الاستدامة والقانون

اتفاقية باريس وعصر التحولات المناخية

اتفاقية باريس وعصر التحولات المناخية

تغير المناخ حالة طوارئ عالمية تتجاوز الحدود الوطنية، وقضية تتطلب حلولًا منسقةً على المستويات جميعها، وتعاونًا دوليًّا لمساعدة الدول علَى السعي إلى اقتصاد منخفض الكربون؛ وهذا لمواجهة تلك الآثار السلبية الناتجة عن تغير المناخ، ومن هنا تبنت 197 دولة اتفاق باريس في مؤتمر الأطراف 21 (COP21) بباريس في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2015.

بعد أقل من عامٍ دخل الاتفاق حيز التنفيذ، للحد -بشكلٍ فعَّال- من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وأيضًا لأجل الحد من زيادة درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى درجتينِ مئويتينِ، إضافةً إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة.

شمل الاتفاق التزامات من الدول كافة بالعمل علَى التكيف مع آثار تغير المناخ وخفض انبعاثاتها، حيث دَعَتْ تلك الدولُ إلى تعزيز التزاماتها بمرور الوقت. إنَّ هذا الاتفاق طريق مفتوح أمام الدول المتقدمة لدعم الدول النامية في مجال جهود التكيف مع التغيرات المناخية والتخفيف من حدتها، وهذا مع إنشاء إطارٍ للإبلاغ والرصد الشفافينِ عن الأهداف المناخية للدول.

اتفاق باريس له إسهام في توفير الإطار الدائم لتوجيه الجهود العالمية حتى عقود قادمة، والهدف منه هو رفع مستوى طموح الدول كافة -فيما يتعلق بالمناخ- مع مرور الأيام؛ ولأجل تعزيز هذا نصَّ الاتفاقُ على تنفيذ عمليتَي مراجعة، كل واحدة منهما على مدَى خمسة أعوام. يمثل اتفاق باريس نقطة تحول إلى عالم منخفض الكربون، وما زال هناك كثير مما يتعين القيام به. ويُعَدُّ تنفيذ الاتفاق أمرًا بالغ الأهمية في سبيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ حيث إنه يوفر خارطة طريق للإجراءات المناخية التي تساعد علَى تقليل الانبعاثات، كما أنَّها تبني القدرة على الصمود أمام التغيرات المناخية.

الطريق إلى باريس

يمكن أنْ نشير إلى نقطتين مهمتين للتحول في العمل المناخي، الأولى كانت في العام 1992 في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، التي احتضنت مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية، أما نقطة التحول الثانية فجاءت في قمة باريس عام 2015.

تولد عن قمة ريو ثلاث اتفاقيات دولية مهمة، حيث تحولت هذه الاتفاقيات إلى مناهجَ للعمل، وهي: اتفاقية الأمم المتحدة للتنوعِ البيولوجي، اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، وقد انبثقت عن الأخيرة سلسلة «مؤتمرات الأطراف – COP».

وفي العام 1997 في مؤتمر الأطراف الثالث (COP3) بمدينة كيوتو اعتمدت البلدان المشاركة بروتوكول كيوتو الرامي إلى الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، وبعد هذا بثمانية أعوام -أي في العام 2005- دخل البروتوكول حيز التنفيذ.

كان لـ «برتوكول كيوتو» -الذي ألزم البلدان المتقدمة بخفض الانبعاثات- مدتي التزام، الأولى من عام 2008 إلى عام 2012، ثم مدة الالتزام الثانية من 1 يناير 2013 إلى عام 2020، لكن قبل انتهاء مدة الالتزام الثانية كان العالَمُ واقعًا في شبكة معقدة -جغرافيًّا وسياسيًّا- من عدم تحقيق أهداف البروتوكول، وتزايد الانبعاثات، وكذلك معدل الزيادة في الاحترار العالمي؛ لذا كانت باريس مسرحًا لواحدة من أبرز قمم المناخ (COP21).

