الاستدامة البيئية لاستهلاك المحتوى الرقمي
الاستدامة البيئية لاستهلاك المحتوى الرقمي
في عالمٍ متسارع الإيقاع، لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة اتصال، وإنما أصبح جزءًا أساسيًّا من نمط حياتنا اليومي. من الاستيقاظ صباحًا وتصفح الأخبار، إلى الاستغراق في ساعاتٍ من مشاهدة المسلسلات والبث المباشر، وحتى إنهاء اليوم بمؤتمر افتراضي أو جلسة تدريبية عبر الإنترنت.
من هنا، تشير الدراسات إلى أنَّ استهلاك الإنترنت حول العالم -بدءًا من التصفح وصولًا إلى منصات الفيديو الضخمة- يستهلك وحده نسبةً هائلة من الطاقة، تتجاوز في بعض الحالات استهلاك دول بأكملها، حيث يقضي المستخدم العادي ما يزيد عن 40% من وقت استيقاظه متصلًا بالإنترنت. وهذا يعني أنَّ مجرد الاستمرار في مشاهدة المحتوى الرقمي دون وعي بيئي قد يدفع كوكبنا نحو مستقبلٍ مثقلٍ بالتلوث والانبعاثات الكربونية.
قد يبدو كل ذلك عاديًّا، غير أنَّ وراء الشاشة واقعًا بيئيًّا يدعو إلى أنْ نسأل: هل تساءلنا يومًا عن الأثر البيئي لكل مقطع فيديو نشاهده أو كل صورة نحفظها في السحابة الإلكترونية؟ في هذا المقال تسلط حماة الأرض الضوء على التأثيرات البيئية لاستهلاك المحتوى الرقمي، وتستعرض ما قد يترتب على هذا النمو المتسارع من ضغوط على كوكبنا، كما تستعرض ممارسات يسيرة يمكن أن تُحدث فرقًا ملموسًا، وتسهم في توجيه التكنولوجيا نحو مسار أكثر وعيًا واستدامة؛ فتابعوا القراءة.
البصمة الرقمية وأثرها البيئي
وراء كل نقرة على الإنترنت، وكل بث مباشر، وكل جلسة افتراضية؛ هناك مراكز بيانات عملاقة تعمل بلا توقف، وتستهلك كميات هائلة من الكهرباء، وتطلق انبعاثات كربونية تسهم في تفاقم الاحتباس الحراري؛ ففي عام 2020 وحده بلغ حجم الانبعاثات الناجمة عن قطاع التكنولوجيا ما بين 1.0 إلى 1.7 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وهي نسبة تفوق ما تنتجه بعض الدول الصناعية الكبرى.
ومع تزايد الطلب على المحتوى عالي الجودة، فإن منصات الفيديو تُعدُّ من أكبر ما يسهم في استهلاك الطاقة؛ إذ إنَّ مشاهدة ساعة واحدة من فيديو بجودة عالية (HD) قد تعني انبعاثات كربونية تكافئ قيادة سيارة لمسافة 250 مترًا، حسب ما ذكرته تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي! أما محادثات الفيديو -التي باتت جزءًا أساسيًّا من حياتنا المهنية والشخصية- فتُنتج كميات هائلة من البيانات التي تحتاج إلى معالجة مستمرة في مراكز البيانات؛ مما يرفع استهلاك الطاقة بشكل كبير.
تأثير التكنولوجيا في موارد الأرض
ولا تقتصر أزمة التكنولوجيا على استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية، وإنما تمتد أيضًا إلى استنزاف المعادن والموارد الطبيعية؛ فمع انتشار الأجهزة الذكية وأدوات الترفيه، يزداد الطلب على معادن نادرة مثل الليثيوم والكوبالت والذهب، وهذا يستدعي حدوث عمليات استخراج مكثفة تُدمِّر الغابات، وتلوث مصادر المياه، وتهدد النظم البيئية الهشة. وتشير التقديرات إلى أن تصنيع الأجهزة الإلكترونية وحده يستهلك نحو 92% من إجمالي المعادن المستخدمة للفرد.
وفي ظل هذه الحقائق، يصبح تحقيق هدف التنمية المستدامة المتعلق بالاستهلاك والإنتاج المسئولين تحديًا كبيرًا؛ ففي حين تزداد الحاجة إلى التكنولوجيا، ينبغي أيضًا البحث عن طرقٍ أكثر كفاءةً لإنتاجها دون الإضرار بالكوكب، ومن هنا تأتي أهمية دعم الابتكار في مجال إعادة التدوير وإطالة عمر الأجهزة بدلًا من استبدالها بشكل متكرر.
الطاقة المتجددة ومستقبل المحتوى الرقمي
لا يمكن إنكار أنَّ الاعتماد على الطاقة المتجددة يمكن أنْ يقلل بشكلٍ كبير من التأثيرات البيئية لاستهلاك المحتوى الرقمي؛ ففي حال تمكّنا من إزالة الكربون عن مصادر الكهرباء عالميًّا، يمكن خفض انبعاثات الكربون الناتجة عن استهلاك الإنترنت إلى 12% فقط من الحد المسموح به للفرد بحلول عام 2030. ومع ذلك، لا تزال هناك مخاوف تتعلق باستخدام المعادن النادرة، التي تتطلب حلولًا مستدامة مثل إطالة عمر الأجهزة، وإعادة تدوير المواد الإلكترونية، والحد من إنتاج الأجهزة الجديدة قدر الإمكان.
غير أن سؤالًا مهمًّا يفرض نفسه هنا: هل يمكننا حقًّا الاستمتاع بالمحتوى الرقمي دون الإضرار بالبيئة؟ قد يكمن جزء من الحل في التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، وقد بدأت بعض شركات التكنولوجيا الكبرى بالفعل في الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتشغيل مراكز البيانات، وهو ما أسهم في تقليل بصمتها الكربونية. وإذا أمكن إزالة الكربون من مصادر الكهرباء على نطاق عالمي، فإنَّ ذلك من شأنه خفض انبعاثات الإنترنت، ودعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة الهدف (7) “طاقة نظيفة وبأسعار معقولة”.
كيف يمكننا أن نكون جزءًا من الحل؟
لا يتطلب الأمر تغييرات جذرية لنقلل تأثيرنا البيئي الرقمي، وإنما يكفي أن نبدأ باتخاذ خطواتٍ صغيرة؛ فبدلًا من شراء هاتفٍ جديد كل عام، يمكننا التفكير في إصلاح الهاتف الحالي وإطالة عمره، وبدلًا من حفظ مئات الملفات غير الضرورية في السحابة، يمكننا تصفية ما نحتاجه فعلًا؛ مما يقلل الحمل على مراكز البيانات.
كذلك فإنَّ إعادة تدوير الأجهزة الإلكترونية، ودعم الشركات التي تستخدم ممارسات تصنيع مستدامة، والبحث عن حلول تكنولوجية صديقة للبيئة – كل ذلك يُساعد على تحقيق مستقبلٍ رقميٍّ غير ضار بالبيئة، حيث يجب أنْ يسهم التطور الرقمي في حماية البيئة بدلًا من الإضرار بها، ويكون جزءًا من الحلول التي تعزز الاستدامة.
وفي الختام، تؤكد حماة الأرض أنَّ الإنترنت سيظل جزءًا أساسيًّا في حياتنا اليومية، ومن المتوقع أنْ يتزايد استخدامه، خاصة مع التقدم السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. ومن هنا، تبرز أهمية اتخاذ خطوات مستدامة تهدف إلى حماية البيئة، وضمان مجتمع صحي خالٍ من البصمة الكربونية.