الذكاء الاصطناعي يتفوق على الأطباء في وحدات الرعاية المركزة
الذكاء الاصطناعي يتفوق على الأطباء في وحدات الرعاية المركزة
في المستقبل سيكون للذكاء الاصطناعي دور مهم في القطاع الطبي، لا سيما وأننا نرى الآن بعضَ التجارب الناجحة للذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض، وهذا عن طريق تحليل الصور بدقة كبيرة، والتحقق مما إذا كانتْ تُظهر أعراضًا مرضيةً أم لا. العقبةُ التي تواجه هذه التقنية الآن هي صعوبة تدريب الذكاء الاصطناعي على فحص الظروف المتغيرة للمرضى بمرور الوقت؛ ومن ثَمَّ سيكون اقتراحُ العلاج المناسب أمرًا صعبًا، ولكن هذه العقبة قد تجاوزها باحثو جامعة فيينا التكنولوجية بالتعاون مع جامعة فيينا الطبية.
بمساعدة كمية ضخمة من البيانات من وحدات العناية المركزة في مختلف المستشفيات – طُوِّرَتْ تقنيةٌ من تقنيات الذكاء الاصطناعي تستطيع اقتراح علاجاتٍ للمرضى، الذين يحتاجون إلى رعاية مركزة بسبب حالة مرضية خطيرة تُعرف باسم “تعفن الدم”. تُظهر التحليلاتُ أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ استطاع أنْ يتفوقَ بالفعل على جودة القرارات البشرية في ترشيح العلاج لهذه الحالات.
ولمِن لا يعلم، يُعَدُّ تعفنُ الدمِ (Sepsis) حالةً خطيرةً تنتج عن مجموعة ردود أفعال خارجة من جسم المريض، نتيجة التقاطه الجراثيم، وهذا يدفعُ الجهازَ المناعيَّ إلى إصدار مواد كيميائية؛ لأجل مواجهة هذه الجراثيم، ولكن إذا كان ردُّ فعلِ الجهاز المناعي مبالغًا فيه فيمكن حينئذٍ أنْ يسبب التهابات في مجرى الدم أو العضو المصاب، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى التعفن.
الاستفادة المثلى من البيانات
في وحدة العناية المركزة تُجمعُ كثيرٌ من البيانات المختلفة على مدار الساعة، حيث يخضع المرضى للمراقبة الطبية باستمرار؛ لذا أراد الفريقُ البحثيُّ التحقق مما إذا كان من الممكن استخدام هذه البيانات بشكل أفضل يفوق القدرات البشرية، أم لا.
يقول البروفيسور “كليمنس هيتزنجر” من معهد التحليل والحوسبة العلمية في جامعة فيينا التكنولوجية، وهو أيضًا المدير المشارك لـ”مركز الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي” (CAIML) في جامعة فيينا: «يتخذ الطاقمُ الطبيُّ قراراته على أساسِ قواعدَ طبيةٍ راسخةٍ، وفي معظم الأوقات تستطيع هذه الأطقمُ الطبيةُ أنْ تَعِيَ المتغيرات التي يجب أنْ يأخذوها بعين الاعتبار؛ لأجل تقديم أفضل رعاية. وبالرغم من هذا فإنه يمكن للكمبيوتر أنْ يأخذ في الاعتبار كميات ضخمة من المعلومات بسهولة أكثر وقدرة أكبر من الإنسان، وهو ما يمكن أنْ يؤدي -في بعض الحالات- إلى قرارات أفضل تخص العلاجات المقترحة».
الكمبيوتر باعتباره وسيلة للتخطيط
يقول هيتزنجر: «في مشروعنا استخدمنا شكلًا من أشكال التعلم الآلي يُسمى التعليم المعزز، وهو نوع من التعلم الآلي عن طريق التفاعل مع البيئة المحيطة، مما يسمح للذكاء الاصطناعي بعمل مجموعة من العمليات المعقدة، وهذا مقارنةً بالدور السابق للذكاء الاصطناعي في المجالِ الطبيِّ، والذي كان مقتصرًا على تصنيف مجموعة من الصور لتتبع حالة ورم على سبيل المثال، ولكن التقنية التي طورناها تستطيع التنبؤ بالحالة التي يمكن أنْ يصل إليها المريض، وهي التقنية التي كان هناك القليل من البحث حولها في المجالِ الطبيِّ».
وباستخدام هذه التقنية الجديدة يمكن للكمبيوتر أنْ يصبح عاملًا بقراراتٍ يتخذها بنفسه؛ ليحدد ما إذا كان المريض على ما يرام أم لا. السِّرُّ وراءَ هذا البحث الجديد هو استخدام نظام افتراضي لمكافأة وعقاب الكمبيوتر، فإنْ تَحسَّنَ المريضُ كوفِئ الكمبيوترُ وإنْ تدهورتْ حالته عُوقِبَ؛ وبالتالي فإنَّ الكمبيوترَ العاملَ بهذه التقنية يطور مع الوقت مهمة ذاتية لتعظيم هذه المكافأة الافتراضية عن طريق اتخاذ الإجراءات التي تحسن حالة المريض. وبهذه الطريقة يمكن استخدام البيانات الطبية الشاملة لتحديد استراتيجيةٍ تُحققُ احتمالية عالية للنجاح.
الذكاء الاصطناعي أفضل من الإنسان
يقول البروفيسور “أوليفر كيمبرجر” من جامعة فيينا الطبية: «تعفن الدم هو أحد أكثر أسباب الوفاة شيوعًا في طب العناية المركزة، ويشكل تحديًا كبيرًا للأطباء والمستشفيات، حيث إنَّ الاكتشافَ المبكرَ والعلاجَ المناسبَ ضروريانِ لبقاء المريض على قيد الحياة، ولكن -يا للأسف- كانت هناك اختراقاتٌ طبيةٌ قليلةٌ في هذا المجال، مما يجعل البحثَ عن علاجاتٍ وأساليبَ جديدةٍ أمرًا أكثر إلحاحًا؛ ولهذا السبب يُعتبر التحقيق في مدى مساعدة الذكاء الاصطناعي على تحسين الرعاية الطبية أمرًا مثيرًا للاهتمام بشكل خاص، كما يُعَدُّ استخدام نماذج التعلم الآلي وتقنيات الذكاء الاصطناعي الأخرى فرصةً لتحسين تشخيص وعلاج تعفن الدم، وهذا سيؤدي في النهاية إلى زيادة فرص بقاء المريض على قيد الحياة».
يُظهر التحليلُ أنَّ قدرات الذكاء الاصطناعي تتفوق بالفعل على قدرات البشر في هذا المجال تحديدًا، فمعدلات الشفاء الآن أعلى باستخدام استراتيجية الذكاء الاصطناعي، مقارنةً بالقرارات البشرية البحتة؛ ففي إحدى دراسات هذا الفريق البحثي تمت زيادة معدل الشفاء من حيث الوفيات في خلال 90 يومًا (90-day mortality) بحوالي 3٪.
ما سبق -بالطبع- لا يعني أنه يجب على الطبيب أنْ يترك القرارات الطبية كلها في وحدة العناية المركزة إلى الكمبيوتر؛ حيث إنَّ الدورَ المنتظرَ من الذكاء الاصطناعي هو أنْ يعملَ بصفته جهازًا إضافيًّا إلى جانب الأَسَرَّةِ، حيث يمكن للطاقم الطبيِّ الرجوع إليه، ومقارنة تقييمهم الخاص باقتراحات الذكاء الاصطناعي.
الجانب القانوني والأخلاقي
يثير هذا البحثُ الجديدُ أسئلةً قانونيةً وأخلاقيةً كثيرةً، ومن أبرز هذه الأسئلة: مَن الذي سيتحمل المسئولية عن أي أخطاء يرتكبها الذكاءُ الاصطناعيُّ؟ وهذا يقودنا إلى سؤالٍ آخرَ أكثر تعقيدًا: ماذا لو اتخذ الذكاءُ الاصطناعيُّ قرارًا صحيحًا، ثم اختار الإنسانُ خيارًا آخرَ للعلاج، فأصيب المريضُ بأذى – هل يواجه الطبيبُ بعد هذا اتهامًا بأنه كان من الأفضل أنْ يثق بالذكاء الاصطناعيِّ؛ لأنه يقرر بناءً على كميات ضخمة من البيانات؟ أم أنه من حق الإنسان تجاهل نصيحة الكمبيوتر في جميع الأوقات؟
يُظهر المشروعُ البحثيُّ أنه يمكن بالفعل استخدام الذكاء الاصطناعي بنجاح في الطبِّ السريريِّ، باستخدام التكنولوجيا التي بين أيدينا اليوم، لكن ما تزال هناك حاجة ماسة إلى مناقشة الإطار الاجتماعي والقواعد القانونية؛ لأجل تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع الطبي؛ لمَا لهذا القطاع من طبيعة خاصة؛ إِذْ إنَّ قرارًا بسيطًا قد يعني حياةً، سواء بالحفظ أم بالفقد.