أهداف اتفاقية باريس

يمكن وصف أهداف اتفاقية باريس بأنها أهداف طموحة في مجال العمل المناخي، حيث عززت من الالتزامات بالحد من متوسط ارتفاع درجات الحرارة العالمية في هذا القرن إلى ما دون درجتينِ مئويتينِ، مع بذل مزيد من الجهود للحد من الزيادة عن 1,5 درجة مئوية فقط، وهذا مقارنة بمتوسط درجات الحرارة في عصر ما قبل الثورة الصناعية، مع مراجعة مدَى التزام البلدان كل خمسة أعوام.

 سعت الاتفاقية إلى زيادة قدرة البلدان علَى التكيف مع تغير المناخ، كما أَرْسَتْ للتحول نحو نماذج إنمائية منخفضة الانبعاثات ومقاومة للتغير المناخي، مع هدف تحقيق التنمية الاقتصادية منخفضة الكربون.

ضرورة التزام الدول المتقدمة أمر ذو أهمية، ولذا تم التأكيد عليه للمرَّة الثانية في «مؤتمر باريس»، ومن جهتها حركتِ تلك الدول 100 مليار دولار سنويًّا لدعم أزمات المناخ حتى 2020، واستمرت في حشد التمويل على مستوى آخر حتى 2025 بقيمة 100 مليار دولار في العامِ الواحد. يشير التزامٌ مثل هذا إلي الخُطط الجاهزة القادرة علَى دعم الدول النامية لمواجهة أعمال التكيف مع التغيرات المناخية، وكذلك للتخفيف من حدة آثارها.

ويمكن إجمال أهداف اتفاقية باريس في أهداف أربعة: الأول: الاجتهاد في إيقاف الزيادة في متوسط درجة الحرارة العالمية دون مستوى درجتينِ فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية، وهذا هدف جديد من نوعه، حيث إنها المرَّةُ الأولى التي تنصُّ فيها اتفاقية من الاتفاقيات علَى الحدِّ من زيادة درجات الحرارة العالمية، وهو أمر لم يُكتَبْ له النجاحُ في الاتفاقيات السابقة. والثاني: البحث عن طرق للتكيف مع تغيرات المناخ. والثالث: تشجيع الشركات علَى ممارسات نظيفة صديقة للمناخ، وبيان أهمية الاستثمار في التقنيات التي تقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة. والرابع: إنشاء آليات تساعد علَى تنظيم العمل التطوعي، لخدمة أهداف الاتفاقية.

الإشكالات القانونية

الطبيعة القانونية لـ «اتفاقية باريس» موضع جدل، حيث تعددتِ الأسئلةُ حول الشكل القانوني للاتفاقية؛ لأنَّ الدول الأوروبية -وكذلك عدد من المنظمات غير الحكومية- أصرَّتْ علَى أنَّ الوثيقة تمثل معاهدة ملزمة إلزامًا قانونيًّا، في حين لم تعتبرها بعض الدول كذلك.

و«اتفاقية باريس» طريق ضروري لتحقيـق الأهـداف التنمويـة، ولإحراز مزيد من التقــدم نحــو أجنــدة عــام 2030. وهذا يتوافق مع اهتمام الاتفاقية بحقــوق الإنســان، وتمكين المرأة، والمساواة بين الأجيال، وحقوق الشعوب الأصلية والمحلية، وتفعيل «السلامة الإيكولوجية» والتنمية المستدامة للمجتمع البشري، وحماية التنوع البيولوجي، إضافةً إلى اهتمامها بذوي الإعاقة.

ومما اهتمت «اتفاقية باريس» ببيانه: كيفية تفادي الآثار الضارة الناتجة عن تغير المناخ، مقترحةً في سبيل ذلك إخضاع بنود «اتفاقية وارسو» المعنية بالتأثيرات الضارة لتغيرات المناخ، حيث تكون إجراءاتُ مكافحة التغيرات المناخية حسب الحاجة، بأسلوب تعاوني يساعد علَى دعم المجالات الآتية:

  1. نظم الإنذار المبكر.
  2. الاستعداد للطوارئ.
  3. الظواهر بطيئة الحدوث.
  4. الحوادث ذات الأضرار الدائمة.
  5. تقييم المخاطر، وإدارتها إدارةً شاملةً.
  6. تسهيلات التأمين ضد المخاطر.
  7. الخسائر غير الاقتصادية.

جدوى الاتفاقية في تغيير السياسات المناخية

إنَّ «اتفاقية باريس» المستقبلُ الواعدُ للمناخ، حيث توفر الجهدَ العالميَّ لعقود قادمة، من خلال إجراء عمليتَي مراجعة، بين كل واحدة وأخرى خمسة أعوام؛ ليتحول العالَمَ نحو الكربون المنخفض؛ ولذا صِيغَتْ الاتفاقيةُ بصورة يمكن من خلالها إرسال رسالة قويـة إلـى المجتمـع الدولي، وما كانت لتدخل حيز التنفيذ لولا تلك الجديـة والحنكـة الدبلوماسـية التي اتسـمت بها جهود الحكومـة الفرنسـية؛ فأعطت الاتفاقية دفعةً سياسـيةً للأطراف المشاركة، بعد أنْ استفادت من مؤتمـر الأطـراف فـي كوبنهاجـن، فلم تترك القـرار النهائـي فـي أيـدي رؤسـاء الـدول، واسـتطاعت -بمَهَـارة- تطبيـق أفضـل الممارسـات مـن مؤتمـرات الأطـراف الأخـرى، مثـل نظـام «الطاولـة المسـتديرة الوزاريـة المفتوحـة – indaba» الـذي استُعمِل فـي جنـوب أفريقيـا؛ وعلَى الرغم من ذلك، تباينت ردود الأفعال إزاء «اتفاقية باريس» حيث مَالتْ بعض ردود الأفعال إلى أنَّ الاتفاقَ ضعيفٌ، وأنَّه لم يعاقب الدول المُسيئة في المجالات المناخية، علَى الرغم من أنَّ بعض ردود الأفعال جاءت إيجابيةً، مؤكِّدةً صِحةَ الاتفاقية ووجودها في مسارها السليم.

التغيرات المناخية

هل تحقق الاتفاقية الهدف المطلوب؟

هناك اتفاق دولي على خطر ارتفاع درجة الحرارة لأكثر من درجتينِ، وبينما يقدر ارتفاع سطح البحر بحوالي 20 مترًا فإنَّ متوسط ارتفاع درجة الحرارة يقدر حاليًّا بحوالي 0.8 درجة مئوية؛ ومن هنا يأتي هدف «اتفاقية باريس»، وهو خلق سياسات قانونية؛ لإعادة تقييم التحركات غير المناسبة، والمتسببة في تفاقم أزمة تغير المناخ؛ ولذا تقدمت أكثر 180 دولة -يمثلون 90% من الانبعاثات الضارة- عشية «مؤتمر باريس» بمساهمات وطنية جديرة بالاهتمام، وبناءً علَى الارتفاعات الحرارية المتوقعة يُقَّدَرُ أنْ تبلغ كمية الانبعاثات 55 جيجا طن بحلول عام 2030، وإذا كانتِ الاتفاقية ساعيةً إلى تقليل درجتينِ مئويتينِ، فمن الممكن تقليل الانبعاثات الضارة حتى 40 جيجا طن، وهذا مع الالتزام بالمساهمات كافةً؛ لكنها مساهمات محتملة لا ترقى إلى مستوى اليقين؛ أي: أنَّ الاتفاقية تمضي بالعالَمِ نحو ارتفاع 2.7 درجة على أقل تقدير؛ بخاصة وأنه لم يُطلب من الدول مراجعة إسهاماتها الوطنية للتوافق مع الهدف.

وفي النهاية يبدو معبرًا للغاية عن تقييم الاتفاقية قولُ أحدِ المعلقين: «إنَّ اتفاقية باريس -مقارنة بما يمكن أن يحدث- معجزة، ولكن مقارنة بالمطلوب كارثة!».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى