالنمو الاقتصادي الشامل وتوفير فرص عمل لائقة ومنتجة.
الربط المروري والبنية التحتية
وفي الوقت الذي يتم فيه تفكيك كوبري السيدة عائشة تدريجيًّا بسبب مشاكله الإنشائية وميوله الخطيرة، يتم التخطيط لإنشاء محور مروري موازٍ لمحور صلاح سالم، يبدأ من منطقة مجرى العيون ويمتد حتى مصر القديمة، ليربط المنطقة بمحور الحضارات وكورنيش النيل ونفق الملك الصالح.
هذا الربط المروري الجديد سيكون بمثابة شريان حياة للمنطقة، ويعكس تطبيقًا عمليًّا للهدف (9) من أهداف التنمية المستدامة، الذي يدعو إلى تطوير بنية تحتية قوية ومستدامة تدعم النمو والابتكار؛ فإعادة التخطيط هنا تمثل إعادة تنظيم للمكان والفرص، وتمنح السكان والمكان إمكانيات جديدة للنمو والتواصل.
ومن هنا ترى حماة الأرض أنَّ مشروع ممشى السيدة عائشة يتجاوز كونه مجرد تجديد عمراني أو تحسين بصري للمنطقة، ليصبح خطوة جادة نحو مستقبل حضري مستدام، حيث يسهم المشروع في تعزيز الاقتصاد المحلي وتوفير فرص عمل جديدة، مع الحفاظ على التراث الثقافي ضمن سياق التنمية الحضرية.