صناعات مستدامة

استدامة الصناعات الغذائية وسبل تقليل هدر الطعام

الصناعات الغذائية

استدامة الصناعات الغذائية وسبل تقليل هدر الطعام

بينما يُهدَرُ 1.3 مليار طن -سنويًّا- من الطعام المعد للاستهلاك الآدميّ (ثلث الأغذية المنتجة عالميًّا)، فإنَّ ما يقرب من 700 مليون إنسان حول العالم يعانون من الجوع. علاوةً على هذا، يؤدي هدر الطعام إلى خسارة مئات المليارات من الدولارات؛ ما يعنـي أنها ليست قضيةً بيئيةً فحسب، وإنما قضية اجتماعية واقتصادية، وهو ما حاولنا تسليط الضوء عليه في هذا المقال.

صناعة الأغذية مسئولة عن 8 – 10% من إجماليّ انبعاثات الغازات الدفيئة، كما تعتمد هذه الصناعة -بشكل كبيـر- على استخدام الموارد، وتتطلب كمياتٍ هائلةً من الطاقة والمياه واستخدامات الأراضي. علاوةً على ذلك، تسهم الصناعات الغذائية في تأثيـرات بيئية سلبية أخرى، مثل فقدان التنوع البيولوجيّ على الأرض وفي المحيطات.

لذا، فإنَّ هدرَ الطعام لا يعني مجردَ خسارةِ وجبة إضافية، وإنما خسارة جميع الموارد المستخدمة في إنتاجها ومعالجتها ونقلها؛ وكلها عمليات ذات تأثيـر شديد في البيئة، لدرجة أنَّ الحدَّ من هدر الطعام يعتبر -وفقًا للعديد من الخبـراء- أكثـر الإجراءات فعاليةً في مكافحة تغيُّـر المناخ، وتحقيق عدد من أهداف التنمية المستدامة.

فهم سلسلة التوريد

لفهم مسألة هدر الطعام، من المهم أنْ نفهم الموضوع من منظور سلسلة التوريد، بما في هذا عمليات الإنتاج والتعبئة والتغليف، ثم التوزيع والتجزئة، حيث يحدث هدر الطعام على كل مستوى من مستويات سلسلة التوريد؛ فكلما زادت مراحل هذه السلسلة زاد هدر الطعام.

على سبيل المثال، نجد أنَّ العالمَ عانى أثناء أزمة كورونا من اضطرابات كبيـرة في سلاسل توريد الأغذية، أدَّتْ إلى زيادة معدلات هدر الطعام. ولقد كشفت الجائحة عن هشاشة النظم الغذائية اليوم، وكانت بمثابة تنبيه واضح للحاجَةِ إلى أنظمة أكثـر مرونةً. ولوضع أيدينا على حقيقة المشكلة يجب أنْ ندرك أنَّ نسبةً كبيـرةً من هدر الطعام العالميّ تحدث أثناء عمليات الإنتاج والتصنيع والتوزيع لمختلف الأطعمة قبل أنْ تصلَ إلى أطباقنا.

مِن الجدير بالذِّكْرِ، أنه تُهدَرُ -في كل عامٍ- مئات ملاييـن الأطنان من الغذاء في مختلف مراحل سلسلة التوريد، بدايةً من المزارع التي تتأثر -بشكل مباشر- بتغيُّـرات المناخ، مرورًا بعمليات الزرع والريّ والحصاد، وأضف إلى هذا الاشتـراطاتِ الشكليةَ التي تخضع لها بعض المحاصيل من قِبل التجار، مثل لون الثمرة وحجمها؛ ما يعني أنَّ مرحلةَ الزرع والحصاد وتوريد المحصول تتسبب وحدها في هدر كميات ضخمة من الغذاء.

في كل عام يتم هدر 500 مليون طن من المحاصيل المنتَجة على مستوى العالم، وهو ما يمثل 32% من إجماليّ النفايات في سلسلة التوريد. في حيـن نجد أنَّ نسبة 23% من النفايات الغذائية تحدث في مرحلة المناولة والتخزين، و10% أثناء المعالجة والتعبئة، و13% في مرحلة التوزيع والتجزئة؛ كل ذلك في ظل الافتقار إلى أنظمة تتبع وحصر واضحة، تُمكِّنُ أصحاب المصلحة من الوقوف على الكميات والأسباب الدقيقة لهذه الكميات الضخمة المهدرة.

