التحول المستدام في قطاع المباني والإنشاءات
التحول المستدام في قطاع المباني والإنشاءات
بسبب التحديات البيئية العالمية المتزايدة والضغوط الملحّة لتقليل الانبعاثات الكربونية وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة، يبرز قطاع المباني والإنشاءات باعتباره عنصرًا محوريًّا في طريق تحقيق الاستدامة البيئية؛ فالمباني ليست أماكن للسكن والعمل فقط، وإنما هي ركائز يمكن من خلالها إعادة رسم ملامح مستقبلنا البيئي.
ذلك لأنَّ قطاع المباني من أكثر القطاعات استهلاكًا للطاقة، ومصدر رئيسي للانبعاثات الكربونية، حيث يعتمد تصميم المباني وتشغيلها غالبًا على مصادر الطاقة غير المتجددة؛ ولذلك تتناول حماة الأرض في هذا المقال أهمية التحول المستدام في هذا القطاع الحيوي، بشكل يضمن الاستدامة البيئية؛ فتابعوا القراءة، واكتشفوا الحلول العملية والفرص الواعدة التي تُعيد الأمل في بناء عالم أخضر.
دور قطاع المباني في مكافحة التغير المناخي
تشير التقارير العالمية لعامي 2024 – 2025 إلى أنَّ المباني والمرافق تسهم بما يقارب ثلث الانبعاثات العالمية، كما أنها مسئولة عن توليد ما يقرب من ثلث نفايات العالم، غير أنَّ هذا القطاع يشهد تحسنًا ملحوظًا في كفاءة الطاقة وتبني مصادر الطاقة المتجددة، وذلك فقًا لتقرير صدر منذ أيام عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) والتحالف العالمي للمباني والتشييد (GlobalABC).
وفي وقت أصبحت فيه الحاجة إلى تحسين كفاءة الطاقة وتبني معايير بناء حديثة وصديقة للبيئة ضرورة ملحّة لدعم جهود بناء مدن ومجتمعات مستدامة، يعتبر هذا القطاع ركيزة أساسية لتحقيق الهدف (11) من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة “مدن ومجتمعات محلية مستدامة”، الذي يركز على بناء مدن وآثار حضرية تحافظ على البيئة وتضمن جودة الحياة.
تحسين كفاءة الطاقة
تشير التقارير إلى أنَّ السياسات التي تم تبنيها منذ توقيع اتفاقية باريس في عام 2015 وحتى عام 2023 حققت نتائج ملموسة، رغم الحاجة إلى تسريع وتوسيع نطاق تطبيقها؛ ففي عام 2024 تمكنا لأول مرَّة من فصل النمو المستمر في بناء المباني عن زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، حيث توقفت الانبعاثات عن الارتفاع، وسجلت كثافة الطاقة انخفاضًا بنسبة 9.5%، وهو ما يُظهر تقدمًا ملحوظًا.
وقد أسهمت مجموعة من الإجراءات في تحقيق هذا الإنجاز، من بينها تطبيق قوانين طاقة المباني الإلزامية المتوافقة مع معايير صفر انبعاثات، فضلًا عن معايير الأداء الإلزامية والاستثمارات الكبيرة في كفاءة الطاقة، ونتيجة لهذه الإجراءات انخفضت كثافة الطاقة في القطاع بنحو 10%، في حين ارتفعت حصة الطاقة المتجددة في الطلب النهائي على الطاقة بنحو 5%.
التحديات الاقتصادية والاستثمارية
ويواجه قطاع المباني تحديات اقتصادية كبيرة مع تحول الطلب على الطاقة؛ فمن المتوقع أن تصل ذروته في الدول ذات الدخل المرتفع بحلول عام 2030؛ لتبدأ معدلات الطلب في الانخفاض بمعدل 0.3% سنويًّا حتى عام 2050. وفي المقابل، ستشهد الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل ارتفاعًا في الطلب بنسبة 1.5% حتى عام 2030، يليه انخفاض بمعدل 1.3% سنويًّا حتى عام 2050.
وأشار تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أنَّ الاستثمار العالمي في كفاءة الطاقة في المباني قد شهد انخفاضًا بنسبة 7% ليصل إلى 270 مليار دولار في عام 2023 مقارنة بـ 290 مليار دولار في العام السابق. ورغم هذا التراجع تبرز فجوة استثمارية تبلغ حوالي 1.1 تريليون دولار لتحقيق الاستخدام الأمثل للطاقة في هذا القطاع الحيوي؛ مما يتطلب تكثيف الجهود والاستثمارات لتعويض هذا النقص.
السياسات والحلول المستقبلية
تبرز أهمية تكثيف جهود تجديد المباني القائمة من خلال تبني تصميمات موجهة نحو توفير الطاقة، واعتماد نظم تبريد تعتمد على مضخات الحرارة، بهدف خفض كثافة الطاقة بنسبة تصل إلى 35% بحلول عام 2030، ومن المتوقع أنْ يشهد العالم بناء عدد كبير من المباني بحلول عام 2050، ولم يتم حتى الآن تشييد حوالي نصف هذه المباني؛ مما يستدعي اعتماد قوانين بناء جديدة وحازمة تهدف إلى خفض الانبعاثات المستقبلية، إلى جانب تحديث معايير البناء لضمان تحقيق استدامة بيئية حقيقية.
وعلى المستوى العالمي فرضت 30 دولة استخدام مصادر الطاقة المتجددة في قطاع البناء، في خطوة تعكس التوجه نحو بيئة أنظف وأكثر استدامة. ويُظهر التراجع في استهلاك الغاز الطبيعي بنسبة تتجاوز 4% أهمية تبنّي حلول مبتكرة، مثل العقود الإيجارية الخضراء للمكاتب منخفضة الكربون، وهو نموذج بدأت أكثر من 7,600 شركة -ضمن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- في تطبيقه.
وتشهد جهود التحول المستدام في قطاع المباني اعتماد ممارسات البناء الدائري واستخدام المواد المعاد تدويرها؛ إذ أسهمت هذه الأساليب في تحقيق حوالي 18% من إجمالي مدخلات البناء في أوروبا. كما أدت استراتيجيات توسيع مسئولية المنتِج -التي تُطبق في دول مثل هولندا وفرنسا والهند- إلى تقليل النفايات وتحسين كفاءة استخدام الموارد؛ مما يؤكد التوجه المتزايد نحو نماذج بناء أكثر استدامة.
وفي ضوء هذه المعطيات الواعدة، تدعو حماة الأرض إلى تعزيز الاستثمار في كفاءة الطاقة في المباني؛ إذ إن تحقيق تحول حقيقي في هذا القطاع يتطلب مضاعفة الاستثمارات السنوية من 270 مليار دولار لتصل إلى 522 مليار دولار بحلول عام 2030؛ حتى يمكننا تحقيق أهداف التنمية المستدامة.