سياسة التسمية والتشهير وإطار الشفافية المعزِّز لاتفاقية باريس
سياسة التسمية والتشهير وإطار الشفافية المعزِّز لاتفاقية باريس
لا شكَّ في أنَّ التطبيقَ الفعليَّ للاتفاقيات يُعتبر أكبر التحديات التي تواجه التعاون الدولي بشأن التخفيف من تغيُّر المناخ، فإننا نجدُ -على سبيل المثال- أنَّ اتفاقيةً مهمةً ومصيريةً مثل اتفاقية باريس لا تتضمن آليةَ تنفيذٍ رسمية، تفرض على الدول الأطراف تنفيذها، وبدلًا من ذلك فإنَّ الاتفاقيةَ تعتمد على مبدأ الشفافية، والذي يتم من خلاله الإعلان عن الدول التي تفشل في الوفاء بالتزاماتها؛ وبالتالي إحراجها أمام الرأي العامِّ الدولي، ودفعها إلى تغيير استراتيجيتها، وهو ما يُشار إليه -اصطلاحًا- بآلية التسمية والتشهير – Naming and shaming.
ففي دراسة جديدة أجْرَتْهَا كليةُ السياسة والاستراتيجية العالمية (GPS) بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو أشارتْ إلى أنَّ آليةَ التسمية والتشهير هذه من الممكن أنْ تُشكل حافزًا فعَّالًا للعديد من البلدان؛ لأجل الوفاء بتعهداتها المناخية المتعلقة بخفض الانبعاثات، والتحول إلى الطاقة النظيفة، تحقيقًا لأهداف التنمية المستدامة.
الدراسةُ حملتْ عنوانَ: “التسمية والتشهير باعتبارهما استراتيجيةً لإنفاذ اتفاقية باريس: دور المؤسسات السياسية والاهتمام العام”، وقد نُشرتْ في أحد إصدارات الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)؛ لتقييم عملية هذه الآلية المتضمَّنة في اتفاقية باريس لعامِ 2015، من خلال إطار الشفافية المعزِّز للاتفاقية (ETF).
ما إطارُ الشفافية المعزِّز؟
كانتْ اتفاقيةُ باريس نقطةَ تحولٍ في السياسة الدولية للمناخ، وهي نقطة نُوقِشَتْ بدايةً في مؤتمر تغيُّر المناخ في كوبنهاجن عام 2009.
الاتفاقية لا تُحدد أهدافًا عالميةً طموحةً فحسب -مثل الحد من ارتفاع متوسط درجة حرارة الأرض إلى أقل من درجتينِ مئويتينِ، مقارنةً بمستويات ما قبل الثورة الصناعة- وإنما توفر إطارَ عملٍ ونموذجًا سياسيًّا يمنحانِ الدولَ حريةً كبيرةً في تحديد أهدافها المتعلقة بتغيُّر المناخ.
ولكن المشكلة هنا، هي أنَّ تحقيقَ هذه الأهداف ليس ملزِمًا؛ لذا تم دمج بنية مبتكرة تشتمل على آليات المراجعة والشفافية الدولية في الاتفاقية، لضمان تنفيذ الأهداف والغايات التي حددتها كل دولة. ويُعَدُّ إطارُ الشفافية المعزِّز عنصرًا أساسيًّا في تلك البنية.
يُعتبر إطارُ الشفافية المعزِّز للعمل والدعم عنصرًا أساسيًّا في تصميم وتطبيق ومصداقية اتفاقية باريس. يحدد الإطارُ كيفيةَ تقديم الأطراف في الاتفاقية التقاريرَ التي توضح التقدم المحرَز في التخفيف من تغيُّر المناخ، وتدابير التكيف والدعم المقدَّمة أو المتلقاة، كما ينص الإطارُ على الإجراءات الدولية لمراجعة وتقييم تلك التقارير.
وفي ضوء ما سبق، اكتسب إطارُ الشفافية المعزِّز أهميةً كبيرةً؛ فبموجبه يكون على الأطراف تقديم تقارير منتظمة عن التقدم الذي تحرزه في تنفيذ الأهداف التي حَدَّدَهَا كلُّ بلدٍ علَى المستوى الوطنيِّ، وتخضع هذه التقاريرُ لمراجعة خبراء دوليينَ.
لذا، فإطار الشفافية يخلق أساسَ الرأي العامِّ العالمي لتسمية الدول التي تخلَّفَتْ عن الوفاء بوعودها، والتشهير بها (إدانتها)، وهذا الإجراء المعروف باسم “التسمية والتشهير” يمكن أنْ يعوض غيابَ بنودٍ ملزِمة في الاتفاقية تخص تحقيق أهداف بعينها؛ لهذا يُعَدُّ إطارُ الشفافية المعزِّز ركيزةً أساسيةً في اتفاقية باريس.
ضمان فاعلية اتفاقية باريس
كما أوضحنا، يتطلب إطارُ الشفافية المعزِّز أنْ تُصرح الدولُ الأطرافُ -بشكل علني- عن أهدافها ومدَى التقدم المحرَز نحو تحقيق هذه الأهداف. وتشير الدراسةُ محل المقال إلى أنَّ إطارَ الشفافية المعزِّز هو الأكثر فاعليةً في تحفيز البلدان ذات الالتزامات الأقوى تجاه مكافحة تغيُّر المناخ.
وقال المؤلِّفُ المشاركُ في الدراسة “ديفيد فيكتور”، أستاذ الابتكار الصناعي في كلية السياسة والاستراتيجية العالمية بجامعة كاليفورنيا: «لقد عرف حَائِكُو اتفاقيةِ باريس أنَّ آلياتِ التنفيذِ القويةَ -مثل العقوبات التجارية- لن تكون مجديةً. كما افترض معظم المحللينَ أنَّ الاتفاقيةَ لن تكون فعَّالةً دون تطبيق قوي، وأنَّ إطارَ الشفافية المعزِّز ليس له تأثير حقيقي، إلا إنَّ ما توصلنا إليه يشير إلى خلاف ذلك؛ فآلية التسمية والتشهير تعمل بشكل جيد، على الأقل بالنسبة إلى بعض البلدان».
تُظهر الدراسةُ أنَّ سياسةَ التشهير والإدانة قد لا تنجح في كل مكان، وبالرغم من هذا فهي آلية مهمة بشكل خاص للبلدان التي لديها -فعليًّا- دوافع قوية للتحرك قُدمًا نحو الحد من التغيُّرات المناخية؛ فحتى هذه البلدان تحتاج إلى أنْ يتم تسليط الضوء عليها، للحفاظ على هذه الدوافع نشطةً، وحث هذه الدول على الامتثال للالتزامات التي حددتها لنفسها بموجب اتفاقية باريس.
وفي أوروبا -حيث قدمتِ البلدانُ أكثر التعهدات المناخية طموحًا- أدَّى ارتفاعُ أسعار الطاقة وانقطاعُ إمدادات الغاز الروسي إلى خلق حاجَةٍ إلى الاحتفاظ بتكنولوجيات الطاقة ذات الانبعاثات الأعلى مثل الفحم، حتى إعادة المحطات المتوقفة منها إلى العمل مرَّةً أخرى. وعلى الرغم من ذلك -وبفضل الرؤية الدولية والضغوط السياسية داخل تلك البلدان- فإنَّ دُولًا أوروبيةً عديدةً تحاول الحفاظ على مستوياتِ انبعاثاتٍ تتماشى مع أهدافها المناخية التي التزمتْ بها سابقًا.
أمَّا عن الولايات المتحدة فمِن المرجح أنْ تكون آليةُ التسمية والتشهير فعَّالةً أيضًا، ولكن ليس بالدرجة نفسها مثلما هي الحال في أوروبا، وفقًا للدراسة.
آراء الخبراء والعلماء
النتائجُ التي توصلتْ إليها الدراسةُ الجديدةُ مستمدةٌ من إجابات عينة مشاركينَ في مؤتمرات الأطراف (COP)، التي تتألف من أكثر من 800 خبير دبلوماسي وعِلمي شاركوا -على مدَى عقودٍ- في مناقشات سياسة المناخ؛ لذا تُعَدُّ هذه النتائجُ أمرًا بالغ الأهمية، حيث إنها مبنية على آراء الشخصيات المسئولة عن اتخاذ القرارات السياسية الرئيسية، ولهذا فهي محل اعتبار لتقييم ما قد يحفز بلدانهم على العمل بشأن المناخ.
ومن أمثلة الأسئلة التي طُرِحَتْ على هؤلاء الخبراء: هل إطار الشفافية المعزِّز في اتفاقية باريس فعَّال؟ هل تدعم استخدام مثل هذه الآلية لتحفيز الدول على تحقيق الأهداف؟ هل ترى أنَّ إطارَ الشفافية المعزِّز طريقةٌ مشروعةٌ لدعم تطبيق اتفاقية باريس؟
بشكل عامٍّ، وافق 77% من الخبراء الذين شملتهم الدراسةُ على استخدام آلية التسمية والتشهير؛ أي استخدام إطار الشفافية المعزِّز في اتفاقية باريس؛ لمقارنة جهود التخفيف التي تبذلها البلدانُ. وتشير النتائجُ -أيضًا- إلى أنَّ 57% من جميع المشاركينَ يتوقعون أنْ تؤثر هذه الآليةُ -بشكل كبير- في أداء سياسة المناخ في بلدانهم.
هل التشهير والإدانة أمرٌ كافٍ؟
لا شكَّ في أنَّ آليةَ التسمية والتشهير أمرٌ جيدٌ، حيث يمكن أنْ تُبْقِيَ معظمَ البلدانِ ذات الدوافع المناخية على المسار الصحيح؛ فخفض الانبعاثات والكربون أمرٌ صعبٌ، والتغيُّرات في الظروف وأسواق الطاقة يمكن أنْ تجعلَ الأمرَ أشدَّ صعوبةً.
العديد من البلدان الصناعية في أوروبا مسئولةٌ عن كميات هائلة من الانبعاثات، فعند تعرض هذه البلدان لأي أزمة -كما رأينا مؤخرًا- تكون الفرصةُ متاحةً لصُنَّاعِ السياسات للعودة -بسهولة- إلى خياراتٍ ضارةٍ بالبيئة وغير مستدامة، مثلما حدث بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن هذا لم يحدث بالفجاجة المتوقعة، نظرًا إلى وضع هذه البلدان إطارَ الشفافية المعزِّز في حسبانها.
وقد سُئلَ المشاركون في الاستطلاع -أيضًا- عن المؤسسات التي يجب أنْ تكون مسئولةً عن تطبيق آلية التسمية والتشهير، وهناك أشارتِ النتائجُ -بأغلبية ساحقة- إلى تفضيل مشاهير العلماء، بالإضافة إلى المنظمات الدولية المحايدة، مثل الأمم المتحدة، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ (IPCC). ومع ذلك، فقد وجدتِ الدراساتُ السابقةُ أنَّ المنظمات الدبلوماسية والعِلمية مثل الأمم المتحدة قد تكون غير فعَّالة في تطبيق مثل هذه الآليات.
وفي حين أنَّ التسميةَ والتشهيرَ آليةٌ تعملُ على إنجاح التعاون الدولي، يعتقد مؤلفو الدراسةِ أنَّ الاستراتيجيات الأخرى مثل العقوبات التجارية قد تكون مفيدةً أيضًا، وهو أمر سيحتاج إلى عمل دراسة منفصلة؛ لبيان مدَى فاعليته.