ملف خاص

تحول الطاقة.. الركيزة الأساسية للتنمية المستدامة

تحول الطاقة

تحول الطاقة.. الركيزة الأساسية للتنمية المستدامة

كان الوقودُ الأحفوريُّ العمودَ الفقريَّ للثورات الصناعية الثلاثة الأولى، حيث فتح كثيرٌ من الاختراعات والاكتشافات والأساليب الصناعية الجديدة البابَ أمام الوقود الأحفوري، ليكون مصدرًا أساسيًّا للطاقة في أغلب القطاعات الصناعية والخدمية، ما قاد بدوره عصرًا من التقدم والتنمية في القرن الماضي لم تشهده الإنسانيةُ عبر تاريخها كله.

وعلى الرغم من الدور المحوري الذي يؤديه الوقودُ الأحفوريُّ في نهضة وتَقدم البشرية، فإنَّ هذا الدورَ لم يمنع الباحثينَ من تتبع آثار استخدام كل أنواع الوقود الأحفوري، وبحث كيف يمكن أنْ يؤثر هذا في البيئة وتوازنها الطبيعي؛ ليُسَلَّطَ الضوءُ على الجانب المظلم من استخدام الوقود الأحفوري، ولتتعالى الأصواتُ -خصوصًا في الأعوام الأخيرة- بما يُعرف بـ”تحول الطاقة – Energy Transition”.

يُقصد بتحول الطاقة الانتقالُ من الاعتماد على الوقود الأحفوري -باعتباره مصدرًا رئيسيَّا للطاقة- إلى البدائل المستدامة الصديقة للبيئة، مثل الاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وكذلك الهيدروجين الأخضر، والكتلة الحيوية.

وفي الملف الخاص لهذا العدد مِن مجلة حماة الأرض، الذي جعلناه بعنوان “تحول الطاقة.. الركيزة الأساسية للتنمية المستدامة” – نناقش معكم بشكل مفصل مفهومَ تحول الطاقة، وماذا نقصد به، وما أهميته، وكيف يمكننا تحقيقه. وسنُمهِّدُ لذلك عن طريق استعراض تاريخ استخدام الوقود الأحفوري، وما ترتب على زيادة الاعتماد عليه مِن آثارٍ ضارةٍ، خصوصًا في القرن الماضي.

إنَّ اختيارنا لموضوع “تحول الطاقة” في عدد سبتمبر من العام 2023 يأتي قبل أسابيع قليلة من انعقاد قمة المناخ “COP28” في دبي بالإمارات العربية المتحدة؛ تلك القمة التي يعول عليها كثيرون للوصول إلى اتفاقٍ يُلزِمُ جميعَ الأطراف بالتخلص التدريجي من الاعتماد على الوقود الأحفوري، على الرغم مِن أنَّ بعضَ الناسِ يرى هذه الاتفاقيةَ حلمًا يستحيل تحقيقه.

تأتي هذه القمةُ في ظل تباين شديد في الرؤى والتوجهات، وتعارض للمصالح بين معسكر الدول المنتجة للبترول والدول الأكثر استخدامًا له من ناحية، ومعسكر الدول الأكثر تأثرًا من تغيُّر المناخ من ناحية أخرى. ولعلنا نستطيع في هذا الملف الخاص أنْ نَعرِضَ على حضراتكم صورةً أكثر وضوحًا، تمكنكم من فهم المشهد العالمي الحالي مِن استخدام الطاقة، في ظل ما يعانيه العالمُ من أزمات متكررة، كانت أُخْرَاهَا الحرب الروسية – الأوكرانية.

ما الوقود الأحفوري؟

الوقود الأحفوري -كما يقترح الاسم- هو الوقود الذي تَشَكَّلَ في طبقات الأرض نتيجة تجمُّع بقايا الكائنات الحية من حيوان ونبات (الحفريات) على مَرِّ العصور، وبفعل الضغط ودرجة الحرارة وغياب الأكسجين تحللتْ هذه البقايا كيميائيًّا وحيويًّا، وأصبحتْ مُركباتٍ هيدروكربونية (تتكون من الكربون والهيدروجين بشكل أساسي)، التي يمكن حرقها لتوليد الطاقة.

يوجد الوقود الأحفوري في صور المادة الثلاثة، فنجده صلبًا في الفحم، وغازيًّا في الغاز الطبيعيِّ، وسائلًا في البترول؛ وتحظى كل دولة بنصيبها -سواء في النوع أم الكمية- مِن تراكمات أنواع الوقود الأحفوري، وبمرور الوقت ومع زيادة الاكتشافات وأعمال التنقيب أصبح لبعض الدول النصيب الأكبر من إنتاج الوقود الأحفوري، وهذا في ظل تعاظم الاعتماد العالمي على مختلف أنواع الوقود الأحفوري في شتَّى مجالات الحياة.

لقد بدأ استخدام الوقود الأحفوري -على خلاف ما قد يتصوره كثيرون- منذ عشرات القرون، حيث استخدم الإنسانُ الفحمَ مصدرًا للتدفئة والوقود في كثيرٍ من الحضارات، إلا إنَّ الاعتمادَ الكبيرَ على الوقود الأحفوري لم يبدأ -ربما- إلا في القرن التاسع عشر، تزامنًا مع النهضة الكبيرة التي شهدها العالم في القطاعينِ الصناعي والخدمي إبَّان الثورتينِ الصناعيتينِ الأولى والثانية.

ويندرج الوقود الأحفوري تحت مصادر الطاقة غير المتجددة، كما أنه مسئولٌ عما يزيد على 80% من إجمالي استخدامات الطاقة عالميًّا، هذا بخلاف أنَّ ما ينتج عن الوقود الأحفوري من مشتقات هيدروكربونية يدخل في كثير من الصناعات الحيوية المهمة، مثل: صناعة الأسمدة، وصناعة البلاستيك.

هذا الاعتمادُ العالميُّ الكبيرُ علَى الوقود الأحفوري راجعٌ إلى كونه متوفرًا على الدوام؛ إذْ يمثلُ -سواء الفحم أم البترول أم الغاز- مصدرًا عمليًّا وسهلًا للحصول على الطاقة اللازمة في شتَّى الاستخدامات، مِن وقود الطائرات والمَركبات حتى إنارةِ وتدفئة البيوت. وقد تمكَّن الوقود الأحفوري مِن أنْ يرسخَ نفسه في خلال القرنينِ الماضيينِ باعتباره محركًا رئيسيًّا في تطور العالم ونُموه.

يتميز الوقود الأحفوري -أيضًا- بمحتواه الحراري المرتفع مقارنةً بأنواع الوقود الأخرى، ونقصد بالمحتوى الحراري كميةَ الطاقةِ التي يمكن الحصول عليها من حرق كيلوجرام واحد من الوقود، كما أنه يتم حرقه بكفاءة عالية في معظم الأحيان، أضفْ إلى هذا سلاسلَ التوريدِ التي أصبحتْ أسرع وأقوى من أي وقت مضى.

ويمكننا -بناءً على ما تَقَدَّمَ- أنْ نقولَ: إنَّ البشريةَ وقَعَتْ في شِباك الوقود الأحفوري؛ إذْ علَى الرغم من كل محاولات إيجاد بدائل متجددة وصديقة للبيئة فما يزال الوقودُ الأحفوريُّ مصدرَ الطاقةِ الأكثر اعتماديةً والأوسع انتشارًا، ولكن في العقود الأخيرة تعالتِ الأصواتُ بالآثار البيئية المدمرة للاعتماد الكلي عليه، خصوصًا مع المساعي الدولية المتعلقة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تم إقرارها في عام 2015.

لماذا تكره البيئةُ الوقودَ الأحفوريَّ؟

عندما يُحرقُ الوقودُ الأحفوريُّ للحصول على الطاقة تنطلق كمياتٌ كبيرةٌ من الغازات، التي من أخطرها ثاني أكسيد الكربون، والذي يمثل النسبةَ العظمى من انبعاثات الغازات الدفيئة في الهواء. تعمل هذه الغازات كغطاء يلتف حول غلافنا الجوي، مسببةً ما يُعرف بالاحتباس الحراري، الذي يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من المعدلات الطبيعية، والذي يُطلَقُ عليه ظاهرة “تغيُّر المناخ”.

ولتقريب مصطلح تغيُّر المناخ وكيف يحدث نقول: إنَّ الشمسَ تُصدِرُ تيارًا مستمرًّا من الأشعة فوق البنفسجية قصيرة الموجة، التي تجد طريقها إلى غلاف الأرض الجوي، إلا إنَّ الغيومَ وجسيمات الغلاف الجوي تستطيع عكس نسبة صغيرة من هذه الأشعة إلى الفضاء مرَّةً أخرى، في حين أنَّ الأشعةَ الباقيةَ تخترقُ الغلافَ الجويَّ ومِنه إلى سطح الأرضِ، حيث يتم امتصاصها؛ ومِن ثَمَّ إعادة إطلاقها -بواسطة الأرض- باعتبارها إشعاعًا طويلَ الموجةِ (أشعة تحت الحمراء).

هذه الأشعة تحت الحمراء طويلة الموجة تجد في طريقها إلى الفضاء حاجزًا مكونًا من جزيئات غازات الاحتباس الحراري (الغازات الدفيئة) في الطبقة السفلى من الغلاف الجوي، حيث تمتص هذه الجزيئات موجات الأشعة تحت الحمراء، ثم تُعيد إطلاقها بشكل عشوائي، مما يعني أنَّ جزءًا كبيرًا منها يرتد إلى الأرض مرَّةً أخرى بدلًا من تصريفه إلى الفضاء؛ وبالتالي كلما زادتْ غازاتُ الاحتباس الحراري زاد الاحتِرَارُ.

ولكن ربما يتساءل بعضنا: لماذا لا تهرب غازاتُ الاحتباس الحراري هذه مِن الطبقة السفلى للغلاف الجوي (التروبوسفير)، مثل الغازات الأخرى كالأكسجين والنيتروجين، اللذينِ يهاجرانِ إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي، ثم يهرب بعضُها إلى الفضاء الخارجي؟ الإجابة هي أنَّ جزيئات غازات الاحتباس الحراري تتميز بأوزان جزيئية أعلى؛ وبالتالي تصبح حبيسةً تحت قوة الجاذبية الأرضية، ولا تستطيع الهروب إلا بمعدلات ضعيفة جدًّا، مما يعني تراكمها في الغلاف الجوي.

وفي هذا السياق، وعند الوضع في الاعتبار أنَّ الوقودَ الأحفوريَّ المسئولُ الأولُ والأكبرُ عن انبعاثات الغازات الدفيئة؛ سنستطيع أنْ نفهمَ -بسهولة- لماذا تكره البيئةُ الوقودَ الأحفوريَّ.

الإسهام المباشر للوقود الأحفوري في ظاهرة تغيُّر المناخ يعني -بالضرورة- مسئوليته عن كثيرٍ مِن الكوارث الطبيعية الخطيرة، مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، والجفاف، وحرائق الغابات، وتدهور الأراضي، وفقدان الموائل الطبيعية.

ولوضع ما سبق في صورةِ أرقامٍ، فإنَّ الأنواعَ الرئيسيةَ للوقود الأحفوري (الفحم والبترول والغاز) صاحبةُ إسهام كبير -إلى حد بعيد- في تغيُّر المناخ العالمي، حيث ينتج عن حرقها أكثر من 75% من انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًّا، كما أنها مسئولةٌ عن إطلاق نسبة تصل إلى 90% من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وهذا حسب إحصاءات الأمم المتحدة.

لذا، لن نبالغ عندما نقول: إنَّ الوقودَ الأحفوريَّ سببٌ رئيسيٌّ في المحنة البيئية والمناخية التي يعشيها كوكبُ الأرضِ في العقود الأخيرة، كما أنَّ التخلصَ التدريجيَّ منه ضروريٌّ للحفاظ على أنظمتنا البيئية، وضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر.

الجانبُ الآخرُ الذي يغفله كثيرون عند مناقشة تأثيرات الوقود الأحفوري في البيئة، هو عملية استخراج الوقود الأحفوري نفسها، فكما أنَّ عمليةَ حرقِ الأنواع المختلفة لهذا الوقود تطلق الغازات الدفيئة فإنَّ عمليةَ استخراجه تمثل مشكلةً بيئيةً خطيرةً، ولعل كثيرًا مِن الكوارث الناتجة عن عمليات استخراج البترول -كان مِن أبرزها في العقدينِ الماضيينِ كارثة “ديب واتر هورايزن” البيئية في خليج المكسيك- ما تزال حاضرةً في الأذهان إلى الآن.

قد يؤدي التنقيبُ عن النفط -أيضًا- إلى اضطراب النظم البيئية، سواء البرية منها أم البحرية، حيث إنَّ التقنيات المستخدمة للتنقيب عن البترول والغاز في قاع المحيط غالبًا ما يكون لها تأثير مُضِرٌّ في الأسماك والثدييات البحرية، في حين أنَّ حَفْرَ آبار النفط في البَرِّ يتطلب -عادةً- تطهيرَ منطقةِ التنقيب من غطائها النباتي.

الطاقة النظيفة والمتجددة

الوعي المتزايد بأخطار الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري وما له من آثار بيئية مدمرة -كما شرحنا- فتح البابَ أمام أنواع كثيرة من الطاقة النظيفة، باعتبارها خيارًا أكثر نظافةً يمكن الاعتماد عليه تدريجيًّا، ولعل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أشهر هذه الأنواع.

تشمل الطاقةُ النظيفةُ شريحةً عريضةً من أنواع الطاقة، إلا إنَّ هذه الأنواع تشترك جميعها في شيءٍ واحدٍ هو الآثارُ البيئيةُ الأقل حدةً من الوقود الأحفوري، وقد بَرَزَ من بينها في السنوات الأخيرة أنواعٌ عِدة، مثل: الطاقة الشمسية – طاقة الرياح – الهيدروجين الأخضر – الوقود الحيوي.

تعمل أنواعُ الطاقة النظيفة والمتجددة على توفير احتياجات الطاقة في مختلف القطاعات والصناعات، إمَّا عن طريق توليد الكهرباء وإمَّا عن طريق الحرق النظيف للوقود الأخضر؛ وبالتالي خفض انبعاثات الغازات الدفيئة -خصوصًا ثاني أكسيد الكربون- بشكل كبير جدًّا، والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري.

تُقدم الطاقةُ المتجددةُ -على وجه الخصوص- نفسها بديلًا صديقًا ومستدامًا للوقود الأحفوري، ونناقش فيما يأتي أبرزَ أنواعِ الطاقة النظيفة والمتجددة.

1- الطاقة الشمسية

الفكرة في استخدام الطاقة الشمسية هي تحويل الإشعاع الشمسي إلى كهرباء يمكن تخزينها والاستفادة منها، وهذا عن طريق استخدام ألواح الطاقة الشمسية. وهذه التقنية قد حظيت بقدر كبير من الاهتمام والبحث والتطوير في خلال العقدينِ الماضيينِ.

تشمل مميزاتُ الطاقة الشمسية انخفاضَ الحاجَةِ إلى الصيانة، وتعدد الاستخدامات والتطبيقات، وعدم الحاجَة إلى أي نوعٍ آخرَ من أنواع الطاقة لتشغيل المحطات؛ إلا إنَّ لها عيوبًا معتبرةً، مثل: التكلفة المرتفعة للإنشاء وبداية التشغيل، واستلزامها مساحات كبيرة من الأراضي لتشغيل المحطات العملاقة، كما أنَّ لها آثارًا بيئيةً سلبيةً تخص عمليات تصنيع الخلايا الشمسية نفسها، أضفْ إلى هذا محدوديةَ إعادةِ تدوير هذه الخلايا.

2- طاقة الرياح

تعتمد طاقة الرياح على تحويل الطاقة الحركية إلى كهرباء، وهو أمرٌ أصبح ممكنًا باستخدام طواحين الرياح، التي تعمل على استغلال سرعة الهواء لتحريك شفراتها المتصلة بمولد كهربائي يقوم بإنتاج الطاقة.

تُعتبر طاقةُ الرياحِ طاقةً واعدةً وأكثر أنواع الطاقة المتجددة نظافةً، كما أنها لا تستغل مساحات شاسعة من الأراضي مثل الطاقة الشمسية؛ لكن يمكن أنْ تُشكل طواحينُ الرياحِ خطرًا على بعض أنواع الطيور المهاجرة، هذا بخلاف ما ينتج عن تشغيلها من تلوث ضوضائي، فضلًا عن تكاليف الإنشاء، والاعتماد على الرياح لتوليد الطاقة؛ حيث: “لا رياح لا طاقة”.

3- الطاقة الأرضية

الطاقة الأرضية التي تُعرف أيضًا باسم الطاقة الحرارية الجوفية (Geothermal Energy)، هي أحد المصادر النظيفة والمتجددة، التي تعتمد على درجات الحرارة الكبيرة الموجودة -بشكل طبيعي- في باطن الأرض، حيث يمكن تشغيل أنظمة تقوم باستغلال هذه الحرارة لتوليد البخار؛ ومِن ثَمَّ يقوم هذا البخارُ بتدوير توربينة متصلة بمولد لتوليد الكهرباء.

الطاقة الأرضية مصدرٌ متجددُ وواعدُ، يمكنه أنْ يغطي كل احتياجات كوكبنا من الطاقة لآلاف السنين، إلا إنه -كغيره- يحمل مجموعةَ عيوبٍ، مِن أبرزها الانتقائية في اختيار المكان، فليستْ بقاعُ الأرضِ كلها مناسبةً لتوليد الطاقة الأرضية. أضفْ إلى هذا ما ينتج عن عمليات الحفر من تصاعد الغازات الأرضية المحبوسة، وتحفيز الزلازل، وأخيرًا التكلفة الكبيرة لإنشاء المحطات.

4- الطاقة الحيوية

نقصد بالطاقة الحيوية الطاقةَ التي تولدت أو أُنتجت من الكتلة الحيوية، ونقصد بالكتلة الحيوية كلَّ الموادِّ العضويةِ التي خزنت في طياتها الإشعاع الشمسي في صورة طاقة كيميائية، مثل الأخشاب وبعض المحاصيل، كالذرة وفول الصويا وقصب السكر، والمخلفات الزراعية، وروث الماشية، وغيرها من الصور التي يمكن توليد الطاقة منها. يمكن أيضًا تحويل الكتلة الحيوية هذه إلى أشكالٍ أخرى من الطاقة، مثل غاز الميثان والديزل الحيوي.

الطاقة الحيوية -يطلق عليها أيضًا الوقود الحيوي- تُعتبرُ -بالطبع- أحد مصادر الطاقة المتجددة الرئيسية، إلا إنها في حال زيادة الاعتماد عليها يمكن أنْ تُشكل خطرًا على الرقعة الزراعية، وهذا نتيجة زراعة أنواع محاصيل محددة باستمرار؛ وبالتالي تتدهور التربةُ. يمكنها أنْ تؤدي -أيضًا- إلى تهديد الأمن الغذائي العالمي؛ بسبب اعتمادها على بعض المحاصيل لإنتاج الطاقة، مثل الذرة وفول الصويا لإنتاج الطاقة، هذا بخلاف بصمتها البيئية المعتبرة؛ بسبب استهلاك كميات كبيرة من المياه والأسمدة.

5- الطاقة المائية

يمكن توليد هذا النوع من الطاقة عن طريق استغلال حركة المياه في تحريك توربينات متصلة بمولدات كهربائية، كما هي الحال في السدود التي تُبنى فوق الأنهار، التي يكون الغرضُ منها -عادةً- توليدَ الكهرباءِ باستخدام طاقة حركة تدفق المياه، وفي بعض الأحيان تكون عن طريق استغلال طاقة الوضع للمياه، حيث يتم رفعها باستخدام مضخات إلى مستوى معين، ثُمَّ إنزالها على توربينات متصلة بمولدات كهربائية لتوليد الكهرباء.

تكمن عقبةُ زيادةِ الاعتماد على الطاقة المائية في تكلفة إنشاء -وهي تكلفة باهظة- محطاتها، بالإضافة إلى الاعتماد على توافر مصادر مياه مناسبة لتوليد الطاقة، فضلًا عن أنَّ توليدَ الطاقةِ محدودٌ بخصائص تدفق المياه في كل منطقة.

6- الهيدروجين الأخضر

يحظى الهيدروجين الأخضر باهتمام كبير؛ لمَا يمكن أنْ يمثله من مصدر نظيف للطاقة، حيث إنَّ عمليةَ احتراقه نظيفةٌ جدًّا ولا ينتج عنها سوى بخار الماء والأكسجين، كما أنَّ جهودَ البحث والتطوير الكبيرة في هذا المجال قد فتحتِ الأبوابَ أمام إنتاج الهيدروجين الأخضر من مصادر مثل مياه البحار، وهو ما قد يمثل مصدرًا لا نهائيًّا للطاقة النظيفة في مختلف التطبيقات.

العقبة الحالية أمام الاعتماد على الهيدروجين الأخضر هي أنَّ عمليةَ إنتاجه -في حد ذاتها- تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، كما أنَّ خلايا التحليل الكهربائي المستخدمة في إنتاج الهيدروجين من الماء لا تتمتع بالكفاءة المطلوبة حتى الآن، هذا بخلاف محدودية سعتها الإنتاجية في الوقت الحالي.

التأثير السلبي لتحول الطاقة

الشهرة الواسعة التي تحظى بها مصادرُ الطاقة المتجددة والنظيفة باعتبارها مُخَلِّصَ البشرية ومُنقذَهَا مِن أنياب الوقود الأحفوري – جعلتْ كثيرينَ في غفلةٍ مِن التأثير البيئي الذي سينتج عن “تحول الطاقة” نتيجة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، التي ذكرنا بعضًا منها في العنوان السابق.

في عدد يناير لهذا العامِ سلَّطنا الضوءَ على دراسة نُشرت في نوفمبر الماضي في مجلة “Proceedings of the National Academy of Sciences”، لتناقش الآثار البيئية الناتجة عن عملية تحول الطاقة؛ تلك الدراسة الفريدة التي سلَّطتِ الضوءَ على جانبٍ مهمٍّ ومنسيٍّ، هو التأثير البيئي السلبي للاعتماد على أنواع الطاقة النظيفة على نطاق واسع.

يجب أنْ ندرك أنَّ عمليةَ تحول الطاقة -في حذا ذاتها- سيتولد عنها انبعاثات كربونية ضخمة، حيث إنَّ عمليات إنشاء طواحين الرياح ومحطات الطاقة الشمسية والبنية التحتية الجديدة الأخرى كلها عمليات تستهلك الطاقة، التي سيأتي جزء كبير منها -بالضرورة- مِن الوقود الأحفوري الذي نسعى إلى التخلص منه.

ولكنَّ الخبرَ السَّارَّ هنا، أنه إذا أمكن وضع هذه البنية التحتية الجديدة لمصادر الطاقة المتجددةِ في العمل بشكلٍ سريع فإنَّ هذه الانبعاثات ستنخفض بشكل كبير؛ لأنَّ توليدَ المزيد من الطاقة المتجددة في وقتٍ مبكر سيعني وقودًا أُحفوريًّا أقل بكثير لاستكمال عملية تحول الطاقة.

يُقدر الباحثون أنَّ عمليةَ التحوُّلِ الأخضرِ ستنتج 185 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2100، وهذا وحده يعادل خمسَ أو سِتَّ سنوات من الانبعاثات العالمية الحالية، وهو عِبْءٌ ثقيلٌ جدًّا على الغلاف الجوي الذي يعاني بالفعل.

علاوةً على ذلك، يشير الباحثون إلى أنَّ جميعَ تقديراتهم ربما تكون منخفضةً جدًّا؛ لأنَّهم لا يأخذون في الحسبان الموادَّ الخامَّ اللازمةَ، ولا آليات البناء المطلوبة لعملِ خُطوط نقل الكهرباء الجديدة، ولا البطاريات العملاقة التي ستُستخدم لتخزين الكهرباء في محطات الطاقة المتجددة.

بالإضافة إلى ما سبق، لم يتم حساب التأثير البيئي لاستبدال المَركبات الحالية التي تعمل بالبنزين والسولار بأخرى كهربائية، أو جعل المباني القائمة أكثر كفاءةً في استخدام الطاقة؛ فكلها عملياتٌ تستهلكُ المواردَ، والطاقةَ أيضًا.

لذا، يمكننا القول: إنه من الصعب تحديد جميع الآثار السلبية التي ستنتج عن تحول الطاقة، ولكن الرؤية الموضوعية للأمر تشير إلى أنَّ هذه الآثار ستكون كبيرةً؛ لأنَّ التحوُّلَ إلى المواردِ المتجددة من الطاقةِ يتطلب عددًا كبيرًا من المُعدات والأجهزة الجديدة عالية التقنية، التي ستطلب كميات هائلة من المعادن الأساسية، بما في هذا النحاس والحديد والنيكل، كما سيزيد الطلب على عناصر نادرة كانت أقل استخدامًا في السابق، مثل: الليثيوم، الكوبالت، الإيتريوم، النيوديميوم.

مِن المحتمل أنْ يُؤتى بالعديد من هذه المواد الخام سابقة الذكر مِن أماكنَ ذات بيئاتٍ هَشَّةٍ، لم تصل إليها يَدُ الإنسانِ بعدُ، بما في هذا أعماق البحار، والغابات الإفريقية، ومنطقة جرينلاند سريعة الذوبان. ستستهلك الألواحُ الشمسيةُ وتوربيناتُ الرياحِ -بشكلٍ مباشرٍ- مساحاتٍ شاسعةً من الأراضي، مع ما يصاحب ذلك من تأثيرات سلبية محتملة في النظم البيئية.

إنَّ عمليةَ التحوُّلِ الأخضرِ (تحول الطاقة) قد لا تكون خضراءَ في حد ذاتها، فعلى الرغم من حتمية تحول الطاقة لأجل خفض الانبعاثات والحد من الاحترارِ العالمي، فإنَّ تنفيذَ هذا التحول بشكل بطيء سيكون له أثر كبير في معدلات الانبعاثات المتولدة في خلال المراحل المختلفة للتحول؛ لذا من المهم تبني سياسات تُسرع مِنْ عملية التحول الأخضر، ودراسة الآثارِ البيئية بشكل عميق؛ للحد من أي ضرر يلحق بالبيئة.

عوائق تحول الطاقة

إنَّ للأنواعِ البارزةِ من الطاقة المتجددة والنظيفة -وهو ما شرحناه في السطور الماضية- عيوبًا، تلك العيوب تمثل عائقًا أمام الاعتماد على أي نوع بشكل كامل، ما بين التكلفة المرتفعة، والظروف الجغرافية والزمانية، والحدود التقنية والمعرفية؛ فما يزال الطريقُ طويلًا حتى يمكن الاعتماد -بشكل كامل- على الطاقة المتجددة والنظيفة.

حقيقة الأمر، هي أنَّ الوقودَ الأحفوريَّ يوفر الخيارات الأرخص لتلبية احتياجات الطاقة في الوقت الحالي، خصوصًا الأنواع الأكثر تلويثًا منه كالفحم، كما أنَّ البنيةَ التحتيةَ لاستخراج وتكرير ومعالجة ونقل الوقود الأحفوري متطورةٌ في معظم البلدان المنتجة والمستخدمة له؛ وبالتالي لا توجد حاجَةٌ إلى توفير استثمارات ضخمة لإنشاء وتطوير هذه البنية التحتية، على عكس بدائل الطاقة المتجددة والنظيفة، التي تحتاج إلى استثمارات ضخمة للتوسع في بنيتها التحتية.

وعلى النقيض من الطاقة المتجددة، فإنَّ الوقودَ الأحفوريَّ متوفرٌ على الدوام، ولا يتقيد بالحدود الزمانية ولا المكانية؛ فالبترول المستخرج من دولة مثل السعودية يمكن نقله في أي وقت ليُستخدم في الصين، في حين أنه لا يمكن تطبيق الأمر ذاته على الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح مثلًا، حيث يرتبط توليدُ أنواع الطاقة المتجددة بالطبيعة الجغرافية والظروف المناخية لكل مكان.

كل ما سبق يمكن أنْ يصبح في طي النسيان بمرور الزمن؛ فتحول الطاقة شأنه شأن العديد من التقنيات التي ظهرت سابقًا، حيث بدأَ كثيرٌ منها على نطاقٍ محدودٍ، وواجه عقبات وتحديات عديدة، إلَّا إنَّ هذه التقنيات أصبحتْ -مِن خلال البحث والتطوير- ركنًا أساسيًّا في حياتنا اليومية؛ ولكنَّ العائقَ الأكبرَ في طريق البشرية نحو تحول الطاقة هو البشر أنفسهم.

لِفَهْمِ المشهدِ تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ صناعةَ الوقودِ الأحفوريِّ أضخم صناعة -ربما- على وجه الأرض، مع استثمارات تبلغ مئات المليارات مِن الدولارات، وشركات عملاقة ذات نفوذ اقتصادي وسياسي، ودول يمثل لها الوقود الأحفوري الدجاجة التي تبيض ذهبًا.

يجب أنْ نَعِيَ أيضًا أنَّ صناعةَ الوقودِ الأحفوريِّ لا تتوقف حدودها عند بيع الطاقة فقط -تتمثل هذه الطاقة في البترول والفحم والغاز- وإنما تشمل صناعة البتروكيماويات، والبلاستيك، والألياف، والنسيج، والكاوتش، والأسمدة، وغيرها. وجميعها صناعات لا يمكن استبدال الوقود الأحفوري الداخل فيها بأي بدائل أخرى.

هذا الواقع قد خلق مع الوقت كيانات وتحالفات إقليمية ودولية تدعم هذه الصناعة وتنافح عنها بكل قوة. وأصبح لهذه الكيانات -أيضًا- حضور وتأثير في المحافل والقِمم العالمية، حتى تلك المعنية بالبيئة مثل قِمم المناخ “COP”؛ وبالتالي أَمْسَتْ جزءًا أصيلًا من صناعة القرار العالمي، وهو الأمر الذي يفسر عدم تبني أي اتفاقية ملزمة للحد من الوقود الأحفوري حتى يومنا هذا.

علاوةً على ما تقدم، تأبى الدولُ الصناعيةُ العملاقةُ -المسئولةُ عن أغلب انبعاثات الغازات الدفيئة كأمريكا والصين- أنْ تكون طرفًا في أي اتفاق ملزِم يخص الحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري؛ لضمان ازدهار قطاعاتها الصناعية بما يحقق الأجندة الوطنية لكل بلد منها، وهذا -بكل تأكيد- تحدٍّ كبير؛ نظرًا إلى التأثير السياسي الهائل لهذه الدول الصناعية الكبيرة.

لذا، يُعتبر المزجُ والموازنةُ بين الوقود الأحفوري وبدائل الطاقة المتجددة والنظيفة أمرًا محوريًّا للوصول إلى أرضية مشتركة يمكننا العمل عليها معًا؛ لوضع أهداف منطقية وقابلة للقياس والتحقيق.

التحول التدريجي والمتزن

تحول الطاقة بلا شك هو الركيزة الأساسية للتنمية المستدامة؛ لمَا يحمله من تأثيراتٍ واسعة المدَى يمكنها الإسهام في تحقيق مختلف أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وحتى لا يصبح تحقيقُ تحول الطاقة حلمًا أفلاطونيًّا نسعى وراءه ولا ندركه يجب أنْ يكون تحولًا تدريجيًّا ومتزنًا.

نقطة الانطلاق هنا يجب أنْ تنشأ عن وعي كامل بأنَّ الوقودَ الأحفوريَّ موجودٌ ويُعتمد عليه حاليًّا، وربما ستظل الحالُ هكذا حتى عقودٍ طويلةٍ قادمةٍ. ولكن ماذا يمكننا أنْ نفعل للحد من هذا بشكل يراعي الجوانب العملية، والاقتصادية، والسياسية، والجغرافية؟ ولعل هذا هو السؤال الذي يجب أنْ نشترك جميعًا في الإجابة عنه.

التحول التدريجي والمتزن للاعتماد على بدائل الطاقة المتجددة والتخلي عن الوقود الأحفوري يمكن تقسيمه إلى أربعة محاور رئيسية، وهي المحاور التي أشارتْ إليها الأمم المتحدة، باعتبارها المَحَاوِرَ الأهمَّ لبدء الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة.

1- طاقة نظيفة للجميع

في الوقت الحالي يُنظرُ إلى بدائل الطاقة المتجددة باعتبارها خيارًا حصريًّا للأغنياء، سواء على مستوى الحكومات أم الأفراد؛ وبالتالي نحتاج إلى نشر الوعي والمعرفة بكل ما يتعلق بتقنيات الطاقة المتجددة، وجعل هذه المعرفة متاحةً للجميع، مع إزالة القيود المتعلقة بالملكية الفكرية.

إذا تحقق هذا ستصبح التقنياتُ الأساسيةُ الخاصةُ بوحدات تخزين الطاقة -وصناعة البطاريات لأنظمة الطاقة المتجددة- متاحةً للأفراد والشركات في مختلف دول العالم؛ وبالتالي تصبح المحطاتُ أكثر ذكاءً وكفاءةً، مما سيتيح الاعتماد عليها بشكل أكبر مع مرور الوقت.

2- توفير المواد الخام

تحتاج تقنيات الطاقة المتجددة -بكل تأكيد- إلى كميات كبيرة من مختلف المواد الخام، وخصوصًا المعادن؛ فهذه الأخيرة تمثل عنصرًا أساسيًّا وضروريًّا في دعم صناعة الطاقة المتجددة، مثل ألواح الطاقة الشمسية وطواحين الرياح وغيرهما؛ لذا يعتبر توفير الموارد اللازمة أمرًا حاسمًا في طريقنا نحو تحول الطاقة.

ولكن يتميز كلُّ بلد -كما نعلم- بثرواتٍ من مواد خام محددة، مما يعني وجود حاجَةٍ أساسية إلى التنسيق على مستوى عالمي لتوزيع الاستثمارات بشكل عادلٍ في مختلف الدول؛ لاستخراج هذه المواد الخام بشكل قانوني وإنساني، وكذلك توزيع التمويل الخاص بالبنية التحتية للطاقة المتجددة، ودعم البحث والتطوير والتدريب، وبناء سلاسل التوريد اللازمة.

3- التبني المحلي

إنَّ الاكتفاءَ بالتنسيق بين الدول فيما يخص استخراج المواد الخام وتوزيع الاستثمارات لن يكفي، فَدُونَ وجودِ إطارٍ تشريعيٍّ محليٍّ في كل بلد يشجع صناعة الطاقة المتجددة، فإنَّ الجهودَ العالميةَ الجماعيةَ قد لا تُؤتي ثمارها في بلدان كثيرة.

تشمل إجراءاتُ التبني المحلي للطاقة المتجددة سَنَّ التشريعاتِ التي تُسرعُ وتُيَسِّرُ عمليةَ استخراجِ التصريحات الخاصة بمشروعات الطاقة المتجددة، وتخصيص الأراضي اللازمة لهذه المشروعات بأسعار تنافسية، مع وجود إطار زمني وطني يحدد الأهداف لكل بلد فيما يخص التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري.

4- توفير الدعم المالي

كل ما سبق لن يكون له معنى في حال لم يتوافر الدعم الكافي لتسريع وتيرة تحول الطاقة، وهو الدعم الذي تلقته -وما تزال- صناعة الوقود الأحفوري؛ فقد أُنفِقَ حوالي 5.9 تريليون دولار -حسب إحصاءات صندوق النقد الدولي- لدعم صناعة الوقود الأحفوري في عام 2020 فقط، وهذا في صورة إعفاءات ضريبية أو ضخ استثمارات جديدة.

هذا الدعم الضخم الذي تتلقاه صناعة الوقود الأحفوري يجب أنْ يتحول تدريجيًّا إلى الطاقة المتجددة والنظيفة، خصوصًا في المجتمعات الأكثر ضعفًا وفقرًا حول العالم، حيث تشير الدراساتُ إلى أنه يجب توفير ما لا يقل عن 4 تريليون دولار سنويًّا لدعم تحول الطاقة حتى عام 2030؛ وهذا لنتمكن من تحقيق هدف صفر انبعاثات بحلول عام 2050.

الجانب المنسي هنا هو أنَّ الاستثمارَ في دعم صناعة الطاقة المتجددة عبارة عن استثمار ثنائي التأثير، فمن ناحية له إسهام في تلبية احتياجاتنا الأساسية من الطاقة بدلًا من الوقود الأحفوري، ومن ناحية أخرى له إسهام في الحد من الفاتورة البيئية الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري، التي تكلف العالم ما يزيد على 4 تريليون دولار سنويًّا.

تحول الطاقة وقمة دبي

أعلنتْ دولةُ الإمارات في يناير الماضي عن تعيين سلطان الجابر “وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة” رئيسًا لمؤتمرِ الأطراف الثامن والعشرين، ولكن المفارقة هنا هي أنَّ الجابرَ يشغلُ -أيضًا- منصبَ الرئيس التنفيذي في شركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك)، كبرى منتجِي النفط في البلاد، وصاحبة المرتبة الثانية عشرة عالميًّا، وهو الأمر الذي أثار جدلًا واسعًا وتساؤلاتٍ عديدةً بين نشطاء المناخ.

ولكن ربما يجادل بعضٌ في أنَّ هذه الخطوةَ كانتِ الحلقةَ المفقودةَ في قمم المناخ الماضية؛ فوجود شخص يدرك متطلبات الطاقة الحالية التي يتم تلبيتها بواسطة الوقود الأحفوري والرؤى المستقبلية التي تعمل على التخلص منه – ربما سيمثل رمانةَ الميزانِ التي تستطيع أنْ تجمعَ العالم على اتفاقية تاريخية للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، ولعل الأيام القادمة ستثبت صحةَ هذه النظرية مِن عدمها.

إنَّ تصريحات سلطان الجابر -مع مسئولينَ إماراتيينَ آخرينَ- في خلال الأشهر الماضية كشفتْ عن استراتيجية جديدة أكثر جرأةً من ذي قبل في التعامل مع قضية تغيُّر المناخ والحد من الوقود الأحفوري؛ هذه الاستراتيجية تعمل على استيعاب شركات الوقود الأحفوري حول العالم، والتعامل معها باعتبارها لاعبًا رئيسيًّا يملك أوراقَ اللعبِ كلها في يده.

والفكرة هنا، هي أنَّ هذه الشركات مثلما هي مسئول أول عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري فإنها ستكون -ربما- أفضل مَن يقترح حلولًا عمليةً ومنطقيةً تحدُّ من الوقود الأحفوري بشكل قابل للتطبيق، ويوازن بين المصالح البيئية والمصالح الاقتصادية والتنموية؛ وهذا بفضل خبراتها الواسعة ومعرفتها التقنية الكبيرة.

ولعل هذه الاستراتيجية بالنسبة إلى كثيرينَ تمثل مقامرةً لا يمكن التنبؤ بنتائجها، ولكن ماذا لو نجحت هذه الاستراتيجية؟ ماذا لو استطعنا التوفيق بين معسكر الوقود الأحفوري ومعسكر المناخ في صورة اتفاقية عالمية تضمن تحقيق أهداف قابلة للقياس، للحصول على نتائج واضحة في خلال إطار زمني محدد؟

تأتي هذه القمة في ظل حراك عالمي إيجابي بفضل ما حققته قمة شرم الشيخ -COP27- في نوفمبر الماضي، فبعد الوصول إلى اتفاق تاريخي بخصوص صندوق الخسائر والأضرار، تتجه الأنظارُ إلى قمة دبي -COP28- لأجل الوصول إلى اتفاق تاريخيٍّ آخرَ؛ للحد من استخدام الوقود الأحفوري.

المشكلة الكبرى هنا -التي يلمسها كلُّ مَن له أي دراية بالعمل المناخي والسياسي- هي “المصداقية”؛ فحتى لو افترضنا توافق الأطراف في قمة دبي على اتفاق للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري فمَنْ يضمن تطبيقه؟ وهذا قياسًا على ما تعهَّدتْ به الدولُ الغنيةُ في قمة كوبنهاجن -COP15- بتقديم 100 مليار دولار إلى الدول النامية؛ لتمويل العمل المناخي بحلول عام 2020، وهو التعهد الذي لم يتم الوفاء به حتى اليوم!

خاتمة الملف الخاص

كما هي عادتنا في مناقشة وطرح الموضوعات الأكثر أهميةً، فقد حاولنا في الملف الخاص في هذا العدد تسليط الضوء على واحدة من القضايا الأساسية للتنمية المستدامة، ألا وهي “تحول الطاقة”، وهذا بنظرة موضوعية تدرك الأبعادَ البيئيةَ وغير البيئيةِ.

لا يمكن أبدًا أنْ نشكك في أنَّ تحولَ الطاقةِ سلاحٌ يُعَوَّلُ عليه في حربنا ضد تغيُّر المناخ، إلا إنَّ المشكلات الموجودة في كل أنواع الطاقة المتجددة والنظيفة تجعل من تحول الطاقة حلًّا غير كافٍ؛ وبالتالي -وحتى نتمكن من تطوير هذه الأنواع من الطاقة النظيفة للتغلب على عيوبها- يجب أنْ يكون تحولُ الطاقةِ جزءًا من الحل وليس الحل كله، على الأقل في الوقت الحالي.

الوقود الأحفوري ليس وحده الملام هنا، فكما أنه سبب رئيسي فيما نعانيه من احتباس حراري كان أيضًا -وما يزال- محركًا رئيسيًّا في نمو العالم عبر قرنينِ من الزمان؛ لذا فإنَّ خُططَ التخلصِ منه يجب أنْ تدرك بشكل شمولي تأثيرَ الوقودِ الأحفوريِّ الإيجابيِّ قبل السلبيِّ، وهذا حتى نضمنَ تحولًا سَلِسًا للطاقةِ، يحقق الأهدافَ المناخيةَ والتنمويةَ في الوقت نفسه.

على جانبٍ آخرَ، يجب أنْ تدرك مجموعاتُ دعمِ الوقود الأحفوري -سواء الشركات أم الحكومات- أنَّ هذا النوعَ من الوقود غير متجدد، بمعنى آخر سيأتي اليوم الذي ستنفد فيه جميعُ احتياطياته؛ لذا فإنَّ البحثَ عن الخيارات المتجددة والاعتمادَ عليها بشكل تدريجي سيضمن تحقيق تنمية مستدامة حتى قرون قادمة.

يجب أنْ تَعِيَ جميعُ الأطرافِ حول العالم أنَّ المستقبلَ للطاقة المتجددة والنظيفة، والعمل الآن على تطوير هذه التقنيات المستدامة سيكون له بالغ الأثر في تحديد خريطة القوى العظمى مستقبلًا، فمَنْ يمتلك تكنولوجيا الطاقة المتجددة الأكثر تقدمًا سيكون -بلا شك- ذا تأثيرٍ عالمي أوسع، خصوصًا مع تعاظم التأثيرات السلبية لتغيُّر المناخ.

إنَّ تحقيقَ تحول الطاقة يحتاج إلى تعاون على مستوى دولي، تعاون يدرك التأثيرات الأعمق -وهي تأثيرات عابرة للحدود الزمانية والمكانية- لاستخدام الوقود الأحفوري؛ ومِن ثَمَّ يعمل بشكل صادق على الحد من استخدامه تدريجيًّا.

أمرٌ آخرُ يجب علينا ألَّا نتغافل عنه، هو أنَّ تحولَ الطاقةِ نفسه يحمل حزمةً من التأثيرات السلبية التي يجب وضعها في الحسبان، وهذا لتقييم التأثير البيئي الناتج عن هذا التحول بشكل دقيق وموضوعي، والحد من هذه الآثار السلبية قدر الإمكان.

ولتلخيص كل ما سبق نقول: إنَّ تغيُّرَ المناخِ حقيقةٌ واقعةٌ، والاعتمادَ على الوقود الأحفوري سببٌ رئيسيٌّ في هذه الحقيقة، وإنْ لم نتحرك بشكل فوري وعاجل يبقَ مستقبلُ العالم مهدَّدًا ومحلَّ شكٍّ.

وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أنَّ للوقودِ الأحفوريِّ مَنْ يحميه مِنْ شركات وحكومات تعمل بكل ما أوتيت من قوة؛ كي يبقى الاعتمادُ على هذه الصناعة دون غيرها؛ لذا علينا جميعًا -على مختلف المستويات- أنْ نعملَ على حماية مناخنا وأنظمتنا البيئية.. آنَ الأوانُ ليكون لهذه الأرض مَنْ يحميها.. آنَ الأوانُ لنصبح حُماةَ الأرضِ!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى