الميكروبات أبطال غير مرئيين في تنقية الغلاف الجوي
الميكروبات أبطال غير مرئيين في تنقية الغلاف الجوي
في عالم يشهد تصاعدًا غير مسبوق في مستويات التلوث والانبعَاثات السامة، تبدو محاولات الإنسان في الحد من هذا التهديد البيئي غير كافية؛ ففي الوقت الذي تُنفق فيه مليارات الدولارات سنويًّا على تطوير تقنيات تنقية الهواء وتقليل الانبعَاثات، تعمل الطبيعة في الخلفية بآلياتها الفعالة دون أي تكلفة تُذكر.
لذا سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال الدور الحيوي الذي تؤديه الميكروبات في إزالة السموم من الغلاف الجوي، وذلك عبر استهلاك كميات ضخمة من غاز أول أكسيد الكَربون (CO)، مما يجعل الميكروبات حماةً بيئيينَ غير مرئيين يسهمون في حماية صحة الإنسان واستدامة البيئة؛ فتابعوا قراءة المقال.
الميكروبات وأول أكسيد الكَربون
غاز أول أكسيد الكَربون هو غاز عديم اللون والرائحة، ينتج بكميات هائلة تصل إلى أكثر من ملياري طن سنويًّا نتيجةً للأنشطة الصناعية، وعوادم السيارات، وحرائق الغابات، فضلًا عن العمليات الجيولوجية والكيميائية الطبيعية، ويعد أحد أخطر الملوثات الهوائية، حيث إن تأثيره القاتل لا يمكن الاستهانة به؛ فعندما يصل أول أكسيد الكَربون إلى الغلاف الجوي يسبب أضرارًا مباشرة على صحة الإنسان، ويسهم أيضًا في زيادة معدلات الاحتِباس الحراري بطرق غير مباشرة؛ ولذلك فإن التحكم في مستوياته ضرورة بيئية.
ومما لا شك فيه أن الطبيعة تمتلك حلولًا مذهلة لمكافحة هذه المشكلة؛ فقد أجريت دراسة حديثة قادها فريق بحثي من جامعة موناش الأسترالية، ونُشرت في دورية (Nature Chemical Biology)، حيث كشفت هذه الدراسة عن كيفية استهلاك الميكروبات لكميات ضخمة من غاز أول أكسيد الكَربون؛ فوفقًا لما ذكره الباحثون تستهلك هذه الكائنات الدقيقة حوالي250 مليون طن سنويًّا من هذا الغاز، مما يسهم بشكل كبير في ضبط مستوياته في الغُلاف الجوي، ويقلل من تأثيره السام على البيئة.
الميكروبات تستخرج الطاقة
الأمر المدهش حقًّا أن هذه الميكروبات لا تستهلك أول أكسيد الكَربون بهدف تنقية الهواء فقط، وإنما تفعل ذلك للبقاء على قيد الحياة؛ فقد كشف الفريق البحثي أن هذه الكائنات تستخدم إنزيمًا خاصًّا يُدعى هيدروجيناز أحادي أكسيد الكَربون “CO dehydrogenase“، يمكّنها هذا الإنزيم من استخلاص الطاقة من هذا الغاز السام، وتحويله إلى مصدر غذائي يساعدها على النمو والتكاثر.
وتشير الباحثة “أشلي كروب” -إحدى المشاركات في الدراسة- إلى أن هذا الاكتشاف هو الأول من نوعه، والذي يوضح بالتفصيل كيفية تفاعل هذا الإنزيم مع أول أكسيد الكَربون على المستوى الذري، وتوضح “كروب” أن تريليونات من هذه الميكروبات تعيش في التربة والمياه، وتقوم بهذا العمل الحيوي في صمت، ونحن لا ندرك مدى أهميته!
ومن اللافت للنظر أن دور هذه الميكروبات لا يقتصر فقط على تقليل مستويات أول أكسيد الكَربون، وإنما يمتد إلى الحد من تلوث الهواء، وتحسين جودته بشكل عام؛ فوفقًا لما قاله الدكتور “ديفيد جيليت” الباحث المشارك في الدراسة، فإن هذه الكائنات تقدم مثالًا رائعًا على “الابتكار البيولوجي”، حيث تستطيع تحويل مادة سامة إلى شيء نافع لها وللبيئة في آنٍ واحد.
وعلاوة على ذلك يتجاوز هذا التأثير الإيجابي مجرد تقليل التلوث؛ إذ تشير الدراسات إلى أن الحد من مستويات أول أكسيد الكَربون يسهم في تقليل الوفيات الناتجة عن تلوث الهواء؛ فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية يُعد تلوث الهواء أحد أكبر الأخطار البيئية التي تهدد صحة الإنسان، وهو مسئول عن أمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية؛ ومن ثَمَّ فإن الميكروبات تقدم خدمة بيئية لا تقدر بثمن من خلال دورها في الحد من تلوث الهواء الذي نتنفسه يوميًّا.
الميكروبات والنظام البيئي
مما لا شك فيه أن هذا البحث يفتح الباب أمام فهم أعمق لدور الميكروبات في الحفاظ على التوازن البيئي إذا أُحسِنَ استخدام الأمر؛ فإلى جانب استهلاكها لأول أكسيد الكَربون تؤدي الميكروبات دورًا محوريًّا في مجموعة من العمليات البيئية الأخرى، مثل تحليل المواد العضوية، وإنتاج الأكسجين، وإزالة الملوثات المختلفة.
وعلى الرغم من أن هذا الاكتشاف لن يؤدي بالضرورة إلى ابتكار تقنيات مباشرة لمراقبة انبعَاثات أول أكسيد الكَربون أو خفضها، فإنه يمثل خطوة مهمة في فهم آليات تنقية الهواء الطبيعية، مما قد يشجع على تطوير استراتيجيات جديدة للحفاظ على جودة الهواء؛ فعلى سبيل المثال قد تساعد هذه الأبحاث على تطوير حلول مستدامة تعتمد على الميكروبات لتنظيف الهواء في البيئات الصناعية الملوثة، أو حتى استخدامها في التطبيقات المستقبلية لتنقية الغُلاف الجوي.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا البحث يعزز أهمية حماية البيئات الطبيعية التي تعيش فيها هذه الميكروبات كالتربة والمسطحات المائية، حيث إنَّ التدخل البشريّ المفرط كتلويث الأراضي الزراعية بالمبيدات أو التوسع العمراني الجائر، قد يؤدي إلى تدمير مواطن هذه الكائنات؛ ومِن ثَمَّ تعطيل دورة التنقية الطبيعية التي تعتمد عليها الأرض للحفاظ على توازنها البيئي.
ومع ذلك يظل السؤال الأهم: هل التدخل البشريّ في استخدام الميكروبات لتنقية الغُلاف الجوي سيكون حلًّا مستدامًا، أم خطوةً إلى الوراء؟ وقد يجيب المستقبل العلميّ عن هذا السؤال، ومهما كان الأمر يجب أنْ تتوازن أنظمتنا البيئية، وألَّا يتسبب الإنسان في اختلال هذا التوازن.
وفي الختام، تؤمن حماة الأرض بأن التَنمية المستدامة لا تتحقق فقط بالتكنولوجيا، وإنما بفهم أعمق ومتوازن لهذه العجائب الطبيعية التي تشكل درعًا واقيًا للأرض؛ فبدلًا من البحث عن حلول خارجية، ربما حان الوقت لنستمع إلى همسات الطبيعة ونكتشف كيف يمكن أن تكون أصغر الكائنات أعظم الحلفاء في معركتنا ضد التلوث.