خطى مستدامة

العدالة المناخية مسار نحو عالم أكثر استدامة

العدالة المناخية مسار نحو عالم أكثر استدامة

يشهد كوكب الأرض أزمات بيئية متصاعدة ناجمة عن تدخلات الإنسان وآثار أنشطته التي أفضت إلى تحولات مناخية خطيرة. في صميم هذا المشهد البيئي المضطرب، يبرز مفهوم العدالة المناخية باعتباره من المفاهيم الجوهرية التي تدعو إلى إيجاد توازن دقيق بين صون البيئة وضمان حقوق الإنسان.

فما الذي تعنيه العدالة المناخية؟ وكيف يمكن تفعيلها في وقت تتسع فيه الفوارق الاجتماعية والاقتصادية؟ في هذا المقال، تسلط حماة الأرض الضوء على هذا المفهوم، باعتباره مسارًا حتميًّا نحو عالم يتقاسم فيه الجميع عبء التغيرات المناخية، وتستعرض كيف يمكن للعدالة المناخية أن تكون حلًّا لما يعاني منه العديد من المجتمعات حول العالم؛ فتابعوا القراءة.

مفهوم العدالة المناخية

تُظهر التغيرات المناخية آثارًا متفاوتة في المجتمعات المختلفة حول العالم؛ إذ تعاني الفئات ذات الدخل المحدود والمجتمعات المهمشة من وطأتها بشكل يفوق غيرها، رغم أنها لم تكن سببًا رئيسيًّا في هذه الأزمة. هذا الخلل في التوزيع يطرح قضية جوهرية تُعرف بالعدالة المناخية، وهي رؤية تسعى إلى حماية البيئة دون أن يُهمّش الإنسان، خاصة من يفتقر إلى الموارد الكافية لمواجهة المخاطر المناخية.

يرتكز هذا المفهوم على مبدأ الانتقال العادل، أي التحول من الاقتصادات المعتمدة على الوقود الأحفوري إلى أنظمة طاقة نظيفة، دون أن يتسبب هذا التحول في فقدان سبل العيش أو تفاقم الفقر؛ فالعدالة المناخية لا تنظر إلى البيئة باعتبارها قضية مستقلة بذاتها، وإنما تتعامل معها ضمن شبكة أوسع من القضايا الاجتماعية، مثل الفقر، والتمييز، وسوء توزيع الفرص، وذلك بهدف بناء مستقبل يتساوى فيه الجميع في الحق في الهواء النقي والمياه الآمنة والحياة الكريمة.

العدالة المناخية والمجتمعات الأصلية

وفي هذا السياق تظهر أهمية العدالة المناخية بشكل خاص في حياة المجتمعات الأصلية، التي تعاني بشكل مضاعف من آثار التغير المناخي؛ إذ إنَّ حياتهم اليومية وسبل معيشتهم تعتمد بشكل مباشر على الأرض والغابات والأنهار التي تحيط بهم، والأهم من ذلك أن هذه البيئة ليست مجرد مورد للعيش، وإنما تُعد جزءًا أساسيًّا من هويتهم الثقافية والروحية.

غير أن هذه المجتمعات لم تقف في مواجهة التحديات موقف المشاهد، وإنما أصبحت من بين القوى الأكثر تأثيرًا في التصدي للتغير المناخي والتكيف مع آثاره؛ فهم يقدّمون حلولًا مستمدة من معارفهم المتراكمة عبر الأجيال، وهي معارف نشأت من علاقة وثيقة بالأرض والطبيعة، وعندما تُدمج هذه المعرفة التقليدية مع نتائج البحوث العلمية الحديثة، يمكن الوصول إلى أساليب مبتكرة وفعالة لحماية البيئة.

ولعل ما حدث في غابات الأمازون مثال حي على ذلك، حيث وقفت المجتمعات المحلية هناك في وجه مشروعات تعتمد على استخراج النفط، بعد أن تسببت هذه المشروعات في تدمير بيئتهم الطبيعية. هذه المواقف تُظهر بوضوح كيف يرتبط الدفاع عن البيئة بالدفاع عن الحقوق الاجتماعية والثقافية.

النماذج الاقتصادية

ولا تقتصر الاستجابة للتغير المناخي على تقليل الانبعاثات الضارة أو تطوير البنية التحتية فحسب، وإنما تتطلب رؤية أوسع تضع الإنسان في قلب الحل، حيث ينبغي أن تركز هذه الجهود على تمكين المجتمعات من التكيف مع آثار التغير المناخي بطريقة عادلة ومنصفة.

وتزداد أهمية هذا التوجه عندما ندرك أن الدول والمجتمعات الأقل دخلًا غالبًا ما تكون الأضعف في مواجهة التغيرات المناخية، خاصة في ظل الأنظمة الاقتصادية التقليدية التي لا تضمن توزيعًا متكافئًا للفرص والموارد. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى تبني نماذج اقتصادية بديلة، لا تكتفي بمراعاة البيئة، وإنما تضع العدالة المناخية في اعتبارها.

ومن أبرز هذه النماذج دعم المجتمعات المحلية في إنتاج غذائها بطرق مستقلة ومستدامة، من خلال نظام يُعيد السلطة إلى أيدي المزارعين المحليين والمستهلكين؛ ليتحكموا في السياسات الزراعية وآليات التوزيع، بدلًا من الخضوع لمصالح الشركات الكبرى؛ ليكون هذا النموذج بديلًا عن النموذج الغذائي العالمي الحالي الذي تهيمن عليه الشركات الكبرى والمؤسسات السوقية.

التحالف العالمي للعدالة المناخية

وبما أن مواجهة أزمة المناخ لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تكاتف الجهود على المستوى العالمي؛ فقد برزت مبادرات وتحالفات تسعى إلى ضمان عدالة مناخية حقيقية، ومن أبرزها التحالف العالمي للعدالة المناخية الذي يسعى إلى ضمان استجابة عادلة وشاملة لتحديات المناخ، ويركز على تمكين فئة الشباب، من خلال التعليم والعمل المجتمعي؛ لرفع الوعي العام بقضايا المناخ، خاصة في المجتمعات التي تتحمل وطأة التغيرات المناخية رغم أنها لم تكن سببًا مباشرًا لها.

ويحرص التحالف من خلال أنشطته المختلفة على نشر المعرفة عن العدالة المناخية وعلوم البيئة، بما يُمكّن المجتمعات من فهم أعمق للواقع البيئي الذي تعيشه، والتعامل معه بفعالية. كما يسعى إلى تعزيز الشراكات بين الأفراد والمؤسسات، في سبيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وعلى رأسها الهدف (13) المتعلق بمواجهة التغير المناخي.

المعرفة المناخية وسيلة للتغيير

ولأن تمكين الشباب ونشر الوعي لا يكتملان دون بناء معرفة حقيقية وراسخة، تبرز أهمية التعليم المناخي باعتباره أداة محورية في هذا السياق؛ فالتجارب التي يقدّمها التحالف العالمي للعدالة المناخية تُبيّن بوضوح أن الوعي البيئي لا ينمو في فراغ، وإنما يحتاج إلى محتوى معرفي متين يعزز فهم الأفراد والمجتمعات لأبعاد الأزمة المناخية، ويزوّدهم بالوسائل الفعالة للتعامل معها بوعي ومسئولية.

فعندما يدرك الأفراد أن أزمة المناخ ليست مجرد اضطراب في الطقس، وإنما هي قضية ترتبط بالإنصاف والمساواة، تتسع دائرة الوعي العام ويزداد الاستعداد للمشاركة في إحداث تغيير حقيقي؛ فالعدالة المناخية في جوهرها دعوة لتكاتف المجتمعات والعمل المشترك من أجل مستقبل لا يُقصي أحدًا، ولا يُحمّل الفئات المهمشة تبعات أزمة لم تكن من صُنعها.

وتؤكد حماة الأرض أن العدالة المناخية باتت ضرورة ملحة لبناء مستقبل يوازن بين حقوق الإنسان وسلامة الكوكب؛ ولذلك فهي تدعو إلى تعزيز التعليم المناخي، وتبني نماذج تنموية عادلة، وإعلاء صوت المجتمعات الأكثر تأثرًا، بوصفها شريكًا أصيلًا في صياغة الحلول، كما تدعو كل فرد ومؤسسة إلى تبني هذا الوعي وتحويله إلى فعل يومي، يبدأ من أصغر القرارات حتى السياسات الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى