بقلم الاستدامة.. كيف نستخدم الثروة لعزل أنفسنا عن قضايا المناخ؟
الإنكار الناعم للتغيرات المناخية وتأثيره في التضامن الاجتماعي
بقلم الاستدامة.. كيف نستخدم الثروة لعزل أنفسنا عن قضايا المناخ؟
في حين أنَّ أيامَ إنكار حقيقة ظاهرة تغير المناخ قد وَلَّتْ غالبًا، إلا إنَّ هناك شكلًا جديدًا مِن الإنكار البديل قد زاد ظهوره مؤخرًا. اشترك في هذا الإنكار الجميعُ غالبًا، سواء أدركنا هذا أم لم ندرك. ونقصد هنا «الإنكار الضمني» أو «الإنكار الناعم»، وهو الإنكار الذي يحدث عندما نكون علَى وعي تام بالخطر المحقق لظاهرة تغير المناخ، ولكن في الوقت نفسه لا نستجيب إلى هذا الخطر بشكل ملموس في سلوكياتنا اليومية.
ركزت كثيرٌ مِن الأبحاث علَى كيفية محاولة البشر -عادةً- إبعاد أنفسهم ذهنيًّا عن الحقائق والأحداث غير السَّارَّةِ التي تحدث مِن حولهم؛ لذا مِن الواجب علينا دراسة هذا المفهوم وتطبيقه علَى القضية المهمة المتمثلة في تغير المناخ، وكيف أنَّ كثيرًا مِنَّا لا يبحث سوى عن راحته وحماية تفكيره مِن كلِّ ما يتعلق بالتأثيرات السلبية لتغير المناخ، في ظل غياب تام لمبادئ التضامن الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع.
التضامن الاجتماعي -الذي يمكن تعريفه بأنه التعاون والعمل المشترك بين فئات المجتمع كله، لتحقيق التكافل وتوسيع نطاق مسئولية كل فرد منها تجاه الآخر- أصبح لتطبيقه في قضايا المناخ مجال واسع، يحتم على كل منا التصرف بشكل مسئول يعي التأثيرات الواقعة على المجتمع من حوله.
ولفهم ما سبق، دعونا نتخيل أننا في فصل الصيف داخل إحدى المناطق شديدة السخونة، ففي هذه الظروف لن يكون مستغربًا محاولة كل منا الهروب من ويل هذه الحرارة الشديدة باستخدام مكيف الهواء في المقام الأول، بغض النظر عن أي آثار سلبية لذلك.
ولكن ماذا عن أولئك الذين لا يستطيعون توفير مثل هذا الحل؟ في الغالب سوف يسعون إلى حلول أخرى، مثل: التهوية الطبيعية، واستخدام رذاذ المياه، والمراوح، أو حتى المناشف الرطبة؛ وعلَى الرغم مِنْ أنَّ هذه الطرق الأخيرة كلها منخفضةُ التكلفةِ مقارنةً بمكيفات الهواء، فإنها في واقع الأمر خيارات أكثر استدامةً.
ولكن ماذا لو تغير الوضع المادي لهؤلاء الذين لم يستطيعوا توفير ثمن مكيف الهواء في البداية؟ سيقومون -غالبًا- بشرائها علَى الفور، وهذا ما أشرنا إليه في بدء المقال بـ «الإنكار الضمني» لتغير المناخ، وغياب مبادئ التضامن الاجتماعي.
إنكار تغير المناخ ما بين الماضي والحاضر
في العادة، كنا ننظر إلى إنكار بعض الشخصيات العامة -مِن علماء ورجال أعمال- لتغير المناخ باعتباره استراتيجيةً لخدمة المصالح الشخصية، التي تَتَمَثَّلُ في استمرار اعتماد العالَمِ علَى الوقود الأحفوري، وإلى حدٍّ كبير تُعَدُّ نظرتنا تلك صحيحةً.
في السابق، كان الباحثون يربطون بين إنكار تغير المناخ ونقص المعرفة الكافية عند بعض الناس، أو حتى يربطون بينه وبين التوجهات الاجتماعية والسياسية عند بعض الشعوب، مثل الشعوب المنتجة للوقود الأحفوري علَى سبيل المثال. لكن ركز الباحثون -مؤخرًا- نظرهم علَى المعتقدات والحواجز النفسية علَى مستوى الفرد، ومعرفة مدَى ارتباطها الأخلاقي بتجاهل قضية تغير المناخ.
أمَّا سؤالُ: لماذا قد نتجاهل ظاهرةً خطيرةً مثل تغيُّر المناخ، أو نتجاهل غيرها مِن القضايا المهمة؟ فإنَّ مِفتاحَ إجابته كَامِنٌ في كلمة واحدة: «أجسادنا». وعلَى الرغم من ذلك، يتم التغاضي عن دور الحواس وتأثيرها في سلوكنا اليومي عند صياغة الفِكْرَينِ الاجتماعي والسياسي؛ ومِن ثَمَّ إذا أردنا ترسيخَ قضيةِ المناخ في أذهاننا وجعلها موضع اعتبار في سلوكياتنا اليومية وجزءًا أصيلًا من تضامنا الاجتماعي؛ يجب علينا الأخذ في الاعتبار حواسَّ جسد كل فرد مِن الأفراد؛ وعندئذٍ سندرك أنَّ إنكارَ تغيُّر المناخ أكبر مِن أنْ يُعتبرَ مجردَ أداةٍ سياسيةٍ.
كيف ترسم حواسُّنا مستقبلَ سلوكياتنا؟
يمكننا أنْ نلمس إجابةَ هذا السؤال بشكل جلي داخل مجتمعاتنا، فحواسُّنا متحكمةٌ في سلوكياتنا علَى اختلاف شرائحنا المجتمعية؛ لذا نجد الشرائحَ الأعلى لا تَرَى سوى الحفاظ علَى الإحساس المادي بالحياة الطبيعية والراحة والسلام النفسيينِ، في حين أنَّنا نجد الآخرينَ مِن الشرائح الأقل درجةً مضطرينَ إلى تَحَمُّلِ وطأة الكوارث المناخية، ما يعني غياب مفهوم التضامن الاجتماعي عن الأذهان.
علَى سبيل المثال، الأشخاص الذين يعيشون في منازل دون مكيفات يتضررون -بشكل خاص- مِن موجات الحر الشديدة، وهو ما يؤثر -سلبًا- في أجسادهم وعواطفهم؛ مما يجعلهم مرهقينَ، بل قد يعانون -أحيانًا- أعراضًا، مثل: الغثيان، والقلق، والتوتر. حيئنذٍ، سيكون من الصعب علَى مثل هؤلاء الأشخاص فعل أي شيء سوى البحث عن أي متنفس أو مكان للراحة متى استطاعوا. وعلَى النقيض، سنجد الأشخاص الذين يمتلكون مكيفات هواء أقل تأثرًا -بشكل واضح- بموجات الحر الشديد.
يمكننا تلخيص ما سبق علَى النحو الآتي، أنه إذا كان تعاملنا مع الموجات الحارة مقتصرًا علَى تشغيل مكيفات الهواء دون أنْ يغير هذا مِن سلوكياتنا اليومية، فمرحبًا بنا جميعًا في المعسكر الجديد لمنكري ظاهرة تغير المناخ وما ينتج عنها من آثار!
مع ارتفاع درجات الحرارة في العالَمِ ارتفع الطلب علَى شراء مكيفات الهواء بشكل كبير، حيث قَدَّرَتْ وكالةُ الطاقة الدولية أنه بحلول عام 2050 سيستخدم ما يقارب ثلثَا الأُسَرِ في العالَمِ مكيفات هواء، خاصةً في الدول التي تتميز بالمناخ الجاف والحار معظم أيام العامِ.
التأثير الخطير لنمطنا الاستهلاكي
هذا النمطُ الاستهلاكيُّ الذي يُحقِّقُ الراحةَ الحسية للطبقات الأعلى في المجتمع، يُعَزَّزُ بشكل منهجي في مَنَاحٍ حياتية كثيرة، بدءًا مِن العقارات، فالمجمعات السكنية، ومرورًا بوسائل النقل وأماكن الترفيه، وحتى موائد الطعام ومحلات الأزياء؛ وذلك في الوقت الذي تُهمش فيه -غالبًا- الطبقاتُ ذات الدُّخُوْلِ المنخفضة.
ولكنَّ الخيارَ المصيريَّ الذي سيتوجب علَى كل فرد مِنَّا اتخاذه هو: أيُّ الأمرينِ أهم: الحفاظ علَى رفاهية ذوينا -بشكل مؤقت- في التعامل مع الاضطرابات الموسمية، مثل الموجات الحارة؛ أم حفظهم مِن أشد الأخطار الناتجة عن تغير المناخ، مثل: الفيضانات، الجفاف، الزلازل، حرائق الغابات، وغيرها؟
إنَّ هدفنا مِن هذا الطرح ليس إلقاء اللوم علَى مَن يمتلك مكيف هواء، فالأمر أعمق وأشد تعقيدًا مِن هذا، لكننا أخذنا مِن هذا الأمر مثالًا بسيطًا، وحاولنا مِن خلاله تقريب الصورة إلى الأذهان؛ حتى نلقي الضوء علَى قضية مهمة أوسع وأشمل وأكبر، وهي قضية الأنماط الاستهلاكية المتفاوتة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، والتي تتجاهل -بشكل تامٍّ- أيَّ اعتبارٍ، سوى تحقيق أقصى مستويات الراحة، ولو بشكل غير مستدام، ضاربة بعرض حائط كل ما نسعى إليه من تحقيق تكافل وانسجام مجتمعي حقيقي.