هل تنقذنا المستشفيات من كارثة عالمية؟
هل تنقذنا المستشفيات من كارثة عالمية؟
لم تعد المستشفيات مجرّد منشآت تُقدّم الرعاية الصحية، وإنما تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى خطوط دفاع أولى في مواجهة أحد أخطر تحديات العصر: تغيّر المناخ؛ فمع تفاقم الكوارث البيئية وازدياد الضغط على الأنظمة الحيوية، بدأت المؤسسات الصحية تُدرك أنها تُمثّل أحد العوامل التي تسهم فيها، وهذا الإدراك يُعيد صياغة دور القطاع الصحي في ضوء مسئوليات بيئية متنامية.
وقد تزامن هذا التحول مع التبني لخطط استراتيجية قائمة على مبادئ المعايير البيئية والمسئولية الاجتماعية والحوكمة، وهي المعايير التي باتت تشكل مسار التحوّل نحو الاستدامة، حيث أصبح الالتزام البيئي نهجًا علميًّا ذا أهداف قابلة للقياس، من بينها تقليص الانبعاثات المباشرة، والتحول إلى الطاقة المتجددة، ودمج ممارسات خضراء داخل جميع مستويات التشغيل في المستشفيات.
من بين أبرز أولويات هذه الاستراتيجيات، برزت قضية سلاسل الإمداد الطبية باعتبارها من أهم مصادر الانبعاثات غير المباشرة؛ إذْ إنَّ جزءًا كبيرًا من البصمة الكربونية للقطاع الصحي ناتج -وفقًا لبحث أجرته المنظمة غير الحكومية “الرعاية الصحية دون ضرر“- عن العمليات اللوجستية المعقدة التي تدعم استمرارية الخدمات؛ ولهذا تتجه المستشفيات إلى إعادة تصميم هذه السلاسل من منظور بيئي، بما يُعزّز من تأثيرها الإيجابي في المجتمع والبيئة خارج حدود أسوارها.
هذا التوجّه يعكس التزامًا أوسع بمبادئ الشفافية والمساءلة البيئية؛ مما يُعزز من ثقة المرضى والشركاء، ويُحفّز استقطاب الكفاءات والمستثمرين الباحثين عن قيمة مستدامة، وفي ظل التوجهات التنظيمية العالمية الجديدة، أصبح هذا التحول ضرورة لإعادة بناء قطاع صحي مستدام.
التحول الرقمي لاستدامة الرعاية الصحية
وقد تجلّى هذا التحول في وعي متزايد بأن الاستدامة تبدأ من طبيعة الرعاية الصحية ذاتها، ومع تصاعد الضغوط التنظيمية وتغير توقعات المرضى والمجتمع، بدأت المؤسسات الصحية تُعيد التفكير في نماذج تقديم الخدمات من زاوية بيئية. وفي هذا السياق، برزت الحلول الرقمية باعتبارها من المسارات الواعدة لتقليل الحاجة إلى التنقل، وخفض الانبعاثات المرتبطة بالخدمات التقليدية، دون المساس بجودة الرعاية الصحية.
وبدأ مفهوم الرعاية الصحية يتغيّر مع تطوّر التكنولوجيا وتنامي الوعي البيئي، وأصبح الاعتماد على الحلول الرقمية مثل التطبيب عن بُعد والاستشارات الافتراضية خيارًا رئيسيًّا لتقليل الأثر البيئي للرعاية الصحية؛ فهذه النماذج تُقلّل من زيارات المرضى للمرافق الصحية، وتُخفف من حركة النقل والانبعاثات الناتجة عنها.
ويُمثّل هذا التحول فرصة حقيقية لإعادة تصميم أنظمة الرعاية الصحية بما يخدم الاستدامة، فبدلًا من المستشفيات كثيفة الاستهلاك للطاقة، ننتقل إلى نظام صحي أكثر مرونة وكفاءة؛ فالمرضى يحصلون على الخدمة من منازلهم، والأطباء يقيّمون الحالات عبر تقنيات متقدمة؛ مما يُقلل من النفايات ويُحسّن تخصيص الموارد.
ويُمثّل هذا التحول الرقمي فرصة حقيقية لإعادة تصميم أنظمة الرعاية الصحية بما يخدم الاستدامة على مستوى البنية والخدمة معًا؛ فبدلًا من النموذج التقليدي القائم على مستشفيات كثيفة الاستهلاك للطاقة، نتجه نحو نظام صحي أكثر مرونة وكفاءة، يتيح للمرضى تلقي الرعاية من منازلهم، ويمنح الأطباء القدرة على تقييم الحالات عبر تقنيات متقدمة تُقلّل من النفايات وتحسّن إدارة الموارد.
ولا يقتصر هذا التحوّل على التفاعل بين المريض والطبيب، وإنما يمتد إلى عمق النظم اللوجستية وسلاسل التوريد، حيث تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لإدارة المخزون وتقليل الهدر وتوجيه الموارد بذكاء نحو المناطق ذات الأولوية؛ مما يُخفف من الشحن غير الضروري والانبعاثات المرتبطة به.
وبهذه الآليات، تتعزز قدرة الأنظمة الصحية على الصمود في مواجهة الأزمات، سواء أكانت صحية أو بيئية، بما يتفق مع أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف (3) المتعلق بالصحة الجيدة والرفاه، والهدف (13) الخاص بالعمل المناخي، ويقودنا هذا التوسّع في التفكير البيئي إلى أحد أكثر الجوانب حساسية في المستشفيات، وهو جانب الطاقة.
تحول المستشفيات نحو الطاقة المتجددة
تُعدّ مصادر الطاقة التي تُغذّي المستشفيات من بين أبرز التحديات التي تواجه التحوّل المستدام في قطاع الرعاية الصحية؛ فالمرافق الصحية -بما تحويه من أجهزة ومعدات- تُعدّ من أكثر المؤسسات استهلاكًا للطاقة؛ لهذا السبب يتجه عدد متزايد من مقدّمي الرعاية الصحية نحو الاعتماد على مصادر متجددة لتشغيل منشآتهم.
التحوّل إلى الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح لم يعد مجرد ترف، وإنما أصبح خيارًا استراتيجيًّا يقلل التكاليف على المدى الطويل، ويُخفّض الانبعاثات الكربونية بشكل مباشر، ومع تزايد الدعم الحكومي للمبادرات الخضراء، يُصبح من الأسهل على المستشفيات الاستثمار في هذه الحلول.
وبالتوازي مع التحول نحو الطاقة المتجددة، تُدمج مبادئ الاقتصاد الدائري في تشغيل الأنظمة الصحية، من خلال استبدال المنتجات أحادية الاستخدام بمواد قابلة لإعادة التدوير أو الاستخدام المتكرر، مع تحسين طرق إدارة النفايات الطبية بطريقة تُقلل الضرر البيئي وتُعزز من فعالية العمليات.
هذه التغييرات لا تقتصر على تقليل البصمة الكربونية، وإنما تنعكس أيضًا في شكل مكاسب اقتصادية واجتماعية ملموسة، وتُمهّد الطريق أمام المؤسسات الصحية للالتزام العملي بأهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف (7) المعني بالطاقة النظيفة وبأسعار معقولة، والهدف (12) المرتبط بالاستهلاك والإنتاج المسئولين.
عقبات في طريق النظام الصحي المستدام
ورغم أن هذه التحولات تمثل خطوة كبيرة نحو تقليل البصمة الكربونية، وتحقيق مكاسب اجتماعية واقتصادية وبيئية متكاملة، فإن الطريق نحو أنظمة صحية مستدامة لا يخلو من تحديات؛ فالزخم العالمي في هذا المجال يصطدم بعوائق متشابكة، من أبرزها نقص الكفاءات المتخصصة في قضايا المناخ، وضعف التمويل، وتشتّت الإطار التشريعي، فضلًا عن غياب منظومات فعّالة لإدارة البيانات البيئية داخل القطاع الصحي.
ومع ذلك لا ينبغي النظر إلى هذه التحديات بوصفها حواجز نهائية، وإنما يمكن تحويلها إلى محفزات للتطوير من خلال الاستثمار في بناء قدرات القادة الصحيين على فهم أبعاد الاستدامة، وتصميم برامج تدريبية تُرسّخ عقلية بيئية مسئولة لدى العاملين، بما يعزز قدرتهم على اتخاذ قرارات توازن بين الخدمة الصحية والاعتبارات المناخية.
وبموازاة بناء القدرات، يُعدّ تأمين التمويل وتنظيم الإطار التشريعي من الشروط الأساسية للتحوّل المستدام في القطاع الصحي؛ فاعتبار الاستدامة فرصة استثمارية يفتح المجال أمام أدوات مثل السندات الخضراء والتقارير البيئية الشفافة لجذب التمويل طويل الأجل، وفي الوقت نفسه، يظل وجود إطار تنظيمي موحّد لحوكمة البيانات ومعايير الإفصاح البيئي شرطًا لازمًا لقياس الأداء وتوجيه السياسات بفعالية.
أرقام تُدين القطاع الصحي
تشير التقديرات إلى أن استمرار التدهور البيئي سيؤدي إلى كوارث صحية واقتصادية غير مسبوقة، وبحلول عام 2050، قد يُسفر تغيّر المناخ عن وفاة 14.5 مليون شخص إضافي، وتحميل الاقتصاد العالمي خسائر تتجاوز 12.5 تريليون دولار، وإذا لم يتحرّك العالم فقد تصل الخسائر إلى 175 تريليون دولار بحلول 2070، والأخطر من ذلك هو أن القطاع الصحي نفسه يُسهم في هذه الأزمة؛ إذ يُنتج ما يعادل 5% من إجمالي الانبعاثات الكربونية حول العالم، أي أنه لو كان دولة، لكان “الخامس” في ترتيب أكثر الملوّثين للكوكب.
وتُظهر دراسة لمنظمة “الرعاية الصحية دون ضرر” أن 71% من هذه الانبعاثات مصدرها سلاسل التوريد، في حين تأتي 17% من المنشآت الصحية نفسها، و12%من استهلاك الطاقة داخلها، وهذه الأرقام الصادمة تعد دعوة عاجلة لإعادة التفكير في جذور النظام الصحي، وتحويله إلى منظومة تدعم الحياة لا تُهدّدها، وتدفع نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة بدلًا من عرقلتها.
دور الذكاء الاصطناعي في نظام صحي مستدام
وفي إطار التحول نحو أنظمة صحية أكثر استدامة، يُمثّل الذكاء الاصطناعي -خاصة النماذج التوليدية- أداة واعدة تمتلك قدرات كبيرة لتقليل الهدر والانبعاثات وتحسين كفاءة استخدام الموارد؛ إذ يُمكن لهذه التقنيات أن تُحدث نقلة نوعية في إدارة التجارب السريرية عن بُعد، وتخصيص العلاجات بدقة، وتقليص النفايات الطبية، فضلًا عن تحسين أداء سلاسل الإمداد، مما يُسهم في بناء قطاع صحي مستدام.
غير أن لهذه التحولات وجهًا آخر لا يمكن تجاهله، يتمثل في استهلاك الطاقة الهائل المرتبط بتخزين البيانات وتشغيل الخوارزميات، وهو ما قد يُفاقم من الانبعاثات الكربونية إذا لم يُدار بعناية؛ لذلك فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة الصحية يجب أن يتم ضمن أطر حوكمة بيئية صارمة، تُراعي التوازن بين الاستفادة من قدراته وتسخيرها لتحقيق أهداف التنمية، دون أن يتحول إلى عامل ضغط جديد على البيئة.
إن مستقبل الرعاية الصحية بات مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصير الكوكب، ولا يمكن فصل صحة الإنسان عن صحة البيئة، ومن هذا المنطلق، تؤمن حماة الأرض بأن التحول نحو نظام صحي مستدام أصبح الحل الأمثل في ظل التحديات المناخية المتصاعدة؛ فالمستشفيات يجب أن تتحول إلى نماذج حية تُجسّد مبادئ الاستدامة، وتُحفّز الابتكار البيئي، وتُسهم في بناء مستقبل أكثر أمانًا وعدالة للجميع.