وأخيـرًا، فإنَّ 22% من إجماليّ هدر الغذاء العالميّ يحدث في مرحلة الاستهلاك، وغالبًا ما يكون الهدر في هذه المرحلة متعلقًا بسوء تخطيط الوجبات، والإفراط في الشراء، أو التخزين غيـر الصحيح، وقد يكون -أحيانًا- بسبب الشك في تاريخ الصلاحية.

اعتبارات بيئية واقتصادية واجتماعية

يُعدُّ الحدُّ من هدر الطعام بالنسبة إلى الشركات العاملة في مجال الصناعات الغذائية جزءًا أصيلًا من استراتيجيات تحقيق أهداف الاستدامة؛ فتقليل هدر الطعام لا يسهم في تحقيق الأهداف البيئية فحسب، وإنما يسهم أيضًا في أهداف اجتماعية، حيث تدعو أهداف التنمية المستدامة إلى خفض نصيب الفرد من هدر الغذاء -على مستوى العالم- إلى النصف على مستوى البيع بالتجزئة والمستهلك، والحد من فقدان الغذاء على طول سلاسل الإنتاج والتوريد بحلول عام 2030.

يسهم الحد من هدر الغذاء أيضًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة الأخرى، بما في هذا الهدف الثاني: القضاء على الجوع، وهذا من خلال زيادة الأمن الغذائيّ، وتوزيع الأغذية الصالحة للأكل توزيعًا عادلًا؛ لذا التـزم كثيـرٌ من شركات الأغذية الكبـرى بالحد من هدر الطعام، باعتباره أحدَ أهداف الاستدامة الأساسية للسنوات القادمة، فحققت شركة نستله -على سبيل المثال- هدفها المتمثل في خفض نفاياتها الغذائية التشغيلية إلى النصف في يونيو 2020، واليوم نجد أنَّ 95% من مواقع الشركة لا يصدر عنها أيُّ نفاياتٍ تشغيلية للتخلص منها.

ومع تفاقم أزمة المناخ يتحول دمج أهداف الاستدامة في جميع القطاعات الصناعية أمرًا واجبًا وليس اختياريًّا. وقطاع الصناعات الغذائية ليس بعيدًا عن هذا، حيث وضعت دول عديدة لوائحَ أكثـر صرامةً -يجب على الشركات الالتـزام بها- فيما يتعلق بهدر الطعام؛ فقد وضعت لوائحُ الاتحاد الأوروبيّ -على سبيل المثال- أهدافًا ملزِمةً قانونًا للحد من هدر الطعام بحلول عام 2023، كما أنشأتْ إطارًا لإعداد تقارير توضح تدابيـر هدر الطعام المتبعة من قِبل كل شركة.

وهنا يجب أنْ نشير إلى أهمية أحد الجوانب الأساسية للمساهمة في أهداف التنمية المستدامة والأطر الأخرى، وهو «إمكانية القياس»، فبدون بيانات دقيقة وعالية الجودة حول عمل المصانع وتدابيـر زيادة كفاءة الإنتاج لتقليل الهدر، لن تستطيع الشركات -على المستوى الإداريّ- تحديد أماكن التطوير في دورة عملها، وهو ما يؤكد أهميةَ وجود أطر تنظيمية واضحة تُلزِمُ الشركات والمصانع بتقديم تقارير دورية حول عملياتها التشغيلية.

يمكن أنْ يساعد قياس هدر الطعام الذي يحدث في سلسلة التوريد الخاصة بالشركات على تحديد أماكن كبـرى المشكلات، وتنفيذ الاستراتيجيات المناسبة وفقًا لهذا؛ لذا نجد الشركات الرائدة عالميًّا في قطاع الصناعات الغذائية مهتمَّةً اهتمامًا بالغًا بأخذ زمام المبادرة في مكافحة هدر الطعام عن طريق وجود إطار تنظيميّ واضح، تستطيع الحصول منه على بيانات دقيقة تخص معدلات هدر الطعام؛ وبالتالي فإنَّ الحصولَ على البيانات الصحيحة يمكن أنْ يُحسِّنَ -أيضًا- الأداءَ الماليّ للشركات، ليس من خلال زيادة كفاءة استخدام الموارد فحسب، وإنما من خلال تجنب تكاليف التخلص منها في مدافن ومكبات النفايات.

الصناعات الغذائية

المعرفة هي الأساس

تتيح حلول إدارة الاستدامة للمؤسسات إمكانية متابعة هدر الطعام المسجل من قِبل المنشآت المختلفة. واستنادًا إلى البيانات الصحيحة، يمكن للشركات تنفيذ أنشطة الحد من النفايات، بمشاركة جميع مواقع ومنشآت التصنيع ذات الصلة.

لذا، يمكن القول بأنَّ المعرفةَ تمثل العنصر الأساسيّ للحد من هدر الطعام عبـر سلاسل التوريد، فمن خلال قياس البيانات المختلفة تصبح الشركات أكثـر استعدادًا لمواجهة أيّ اضطرابات محتملة، وتخفيف الأخطار الناتجة عنها، بالإضافة إلى توطيد العلاقات بيـن المورد والمستهلك، حيث إنَّ الفهمَ الصحيحَ لمكان وكمية الطعام الذي يتم هدره في جميع أنحاء سلسلة التوريد يُعدُّ خطوةَ انطلاقٍ حاسمة نحو معالجة هذا الأمر؛ وبناءً على تلك المعرفة يمكن اتخاذ قرارات مستدامة.

باستخدام حلول سلاسل التوريد المستدامة يمكن جمع البيانات اللازمة حول الكميات والخسائر المحتملة في مختلف مراحل سلسلة التوريد، بعدها يمكن مواءمة نوع البيانات التي تم جمعها مع أطر عمل مختلفة؛ ليصبح لدينا في النهاية مجموعة من المعاييـر التي يمكن من خلالها قياس كفاءة العمليات على طول سلسلة التوريد.

مع وضع قوانيـن ولوائح أكثـر صرامةً لهذا القطاع الحيويّ، ستصبح الأمور أكثـر شفافيةً، وهو أمر سيؤدي إلى فهم طبيعة سلسلة التوريد بشكل سليم؛ فاستخدام البيانات الصـحيحة لا يخفف الأخطار ويقلل هدر الطعام فحسب، وإنما يسمح أيضًا بسلاسل غذائية أكثـر كفاءةً في استخدام الموارد، ويزيد من الربحية، ويسمح للشركات ببيان مدى التزامها بتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

تتحمل العلامات التجارية للأغذية مسئوليةً مهمةً في تثقيف المستهلِكين حول هدر الطعام، من خلال التواصل بشكل أكثـر وضوحًا عبْـرَ استخدام علامات واضحة لتاريخ الصلاحية وظروف التخزين. على سبيل المثال، تطلق العلامات التجارية الكبـرى -مثل عملاق صناعة منتجـــات الألبــان الدنماركــيّ «Arla»- حملات لزيادة الوعي ببيانات تاريخ الصلاحية المكتوبة على العبوة والظروف المناسبة للتخزين.

أمر آخر، هو إعادة دمج مخلفات عمليات التصنيع مرَّةً أخرى في العملية الإنتاجية، أو إيجاد حلول لاستغلال هذه المخلفات؛ تطبيقًا لمبادئ الاقتصاد الدائريّ، وحدًّا من هدر الطعام. كما يمكن عمل شراكات بيـن مصنِّعي الأغذية وبنوك الطعام للتبـرع بأيّ كميات زائدة عن المخزون لدى هذه المصانع بدلًا من إعدامها.

وأخيرًا، فإنَّ المستهلك يحمل بدوره مسئوليةً مهمةً تتمثل في التسوق المسئول، والتخطيط الذكيّ للوجبات؛ لمنع هدر الطعام، سواء أكان زائدًا عن الحاجَةِ أم منتهيَ الصلاحيةِ. وإنه من الواجب علينا أنْ ندرك قيمة كل ذرة طعام والموارد الكبيـرة التي استُخدمت لإنتاجها؛ فكل وجبة نتخلص منها تمثل حلمًا لمئات الملاييـن من البشر.

الصناعات الغذائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى