خطى مستدامة

كيف تقود الحكومات التنمية عبر الشراء المستدام؟

الشراء

كيف تقود الحكومات التنمية عبر الشراء المستدام؟

تسعى العديد من الدول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، غير أن هذه المساعي غالبًا ما تعترضها تحديات كبيرة، أبرزها نقص الموارد المتاحة، وخاصة الموارد المالية، ورغم التركيز على البحث عن مصادر تمويل جديدة، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في كيفية إدارة الموارد المتاحة بالفعل، وضمان استخدامها بشكل أكثر كفاءة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ومع تصاعد النقاشات الدولية حول تمويل التنمية، واقتراب موعد انعقاد المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية (FfD4)، يبرز الشراء المستدام باعتباره أداة استراتيجية ذات إمكانات كبيرة في تغيير طريقة صرف الأموال العامة؛ فهي تمثل فرصة حيوية لتحسين الشفافية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وضمان الاستخدام الأمثل للموارد.

ومن هنا سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه الشراء المستدام في تحويل الاقتصاد الوطني إلى مسار أكثر استدامة وعدلًا وشفافية، مع تسليط الضوء على واحدة من أهم الأدوات التنفيذية التي تمتلكها الحكومات لتحقيق ذلك، وهي التوريد العام، الذي يمثّل نقطة التقاء عملية بين السياسات العامة والأهداف التنموية؛ فتابعوا قراءة المقال.

التوريد العام والشراء المستدام

يشير مصطلح التوريد العام إلى عملية الشراء التي تعتمدها الحكومات والشركات المملوكة للدولة لشراء السلع والخدمات وتنفيذ مشروعات البنية التحتية. وتُعد هذه المشتريات قوة اقتصادية كبرى؛ إذ تشكّل في الاقتصادات الناشئة ما بين 15% إلى 30% من إجمالي الناتج المحلي، بحسب بيانات الأمم المتحدة. وهذا يعني أن ما يصل إلى ثلث النشاط الاقتصادي في الدولة يُحرَّك بواسطة الإنفاق الحكومي، وهذا ما يجعل منه أداة حيوية يمكن من خلالها توجيه الأسواق نحو ممارسات أكثر استدامة وعدلاً.

تمتلك الحكومات من خلال هذه القوة الشرائية الهائلة فرصة لتكون القدوة في تحقيق التحول البيئي والاجتماعي الذي تحتاجه مجتمعاتها؛ فإذا استُخدمت هذه الأداة الاستراتيجية بذكاء، يمكنها أن تحفّز الابتكار، وتدفع الأسواق إلى تقديم حلول صديقة للبيئة، وتضمن أن يكون الإنفاق العام موجهاً لتحقيق القيمة الحقيقية للمجتمع وليس فقط الأدنى من حيث التكلفة.

ومن هنا يبرز مفهوم الشراء المستدام باعتباره أحد أبرز أشكال تطوير سلاسل التوريد العام، حيث يعتبر الشراء مستدامًا عندما تقوم المؤسسات بتوسيع نطاق الشراء من خلال تلبية احتياجاتها من السلع والخدمات والأشغال والمرافق بطريقة تحقق القيمة مقابل المال، وتأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والبيئية للمشتريات طوال دورة حياتها.

نحو تحول رقمي

ويتطلب تحقيق هذه الرؤية الطموحة أن نتجاوز التحديات القائمة داخل أنظمة الشراء الحكومي الحالية، التي غالبًا ما تعاني من ضعف الحوكمة، وقصور الشفافية، واعتماد آليات تقليدية لا تواكب المتغيرات، وهذا ما يضعها فوق رأس قائمة المخاطر المتعلقة بالفساد؛ إذ تُقدّر الخسائر الناجمة عن أنظمة الشراء غير الفعَّال –وفقًا لبيانات البنك الدولي– بنحو تريليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ كان يمكن أن يُوجَّه إلى تحسين قطاعات حيوية، مثل التعليم، والصحة، والصناعة.

وفي ظل غياب الشفافية واعتماد الأساليب اليدوية التقليدية في إنجاز المعاملات، تصبح بيئة الشراء العام أرضًا خصبة للهدر وسوء الإدارة، حيث تعتمد معظم أنظمة الشراء على معيار “الأقل سعرًا”، وهو ما يؤدي -على سبيل المثال- إلى اختيار مقاولين قد يفتقرون إلى الجودة أو الاستدامة في التنفيذ، وتُهمل الاعتبارات البيئية والاجتماعية في سبيل خفض التكاليف الظاهرية.

ومن هنا فإن الانتقال نحو الشراء المستدام أصبح ضرورة ملحّة؛ إذ إن اعتماد الشفافية والرقمنة والحوكمة الرشيدة باعتبارها دعائم أساسية لأنظمة الشراء يمكن أن يُحدث تحولًا جذريًّا في مسار التنمية، وذلك من خلال توظيف أدوات وتقنيات حديثة مثل أنظمة الشراء الإلكتروني وتحليل البيانات المفتوحة، التي يمكنها تحسين الأداء الحكومي وتحقيق أهداف التنمية بشكل أكثر فعالية.

وهنا يأتي دور التحول الرقمي الذي لا يقتصر على مجرد تحويل الإجراءات الورقية إلى منصات إلكترونية، وإنما يمثل فرصة لبناء نظام ذكي ومتكامل يُمكّن الحكومات والمواطنين على حد سواء من تتبّع إنفاق المال العام؛ مما يسهم في تعزيز الشفافية والمساءلة.

وفي هذا السياق، تشير دراسة صادرة عن (Copenhagen Consensus Centre) إلى أن الاستثمار في أنظمة الشراء الإلكتروني يُعد واحدًا من أفضل عشرة استثمارات لتعزيز أهداف التنمية المستدامة، حيث تبيّن الدراسة أن كل دولار يُستثمر في هذا النظام يُحقق عائدًا يتراوح بين 8 إلى 58 دولارًا في الدول منخفضة الدخل، ويصل إلى ما بين 142 و473 دولارًا في الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى.

دمج مفاهيم الشراء المستدام في السياسات العامة

تشير تقارير معهد التنمية المستدامة الدولي (IISD) إلى أن دمج مفاهيم الشراء المستدام في السياسات العامة لا يزال ضعيفًا في العديد من الدول؛ ففي دراسات أجريت على بعض الدول تبين أن هناك نقصًا في الإطار القانوني، وضعفًا في تدريب الموظفين العموميين، وغيابًا للرؤية الاستراتيجية في توجيه الشراء الحكومي نحو أهداف التنمية المستدامة.

يجب أن تكون الخطوة الأولى للحكومات هي توفير إطار قانوني واضح يدعم الشّراء المستدام، إلى جانب بناء مراكز تدريبية وتعليمية لرفع كفاءة الموظفين الحكوميين والجهات الموردة، بحيث يتمكنون من صياغة المواصفات الفنية التي تراعي الاعتبارات البيئية والاجتماعية، كما يمكن اعتماد نماذج الشّراء القائم على الأداء، حيث ترتبط المدفوعات بتحقيق نتائج ملموسة تتفق مع الأهداف التنموية.

ومن أجل دمج الشّراء المستدام بشكل فعّال، ينبغي أيضًا معالجة العوائق المالية عبر تضمينه في خطط الميزانية العامة، وتعزيز مرونته داخل أطر إدارة المالية العامة. ويمكن هنا الاستفادة من دعم المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنوك الإنمائية متعددة الأطراف؛ لدفع عجلة التغيير وتحقيق التوازن بين الاستدامة والتنمية.

نحو حوكمة مستدامة

وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان أن تستثمر الدول اجتماعها المرتقب في مؤتمر (FfD4) لتضمين الشّراء المستدام باعتباره أحد الأعمدة الرئيسية لتمويل التنمية؛ فبدلًا من التركيز فقط على زيادة التمويل، حان الوقت للتركيز على كيفية الإنفاق بشكل يحقق أقصى أثر اجتماعي وبيئي واقتصادي.

مما لا شك فيه أن السياسات التي تدمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية في عملية الشّراء الحكومي لن تسهم فقط في تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، بل ستقود المجتمعات نحو نماذج إنتاج واستهلاك أكثر عدلًا، وتدعم الاقتصادات المحلية، وتحفّز الابتكار البيئي، وهو ما يدعم الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة “الاستهلاك والإنتاج المسئولان”.

وترى حماة الأرض أن هذا سيقربنا أكثر من تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، ويضمن ألا تُهدر مواردنا على حساب أجيال المستقبل، كما تدعو إلى إعادة التفكير في دور الشّراء الحكومي باعتباره أداة استراتيجية فعالة؛ فالحكومات تمتلك مفاتيح التغيير من خلال قراراتها الشرائية، ويجب أن تُوجَّه هذه القرارات نحو تحقيق اقتصاد أنظف، ومجتمع أكثر عدلًا، وإدارة أكثر شفافية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى