البنوك تمول الفوضى المناخية وتدعم الوقود الأحفوري
البنوك تمول الفوضى المناخية وتدعم الوقود الأحفوري
في عام 2024 الذي سُجِّل فيه أعلى متوسط حرارة على الإطلاق، وتجاوزت فيه مستويات الاحترار العالمية الحدّ الذي نصِّت عليه اتفاقية باريس؛ كان من المتوقع أن تزداد وتيرة الالتزام المناخي، خاصة من جانب المؤسسات التي سبق أن تعهّدت بدعم التحول نحو الطاقة النظيفة، وعلى رأسها البنوك.
غير أن ما حدث كان مناقضًا تمامًا لما تقتضيه المسئولية المناخية؛ فقد كشف تقرير حديث ناقشه موقع وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal) أن البنوك العالمية موّلت الوقود الأحفوري بنحو 900 مليار دولار خلال ذلك العام، بزيادة حادة وصلت إلى 23% مقارنة بعام 2023، وفقا لما جاء في النسخة 16 من تقرير “Banking on Climate Chaos“، الصادر عن تحالف من منظمات بيئية، في خطوة مثّلت تراجعًا خطيرًا عن تعهداتها المناخية، وتنذر بعقود جديدة من الاعتماد على مصادر الطاقة الأكثر تلويثًا.
يكشف هذا التناقض الحاد عن إخفاق البنوكِ في ترجمة تعهداتها البيئية إلى أفعال ملموسة؛ مما يُفقد الالتزامات الدولية مصداقيتها، ويزيد من صعوبة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف رقم (13) “العمل المناخي” الذي ينص على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمكافحة تغير المناخ وآثاره.
تمويل ضخم للوقود الأحفوري
مما هو ملحوظ في هذا التقرير أنَّ التمويل المقدم من هذه البنوك لا يقتصر على تمويل مشروع معين فحسب، وإنما يشمل جميع أشكال الدعم المالي التي يقدمها65 بنكًا من أكبر البنوك العالمية لحوالي2730 شركة تنشط في مختلف مراحل سلسلة الوقود الأحفوري، من الاستكشاف إلى الحرق، حيث يغطي التمويل أشكالًا متعددة، مثل إصدار السندات والأسهم، والقروض المباشرة، وقروض الشركات، والتسهيلات الائتمانية المتجددة.
هذا التوسع المالي الشامل يُمكّن شركات الوقود الأحفوري من تعزيز بنيتها التحتية، وتطوير مشروعات جديدة، وتوسيع عملياتها في الوقت الذي تُجمع فيه التقديرات العلمية من منظمات كالوكالة الدولية للطاقة (IEA) على أن أي توسع جديد في الوقود الأحفوري يتعارض بشكل مباشر مع هدف الحد من الاحترار العالمي.
وبناء على ذلك، فإن مثل هذه التمويلات لا تمثل مجرد أخطاء استراتيجية فحسب، وإنما هي قرارات تُقوِّض المسار البيئي العالمي، وتتناقض مع أهداف مثل الهدف رقم (7) “طاقة نظيفة وبأسعار معقولة” الذي يدعو إلى توسيع استخدام الطاقة المتجددة، والحد من الاعتماد على المصادر الأحفورية.
البنوك الأمريكية تتصدر قائمة الممولين للتلوث
ولم يكن مفاجئًا أن تكون البنوك الأمريكية في صدارة القائمة السوداء؛ فقد جاء (JPMorgan Chase) في المرتبة الأولى بتمويل قدره 53.5 مليار دولار، يليه (Bank of America)بـ46 مليار، ثم (Citigroup)بـ44.7 مليار، أما على المستوى الأوروبي، فكان (Barclays) هو البنك الوحيد الذي ظهر ضمن أول 12 مركزًا في تلك القائمة.
ويُعدّ هذا التمركز مؤشرًا خطيرًا؛ لأن ما يقرب من نصف التمويل ذهب إلى شركات وقود أحفوري أمريكية، وهي من بين أكبر منتجي النفط والغاز والميثان في العالم، وتُظهر هذه الأرقام أن البنوكَ الكبرى لم تكتفِ بعدم تقليص تمويلها للوقود الأحفوري، وإنما رفعت مستوى دعمها بشكل مطّرد؛ إذ تجاوزت الزيادة لدى كل من JPMorgan، Citigroup، Bank of America،Barclays مبلغ 10 مليارات دولار خلال عام واحد.
هذا الدعم المالي السخي، في ظل تفاقم الكوارث المناخية، لا يمكن النظر إليه إلا باعتباره تسريعًا لوتيرة الفوضى المناخية، وعقبة أمام الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة” الاستهلاك والإنتاج المسئولان”، حيث يؤدي استمرار دعم الوقود الأحفوري إلى دورة إنتاج ملوثة تُكرّس استنزاف الموارد وتفاقم الانبعاثات.
الانسحاب من الالتزامات المناخية
ما يزيد الصورة قتامة أن بعض البنوكِ الكبرى لم تكتفِ بزيادة التمويل، وإنما انسحبت من تحالفات المناخ التي كانت عضوًا مؤسسًا فيها، مثل تحالف صافي صفر انبعاثات (Net-Zero Banking Alliance) التابع للأمم المتحدة، وقد جاءت هذه الانسحابات في سياق سياسي متحول داخل الولايات المتحدة، مع صعود خطابات مناهضة للمناخ، واتهامات من بعض المشرّعين بأن التعاون البيئي بين البنوك قد يكون شكلًا من أشكال “التآمر ضد الصناعات الأمريكية”.
وهو ما يُظهر مدى هشاشة الالتزامات الطوعية، ويؤكد ضرورة وجود قوانين وتشريعات ملزمة تُجبر البنوكَ على الالتزام بمسارات خفض الانبعاثات، حتى لا تبقى رهينة للتقلبات السياسية أو ضغوط السوق، وهذا ما يجعل من الضروري وجود أطر قانونية وتشريعات مُلزمة، تُجبر القطاع المالي على تبنّي مسارات مناخية واضحة وقابلة للقياس، بعيدًا عن التلاعب بالأرقام أو التحايل على السياسات.
أين ذهبت وعود الاستدامة؟
رغم تبنّي بعض البنوكِ لسياسات خضراء تعلن فيها وقف تمويل مشروعات الفحم أو الحفر في مناطق حساسة، فإن التقرير يكشف عن أساليب التفاف ممنهجة، أبرزها استمرار تقديم قروض عامة للشركات التي تدير مشروعات وقود أحفوري، وهو ما يفتح الباب أمام تمويل غير مباشر بمليارات الدولارات.
وتشير هذه الممارسات إلى أن بعض البنوك تعتمد على لغة مزدوجة؛ فهي تعلن عن دعمها للطاقة النظيفة من جهة، في حين أنها تموّل في الخفاء توسيع مشروعات ملوثة من جهة أخرى، هذه التناقضات لا تؤثر فقط في مصداقية القطاع المالي، وإنما تُهدد أيضًا الهدف رقم (16) من أهداف التنمية المستدامة” السلام والعدل والمؤسسات القوية”؛ لأن غياب الشفافية والحوكمة السليمة يؤدي إلى تفشي الممارسات غير الأخلاقية.
تحذيرات الخبراء
وفي ظل هذا التلاعب المالي الممنهج، تتعالى أصوات الخبراء محذّرة من تداعيات استمرار البنوكِ في تمويل الوقود الأحفوري دون قيود؛ فقد أكّد بن كالدكوت (Ben Caldecott)، مدير مجموعة التمويل المستدام في جامعة أوكسفورد، أن المشكلة لا تكمن في مبدأ التمويل نفسه، وإنما في غياب الالتزام الحقيقي من قبل البنوك بخطط انتقالية نحو الطاقة النظيفة، وحذّر من أن “كميات هائلة من التمويل تُمنح لشركات لا تنوي أصلًا تقليل انبعاثاتها، وإنما تخطط لزيادتها”، في تجاهل واضح لحقيقة التحول المناخي، وابتعادٍ خطير عن أهداف التنمية المستدامة.
ومن جهتها، أوضحت لوسي بانسون(Lucie Pinson) ، المديرة التنفيذية لمنظمة Reclaim Finance، من أن أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع حجم التمويل في عام 2024 كان الانخفاض في أسعار الفائدة، وهذا ما جعل الاقتراض أكثر جاذبية لشركات الوقود الأحفوري، حتى وإن ترتّب على ذلك مخاطر بيئية تتعارض مع أهداف التنمية المستدامة.
أما أليسون فاجانس-تيرنر (Allison Fajans-Turner)، مسئولة السياسات في شبكة Rainforest Action Network؛ فقد لخّصت المشهد القاتم بقولها: «بدون تنظيم مُلزم سيبقى تمويل الفوضى المناخية هو الاستراتيجية الأساسية للبنوك؛ مما سيُدمّر اقتصادنا وكوكبنا في آنٍ واحد».
تعد هذه التحذيرات ناقوس خطر يوجب على صانعي السياسات التحرّك العاجل نحو وضع ضوابط حقيقية تضمن توجيه رأس المال العالمي نحو المسار الصحيح، بما يخدم العدالة المناخية ويدعم تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، خصوصًا تلك المتعلقة بالمناخ، والطاقة النظيفة، والمؤسسات القوية؛ فالعالم لا يحتمل مزيدًا من الوعود الفضفاضة، وإنما يحتاج إلى التزام ملموس ومُنظّم يُنقذ ما تبقى من توازن الأرض.
وفي ضوء هذه الحقائق، يُعدّ استمرار تمويل الوقود الأحفوري من قِبل البنوك العالمية تهديدًا منظمًا للمناخ وتقويضًا مباشرًا للجهود الدولية الهادفة إلى حماية الكوكب. ومن هذا المنطلق، تُشدّد حماة الأرض على أن مواصلة هذا النهج المالي تُعبّر عن فشل في التكيّف مع متطلبات المرحلة، وتُناقض جوهر الالتزامات المعلنة تجاه الاستدامة؛ ولذلك تدعو إلى إعادة توجيه الاستثمارات نحو مشروعات الطاقة النظيفة التي باتت ضرورة استراتيجية لإعادة ضبط المسار المالي العالمي بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة.