مقاومة المضادات الحيوية تهدد مستقبل الصحة العالمية
مقاومة المضادات الحيوية تهدد مستقبل الصحة العالمية
لجهود التنمية المستدامة تطلعات وأهداف في مجالات متعددة وعلى جميع الأصعدة، بخاصة ما يتعلق منها بصحة الإنسان، ومن هنا يأتي موضوع المضادات الحيوية؛ أحد أهم الإنجازات الطبية التي أسهمت في إنقاذ ملايين الأرواح والسيطرة على العديد من الأمراض البكتيرية التي كانت قاتلةً في الماضي، غير أنه مع مرور الوقت أصبح الاستخدامُ غير المنضبط والمفرط لهذه الأدوية تحديًا تنمويًّا خطيرًا يُعرف بـ”مقاومة المضادات الحيوية”.
وعلى ذلك تشكل مقاومة المضادات الحيوية –وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية- تهديدًا كبيرًا يصل إلى حياتنا اليومية، متجاوزًا حدود المستشفيات، ومهددًا بعودة الأمراض البكتيرية إلى سابق عهدها باعتبارها أسبابًا رئيسية للوفاة؛ ولذلك ستتناول حماة الأرض في هذا المقال أبعاد هذه المشكلة، وتستعرض أحدث الابتكارات العلمية لمواجهة هذا التهديد؛ من أجل تعزيز الوعي بخطورة مقاومة المضادات الحيوية، وتقديم حلول عملية قابلة للتطبيق.
أبعاد المشكلة
تتجاوز مشكلة مقاومة المضادات الحيوية حدود الصحة العامة لتقف عقبةً في طريق جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبالأخص الهدف (3) “الصحة الجيدة والرفاه“؛ فعندما تفقد المضادات الحيوية أثرها تصبح العدوى البسيطة تهديدًا خطيرًا للحياة، مما يؤدي إلى زيادة الوفيات، وتقويض التقدم نحو الرعاية الصحية الشاملة.
ذلك لأنَّ تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أنَّ مقاومة المضادات الحيوية تسببت -بشكل مباشر- في وفاة 1.27 مليون إنسان حول العالم عام 2019، وأسهمت -بشكل غير مباشر- في وفاة 4.95 مليون إنسان. وكذلك تتسبب هذه المشكلة -بالإضافة إلى الخسائر البشرية- في تكاليف اقتصادية يُتوقع أنْ تصل إلى تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2050.
ولهذا فإنَّ مواجهة هذه المشكلة تتطلب فهمًا أعمق لكيفية فقدان المضادات الحيوية أثرها الفعَّال، ومدى تطور المقاومة البكتيرية، حيث يمكن أنْ يصبح علاج العدوى البسيطة أمرًا معقدًا إذا استمرت البكتيريا في تطوير دفاعات مقاومة للأدوية. فكيف يحدث ذلك، وما الآليات التي تُمكّن البكتيريا من مقاومة المضادات الحيوية؟
آليات المقاومة البكتيرية
عندما نستخدم المضادات الحيوية بشكل مفرط أو دون داعٍ، فإننا ننشئ بيئة مواتية للبكتيريا لتطوير دفاعات تقاوم تأثير الأدوية، ثم تتكيف هذه البكتيريا بمرور الوقت، وتكتسب جينات جديدة تمنحها القدرة على النجاة من تأثير المضادات الحيوية؛ مما يجعل علاج العدوى البكتيرية أشد صعوبة.
ولا تتوقف المشكلة عند هذا الحد، فهذه الجينات المقاوِمة لا تبقى حبيسةً داخل نوع واحد من البكتيريا، وإنما يمكن أنْ تنتقل بسهولة بين أنواع متعددة من خلال عملية تُعرف بـ”انتقال الجينات الأفقي”، بمعنى آخر يمكن لبكتيريا اكتسبت جينات مقاومة في بيئة معينة أنْ تنقل هذه الجينات إلى أنواع أخرى في بيئات مختلفة؛ مما يؤدي إلى انتشار سريع لصعوبة السيطرة على تفشي البكتيريا المقاومة للأدوية التقليدية.
لماذا نفرط في استخدام المضادات الحيوية؟
يعود الإفراط في استخدام المضادات الحيوية إلى عدة عوامل مترابطة تسهم في فقدان تأثيرها؛ فمن ناحية يُعد تقديم الوصفات الطبية غير الدقيقة أو دون الحاجة الحقيقية لها عاملًا رئيسيًّا، حيث يُوصَف الكثير من المضادات الحيوية لعلاج أمراض فيروسية لا تتأثر بها، مثل نزلات البرد والإنفلونزا.
ومن ناحية أخرى يشكل الاستخدام الواسع للمضادات الحيوية في الزراعة وتربية الحيوانات تهديدًا إضافيًّا، حيث تُستخدم باعتبارها وسيلة للوقاية من الأمراض وزيادة النمو، وهو ما يعزز انتقال الجينات المقاومة إلى البشر عبر السلسلة الغذائية. وكذلك يفتقر كثير من الأفراد إلى الوعي بخطورة إساءة استخدام المضادات الحيوية، فيتجهون إلى استخدامها دون استشارة طبية أو دون الالتزام بالجرعات المحددة؛ مما يُضعف تأثيرها على المدى البعيد، ويسهم في تفاقم ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية؛ وذلك يستوجب رفع مستوى الوعي والالتزام بالاستخدام الآمن لها.
اكتشاف علمي حديث
ولمواجهة هذا التحدي الصعب يعمل العلماء جاهدين على تطوير تقنيات متقدمة؛ لرصد الجينات المقاومة للمضادات الحيوية وفهمها، على أمل الحد من انتشارها وتقليل آثارها السلبية. ومن أحدث الابتكارات الواعدة في هذا المجال تقنية كريسبر (CRISPR) الخاصة بالكشف عن الجينات المقاوِمة في عينات مياه الصرف الصحي، وهي تقنية قدَّمها باحثانِ من “معهد كارل ر. ووز” لعلم الأحياء الجينومي”.
تُعد تقنية كريسبر نظامًا دفاعيًّا طبيعيًّا في البكتيريا، حيث تخزن البكتيريا أجزاءً من الشفرات الوراثية للفيروسات، التي تصيبها للتعرف عليها مستقبلًا عند مهاجمتها مرَّةً أخرى. وقد استفاد العلماء من هذه الآلية لتحويلها إلى أداة دقيقة لرصد الجينات المقاومة للمضادات الحيوية، وهذا باستخدام أحد البروتينات في تعيين مواقع محددة من الحمض النووي (RNA)، ثم قطعها بدقة؛ مما يُسهل تحليل أو تعديل تسلسلات معينة، مثل تلك التي تحمل مقاوَمةً للمضادات الحيوية.
وتعتمد هذه التقنية -تفصيلًا- على استهداف أجزاء محددة من الجينات المقاوِمة، ثم تفتيتها إلى جزيئات صغيرة؛ حتى تسهُلَ عمليةُ استخراج الحمض النووي وتحليله بدقة عالية، حتى لو كانت هذه الجينات بتركيزات منخفضة. وتتيح هذه المقاربة الفريدة التعرف على جينات جديدة لم تكن مرصودة سابقًا، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم آليات انتقال المقاومة البكتيرية في البيئة.
وتعتمد هذه التقنية على مياه الصرف الصحي؛ فهو بيئة مثالية تعكس النشاط البشري المتنوع، ومكان يحتوي على مجموعة واسعة من الكائنات الحية الدقيقة والمواد الجينية، بما في ذلك جينات مقاوَمةِ المضادات الحيوية التي قد تكون غير مرصودة، أو ربما تكون موجودة بتركيزات منخفضة في بيئات أخرى. ويتيح تحليل هذه العينات رصد انتشار المقاومة البكتيرية على نطاق واسع؛ مما يوفر بيانات مهمة لمراقبة الصحة العامة واتخاذ إجراءات وقائية سريعة.
كيف يُمكننا الاستفادة من هذه التقنية؟
ولهذه التقنية تطبيقات عملية كثيرة ومهمة، تهدف إلى مواجهة مشكلة مقاومة المضادات الحيوية، حيث يمكننا استثمارها في مراقبة انتشار الجينات المقاومة للمضادات الحيوية على نطاق واسع، خاصةً في البيئات التي تتعرض للتلوث البيئي؛ مما يُمكّن الجهات الصحية من اتخاذ تدابير وقائية مبكرة.
بالإضافة إلى ذلك، تُسهم هذه التقنية في تحسين سياسات استخدام المضادات الحيوية، من خلال تقديم بيانات دقيقة عن تأثير الأدوية المتاحة، وتوجيه الأطباء لاستخدام المضادات الأشد تأثيرًا، فضلًا عن دعم البحث العلمي، حيث تتاح للباحثين فرصة فحص عينات بيئية مختلفة، وفهم كيفية انتقال الجينات المقاومة بين الأنواع البكتيرية المتنوعة، كما يمكن دمج هذه التقنية في استراتيجيات الصحة العامة؛ لمراقبة تفشي الأمراض المعدية، وتطوير خطط علاجية مستدامة.
وعلى ذلك ترى حماة الأرض أنَّ التقدم في هذه التقنية يمنحنا فرصة لإعادة تقييم طريقة استخدامنا للمضادات الحيوية، واتخاذ إجراءات أكثر وعيًا ومسئولية للحفاظ على تأثير هذه الأدوية الحيوية، ويتطلب هذا تكاتف الجهود بين الأفراد والجهات الصحية والباحثين؛ لنقلل من أخطار مقاومة المضادات الحيوية، ونحمي صحتنا وصحة الأجيال القادمة.