الأشجار تعاني من السعال نتيجة لتغير المناخ
الأشجار تعاني من السعال نتيجة لتغير المناخ
لا شكَّ في أنَّ للأشجارِ والنباتاتِ دورًا حاسمًا في مواجهة الاحتباس الحراريّ، من خلال امتصاصها لثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين، وهي العملية التي تخفف من تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجويّ. كما تحافظ الأشجارُ والنباتات أيضًا على التنوع البيولوجيّ، وتحسين جودة التربة؛ مما يعزز الاستدامةَ البيئيةَ، ويقاوم التدهورَ البيئيّ الناجمَ عن الاحتباس الحراريّ؛ فإنَّ دورَ النباتات في تقليل الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الهواء -بشكل عامّ- يجعلها عنصرًا أساسيًّا في مكافحة الظواهر البيئية السلبية.
لذا، يمكننا اعتبار الأشجَار -والغطاء النباتيّ بشكل عامّ- درعَ الوقاية الأول في وجه التغيُّرات المناخية، تلك التغيُّرات التي أصبحنا نشعر بها، ونعاني من تأثيراتها بشكل كبير، كذلك مختلف الأنظمة الحيوية من حولنا، حتى الأشجَار نفسها أصبحت تعاني!
ضَعف القدرة على امتصاص CO2
وفقًا لدراسة جديدة نُشِرَتْ في مجلة أكاديمية العلوم الوطنية – Proceedings of the National Academy of Sciences، توصَّل باحثون من جامعة بنسلفانيا إلى أنَّ الأشجارَ الواقعةَ في المناطق الأكثر دفئًا وجفافًا أصبحت تعاني للقيام بدورها الحيويّ الأهم، والمتمثل في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون؛ ما يعني أنَّ الأشجارَ قد تتحول إلى حَلٍّ أقلَّ كفاءةً في مجابهة التأثيرات السلبية للاحتباس الحراريّ، الناتج عن البصمة الكربونية للأنشطة البشرية.
النتيجة الصادمة التي توصلت إليها الدراسة جعلت القائمين عليها يصفون الأشجارَ في المناطق الجافة والدافئة بأنها -على سبيل المجاز- تعاني من السعال، وهو ما أكده “ماكس لويد” أستاذ البحوث المساعد في علوم الأرض بجامعة بنسلفانيا، والمؤلِّفُ الرئيسيّ للدراسة، حيث أشار إلى حقيقة مخيفة، هي أنَّ الأشجارَ في تلك المناطق تعيد إرسال ثاني أكسيد الكربون مباشرةً إلى الغلاف الجويّ بنسبة أعلى كثيرًا، مقارنةً بالأشجارِ في الظروف المناخية المعتدلة.
ولفهم ما سبق بشكل أوضح، ينبغي لنا فهم عملية التمثيل الضوئيّ، التي تقوم بها النباتات والأشجار. ويمكن تلخيصها بأنها عملية تقوم فيها الأشجار بإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجويّ، لتقوم باستغلاله في عمليات النمو الخاصة بها، ولكن عند وجود ظروف إجهادية -مثل الحرارة والجفاف- يقوم النبات بإطلاق ثاني أكسيد الكربون مرَّةً أخرى إلى الغلاف الجويّ، وهي عملية تُعرف باسم التنفس الضوئيّ “photorespiration”.
تأثير الاحترار في سلوك الأشجار
من خلال تحليل مجموعة بيانات عالمية لأنسجة الأشجار، أظهر فريقُ البحثِ أنَّ معدلَ التنفسِ الضوئيّ يصل إلى الضعفينِ في المناخات الدافئة، خاصةً عندما تكون المواردُ المائيةُ المتاحةُ للنباتات محدودةً. كما وجدوا أنَّ الوصولَ إلى معدلِ تنفسٍ ضوئيّ أعلى من الطبيعيّ في المناخات شبه الاستوائية يتطلب متوسط درجات حرارة على مدار اليوم يصل إلى 20 درجةً مئويةً، ويزيد المعدل بزيادة الحرارة.
هذه النتائج الصادمة ستجعل كثيرين يعيدون النظرَ في الاعتقاد الشائع حول دور النباتات والأشجار المساعد على خفض نسبة الكربون في الغلاف الجويّ! كما أظهرتِ الدراسةُ أيضًا التحول في سلوك النباتات للتكيف مع التغيُّرات المناخية، حيث لاحظ الباحثون أنه مع ارتفاع درجات الحرارة، تكون النباتاتُ والأشجارُ أقلَّ قدرةً على سحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجويّ؛ ما سيقود -بالضرورة- إلى تراجع دورها الحاسم في مجابهة الاحترار العالميّ.
وقال “لويد” معقبًا على هذه النتائج: «النباتات والمناخ مرتبطانِ بشكل لا يتجزأ، كما أنَّ أكبر عملية سحب لغاز ثاني أكسيد الكربون من غلافنا الجويّ تتم من قِبل الكائنات، التي تقوم بعملية التمثيل الضوئيّ، تلك العملية التي تعتبر حجرَ الزاويةِ في تشكيل الغلاف الجويّ؛ ما يعني أنَّ أيّ تغيرات صغيرة في هذه العملية سيكون لها تأثيرات كبيرة».
تمتص النباتاتُ -حاليًّا- حوالي 25٪ من ثاني أكسيد الكربون، الناتج عن الأنشطة البشرية كل عامٍ، وهذا وفقًا لوزارة الطاقة الأمريكية، ولكن من المرجح أنْ تقلَّ هذه النسبةُ في المستقبل مع ارتفاع درجات الحرارة، خصوصًا مع قلة توافر المياه.
ماذا يحمل المستقبل لنا؟
من الناحية النظرية، فزيادة ثاني أكسيد الكربون في الهواء تعني المزيد من الغذاء للنباتات والأشجار. ولكن في ظل التغيُّرات الحادة في المناخ، وما تشير إليه الدراسة من تقلص قدرة النباتات على امتصاص ثاني أكسيد الكربون في ظل هذه التغيرات – فإنَّ المستقبلَ لا يبدو جيدًا.
في الدراسة نفسها اكتشف الباحثون أنَّ التباينَ في وفرة مجموعات الميثوكسيل (CH3O-) التي نجدها في الخشب – يعمل باعتباره مؤشرًا على درجة التنفس الضوئيّ في الأشجار، وهو ما قد يساعد فِرق البحث الأخرى على تتبع قدرة امتصاص النباتات والأشجار لثاني أكسيد الكربون في مختلف المناطق، وربط النتائج بمعدلات التغيُّر في المناخ؛ للحصول على صورة أكثر وضوحًا لما قد يحمله لنا المستقبل.
هذه الدراسة المثيرة للاهتمام تُعَدُّ جرسَ إنذارٍ لخطورة التغيُّرات المناخية، تلك التغيُّرات التي يمكنها بين عشية وضحاها أنْ تُحولَ الحلولَ الفعَّالةَ إلى حلولٍ غير نافعةٍ، مثل النموذج الذي استعرضناه في هذا المقال، حيث تبين أنَّ الأشجارَ والنباتاتِ نفسها لن تظل قادرةً على مجابهة التغيُّرات المناخية، وإنما ستتأثر هي أيضًا.
إنَّ تحقيقَ أهداف التنمية المستدامة يتطلب منا جميعًا العمل بشكل متكامل على التحول بأنشطتنا البشرية إلى الاستدامة، وخفض بصمتها الكربونية؛ لإعطاء فرصة أفضل لأنظمتنا البيئية للتعافي، حتى تستطيع هي الأخرى الإسهام في مجابهة التغيُّرات المناخية.