الكاكاو الوجه الخفي في صناعة الشوكولاتة
الكاكاو الوجه الخفي في صناعة الشوكولاتة
الشّوكولاتة من أكثر الأطعمة المحبوبة عالميًّا، وتُستهلك يوميًّا بكميات هائلة، وما لا يعرفه كثير من الناس هو أن رحلتها من مزارع الكاكاو إلى رفوف المتاجر تحمل في طياتها آثارًا بيئية عميقة؛ لذلك تأخذكم حماة الأرض في هذا المقال إلى ما وراء الطعم الحلو؛ لنكتشف التأثير البيئي لزراعة الكاكاو، وكيف يمكن لهذه الصناعة أن تتبنى ممارسات أكثر استدامة.
أصول زراعة الكاكاو
يعود تاريخ زراعة الكاكاو إلى ما يقارب 4000 عام، حيث نشأ في مناطق الأمازون الشمالية، وكان يُعتبر سلعة ثمينة بين حضارات المايا، حيث استُخدم باعتباره عملة ذات قيمة. ومع وصول الإسبان إلى أمريكا الجنوبية انتشر الكاكاو فيها -خاصة في فنزويلا- قبل أن يشق طريقه إلى إفريقيا وأوقيانوسيا (منطقة تشمل أستراليا وميلانيزيا وميكرونيسيا وبولنيزيا) خلال القرن العشرين. ومع تزايد الطلب العالمي عليه تحولت مزارع الكاكاو إلى مشروعات ضخمة، وقد أدى ذلك إلى إزالة مساحات شاسعة من الغابات، واليوم تتركز زراعة الكاكاو في “حزام الكاكاو”، الذي يضم دولًا استوائية مثل ساحل العاج وغانا وإندونيسيا.
الزراعة الأحادية واستنزاف التربة
إنَّ الكاكاو صناعة تُدِرُّ عوائد اقتصادية في كثير من الدول الاستوائية، ومع ذلك فإن طرق زراعته الحالية تثير قلقًا متزايدًا بشأن تأثيرها البيئي؛ ففي حين تبدو مزارع الكاكاو مثمرة في البداية، فإن اعتمادها على الزراعة الأحادية -أي زراعة محصول واحد فقط على مساحة واسعة دون تنويع- يسبب عواقب بيئية خطيرة. ومع غياب التنوع النباتي تفقد التربة تدريجيًّا عناصرها الغذائية، مما يجعلها أكثر عرضة للآفات والأمراض الزراعية.
ولا يتوقف الأمر عند تدهور التربة، فالاستخدام المكثف للمبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية في هذه المزارع يلوث التربة ومصادر المياه، مسببًا أضرارًا جسيمة للنظم البيئية المحيطة. ومع استمرار هذا النمط الزراعي يصبح الاعتماد على الكاكاو عاملًا رئيسيًّا في تدهور بيئات المناطق الاستوائية، حيث تتراجع جودة التربة، وتختفي المساحات الخضراء بمعدل مثير للقلق!
كيف تؤثر زراعة الكاكاو في البيئة؟
تعد زراعة الكاكاو العامل الأهم في التأثير البيئي لصناعة الشّوكولاتة؛ فهي وحدها مسئولة عن 95% من البصمة الكربونية لصناعة الشّوكولاتة، مما يجعل تأثير هذه الزراعة يمتد ليشمل البيئة والمناخ بشكل مباشر. ومع تزايد الطلب العالمي على الشّوكولاتة، لا تقتصر العواقب البيئية على إزالة الغَابات، بل تشمل أيضًا الانبعاثات الكربونية المرتبطة بهذه الزراعة.
وعند مقارنة الأثر البيئي لزراعة الكاكاو بغيره من المنتجات الغذائية، يتضح مدى تأثيره الواضح في البيئة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار ارتباطه المباشر بإزالة الغَابات، حيث إن إنتاج كيلوجرام واحد من الشّوكولاتة الداكنة يؤدي إلى انبعاث 17.11 كجم من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (CO₂e)، وهو معدل مرتفع مقارنة بالعديد من المحاصيل الأخرى. فعلى سبيل المثال، فإن كيلوجرامًا واحدًا من الطماطم الموسمية لا يتسبب إلا في 0.58 كجم من (CO₂e)، وهو فرق شاسع يعكس مدى انخفاض التأثير البيئي للمحاصيل الزراعية التي لا تتطلب إزالة الغَابات أو استهلاكًا عاليًا للموارد الطبيعية.
الطلب العالمي ودوره في تفاقم المشكلة
ولا شك أن الطلب المتزايد على الكاكاو -خاصة في الدول الغربية- يعد أحد العوامل الرئيسية وراء استمرار إزالة الغَابات؛ فمع ارتفاع الاستهلاك العالمي، تسعى الشركات الكبرى إلى شراء الكاكاو بأسعار منخفضة، دون النظر إلى الأثر البيئي، وهذا الضغط الاقتصادي يدفع المزارعين -الذين لا يجدون خيارات أخرى- إلى زراعة المزيد من الكاكاو، وبدلًا من استصلاح الأراضي القديمة يجد المزارعون أن إزالة مساحات جديدة من الغَابات هو الخيار الأسهل والأقل تكلفة لتوسيع زراعتهم؛ وذلك لتعويض تدني الأسعار التي يحصلون عليها.
اللوائح البيئية والمسئولية العالمية
ومع تزايد الوعي العالمي بالتأثير البيئي لصناعة الكاكاو، بدأت بعض الحكومات والمنظمات الدولية في اتخاذ إجراءات للحد من إزالة الغَابات، وكان على رأس هذه الجهود أن الاتحاد الأوروبي أصدر لوائح جديدة تُلزم شركات الشّوكولاتة بتوثيق مصدر الكَاكاو الذي تستخدمه، والتأكد من أنه لم يُزرع على حساب الغَابات الطبيعية، وذلك يحقق -بشكل أو بآخر- الهدف (15) من أهداف التنمية المستدامة: الحياة في البر.
ورغم أن هذه الخطوة تشكل تقدمًا مهمًّا نحو الحد من إزالة الغَابات، فإن فاعليتها ستظل محدودة ما لم يتم تطبيق إجراءات مماثلة على نطاق أوسع؛ فالكثير من الدول المنتجة للكاكاو لا تخضع لهذه اللوائح، كما أن الطلب المتزايد على الكَاكاو في الأسواق غير المشمولة بهذه القيود قد يؤدي إلى استمرار المشكلة في مناطق أخرى.
ومِن هنا تتحمل الحكومات في الدول المنتجة مسئولية كبيرة في سَنّ سياسات داخلية تحمي الغَابات، وتعزز من أساليب الزراعة المستدامة، وتدعم المزارعين في تبني تقنيات إنتاج أقل ضررًا بالبيئة. ويمكن للمستهلكين أيضًا القيام بدور مؤثر في دعم الاستدامة، من خلال اختيار المنتجات التي تحمل شهادات مثل “التجارة العادلة” أو “تحالف الغَابات المطيرة”.
وذلك كله يحد من إزالة الغَابات؛ فعبر هذه الخيارات يمكن للمستهلكين التأثير بشكل مباشر في الشركات، ودفعها إلى تبني ممارسات إنتاج أكثر استدامة؛ وهو أمر يعكسه الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة: الاستهلاك والإنتاج المسئولان.
هل يمكن إنتاج الكَاكاو بشكل مستدام؟
يمثل التحول إلى أساليب زراعية أكثر استدامة الحل الأمثل للحفاظ على الغَابات والحد من تدهورها المستمر، ويمكن تحقيق ذلك عبر الزراعة المختلطة، التي تعتمد على زراعة أشجار الكَاكاو تحت ظلال الأشجار الكبيرة؛ مما يحد من التأثيرات البيئية، كما أن تحسين تقنيات الزراعة وزيادة كفاءة الإنتاج يتيح للمزارعين تحقيق إنتاجية أعلى دون الحاجة إلى إزالة المزيد من الغَابات، مما يوفر بديلًا عمليًّا للتوسع الزراعي غير المستدام.
ولا يقتصر تحقيق الاستدامة على المزارعين وحدهم، وإنما للمستهلكين دور مهم أيضًا في هذه المعادلة؛ فاختيار المنتجات التي تحمل شهادات، مثل “التجارة العادلة” أو “تحالف الغَابات المطيرة” يسهم في تحقيق ذلك، كما أنه يضمن أن الكَاكاو المستخدم في الشّوكولاتة لم يكن سببًا في إزالة الغَابات أو استغلال المزارعين، ومن خلال هذه الخيارات يمكن للمستهلكين التأثير بشكل مباشر في الشركات؛ مما يدفعها إلى تبني ممارسات إنتاج أكثر استدامة.
وتؤمن حماة الأرض أن مستقبل زراعة الكَاكاو يعتمد على تضافر الجهود بين الحكومات والشركات والمستهلكين؛ لضمان الحفاظ على الغَابات دون المساس بتلبية الطلب العالمي على الشّوكولاتة، وهذا يعني ضرورة إيجاد توازن بين الاستهلاك المسئول والإنتاج المستدام، بحيث تصبح الشّوكولاتة منتجًا يُستهلك بوعي، وليس جزءًا من نمط استهلاك غير مدروس يؤدي إلى الإضرار بالبيئة.