خطى مستدامة

التأثيرات السلبية للتلوث الضوئي وكيفية التغلب عليها

التأثيرات السلبية للتلوث الضوئي

التأثيرات السلبية للتلوث الضوئي وكيفية التغلب عليها

كانت سماء البشرية فيما مضى متألقةً بأضواء النجوم والكواكب المختلفة في مجرتنا -مجرة درب التبانة- حيث كان البشر يحظون في الليل بمشهد ساحر لهذه النجوم والكواكب. ولكن، لم يعد هذا ممكنًا الآن؛ بسبب التلوث الضوئيّ، إذْ تُشير الإحصاءاتُ إلى أنَّ الأغلبيةَ من سكان العالم لم يروا هذا المشهد، ولو لمرَّة واحدة خلال حياتهم!

يأتي التلوث الضوئيّ نتيجةً لاستخدام الأضواء الاصطناعية التي تتلألأ للأعلى، صانعةً ما يُعرف باسم “وهج السماء“، وهي ظاهرة تكون فيها السماءُ -أو جزء منها- مضيئةً ليلًا بشكل غير طبيعيّ؛ ما يؤدي إلى حجب النجوم والأجرام السماوية الأخرى عن الرؤية.

إنَّ معدلات التلوث الضوئيّ -لسوء الحظ!- في تزايد مستمر؛ لذا نناقش في هذا المقال التأثيرات السلبية للتلوث الضوئيّ في تحقيق التنمية المستدامة، وكيفية الحد من هذه التأثيرات.

تقرير مُفصل عن التلوث الضوئيّ

تُعتبر ميكانيكية حدوث التلوث الضوئيّ بسيطةً، فالأشعة المنطلقة إلى السماء من مصادر الإضاءة الاصطناعية، تجد أمامها جزيئات غازات الغلاف الجويّ، التي تقوم بعكس هذه الأشعة مرَّةً أخرى إلى الأرض.

لكن، ما الأضرار الناتجة عن هذا التلوث الضوئيّ، بخلاف عدم مقدرتنا على رؤية مجرة درب التبانة؟ للإجابة عن هذا السؤال، قامتِ الجمعيةُ الدوليةُ للسماء المظلمة “Dark Sky” -التابعة للاتحاد الدوليّ لحفظ الطبيعة- بنشر تقرير من 160 صفحةً، يناقش أجاب، تهديدات التلوث الضوئيّ، وكيف يمكننا تقليله؟

عمل على كتابة التقرير عالِمُ البيئة والأستاذ المساعد في معهد البيئة والاستدامة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس “ترافيس لونجكور”، وتسعة باحثين آخرين.

قال لونجكور: «إنَّ التقريرَ يُعدَّ مرجِعًا شاملًا لأيّ إنسان مهتم بالتلوث الضوئيّ، حيث يعرض بالتفصيل أضرارَ التلوث الضوئيّ، ويسلط الضوء على أهمية “محميات السماء المظلمة”، ويقدم دراسات حالة وإرشادات لتقليل استخدام الأضواء الاصطناعية».

لا شك في أنَّ الابتكاراتِ التكنولوجيةَ وظهورَ المدنِ الجديدةِ أدَّيَا إلى زيادة سريعة في الاعتماد على حلول الإضاءة الاصطناعية؛ ففي السنوات الخمس والعشرين الواقعة بين عام 1992 و2017 وجدتِ الأبحاثُ المعتمدةُ على الأقمار الصناعية أنَّ التلوثَ الضوئيّ العالميّ قد زاد بنسبة 49% على الأقل، ولكن هذه النسبة قد تكون أعلى من ذلك بكثير.

في العقود الأخيرة كان جليًّا التحولُ -بشكل كبير- إلى الاعتماد على حلول الإضاءة القوية، التي من أبرزها مصابيح LED كاملة الطيف. المشكلة هنا هي أنَّ مصابيحَ LED تقوم بإشعاع المزيد من الضوء الأزرق والأخضر، مقارنةً بحلول الإضاءة التقليدية في السابق.

التأثيرات السلبية للتلوث الضوئيّ

تأثيرات التلوث الضوئي عديدة، أبرزها الخلل في الساعة البيولوجية للإنسان، مما يؤثر -سلبًا- في جودة النوم، كما يتلاعب بقدرة الجسم على إنتاج الهرمونات المرتبطة بالضوء. على سبيل المثال، يتم إنتاج هرمون النوم “الميلاتونين” في أثناء النهار، ولكن يتم إطلاقه في الجسم عندما يحل الليل؛ ما يحفز -بدوره- إنتاج هرمونات أخرى تساعد الجسم على تجديد شبابه، والتعامل مع الأمراض، ولكن الإضاءات الساطعة تُفسد هذه العملية.

لا يزعج التلوثُ الضوئيّ حياةَ الإنسانِ فحسب، وإنما تمتد آثاره إلى الحياة البرية والنظم البيئية، فإنَّ علماءَ الأحياءِ يعتبرونه شكلًا من أشكال فقدان الموائل، حيث تتجنب الحيواناتُ -غالبًا- المناطقَ ذات الإضاءة الساطعة، تاركةً بهذا مواطنها الأصلية.

سلوكيات الحيوانات -وفقًا للتقرير- متكيفة مع دورة النهار والليل التي تبلغ 24 ساعةً، بالإضافة إلى الدورة الموسمية التي تستمر 12 شهرًا؛ ما يعني أنَّ الإضاءةَ الزائدةَ في الوقت غير المناسب تُرْبِكُ دورةَ حياة عديدٍ من الكائنات الحية، وتؤثر -بشكل سلبيّ- في عمليات التكاثر والهجرة.

تستخدم السلاحف البحرية -على سبيل المثال- الضوءَ باعتباره دليلًا لها، حيث تضع وتدفن بيضها على الشواطئ ليلًا، حيث يفقس البيض، وتتوجه صغار السلاحف إلى البحر مرَّةً أخرى. ولكن عند وجود كثير من الأضواء الاصطناعية، يصبح هؤلاء الصغار مُشَوَّشِينَ؛ فيتحركون في الاتجاه الخاطئ.

تُرْبِكُ الأضواءُ الحشرات أيضًا، حيث تتجمع حول مصابيح الشوارع، وتصبح فريسةً سهلةً. مثالٌ آخرُ هو الطيور المهاجرة التي تسافر ليلًا، حيث تصطدم بأبراج الاتصالات والنوافذ ذات الإضاءات الساطعة. ويؤثر التلوث الضوئيّ في النباتات أيضًا، مما يعطل مراحل دورة الحياة الرئيسة، التي يحكمها وجود الضوء، وهو ما يؤثر -بالتبعية- في الحيوانات التي تعتمد على هذه النباتات -بشكل أساسيّ- في سلسلتها الغذائية.

كيفية الحد من التلوث الضوئيّ

قبل القرن السابع عشر كانتِ الحضاراتُ الإنسانيةُ تحرق الزيت أو الدهون لأجل الإضاءة، ولم تكن لديها إنارة للشوارع؛ لذا لم يكن التلوث الضوئيّ موجودًا، ولكن مع ظهور الكهرباء في سبعينيات القرن التاسع عشر، انتشرتِ الأضواءُ الخارجيةُ بوتيرة متسارعة.

ما سبق جعل رؤيةَ السماء المظلمة ليلًا -بشكل طبيعيّ- أمرًا غير ممكن إلا في بعض المناطق النائية وغير المأهولة. وعلى الرغم من أنَّ الضوءَ ليلًا ضروريّ للحفاظ على سلامة وإنتاجية المدن الحديثة، فإنَّ التقدمَ التكنولوجيّ في كفاءة عمل الإضاءات، وانخفاض تكلفة شرائها وتشغيلها؛ أدَّيَا إلى إساءة استخدامها بشكل مفرط.

المثير للاهتمام هنا، هو أنَّ الإضاءات الزائدة ليلًا قد تأتي بنتيجة عكسية، فالطرق ذات الإضاءة الساطعة -على سبيل المثال- يمكن للوهج المفرط الناتج عنها أنْ يُشتت انتباه السائقين، ويقلل من الرؤية الليلية؛ مما يؤدي -بالضرورة- إلى التأثير في سلامة المارَّة.

تشمل الحلولُ الأخرى تغييرَ درجة حرارة لون الإضاءات الخارجية، فاللون الأزرق يعتبر ضارًّا بشكل خاص، وهو الضوء المنبعث من مصابيح LED الأكثر انتشارًا في وقتنا الحاليّ، حيث يتسبب في قدر كبير من الاضطرابات البيولوجية لمختلف الكائنات.

 لذا، يُعدُّ الاعتمادُ على الإضاءات الدافئة (Warm light) أقل ضررًا، بل قد يساعد على تعزيز الرؤية الليلية للحيوانات. ويمكن أيضًا أنْ تساعد مستشعراتُ الحركةِ -التي تعمل على تشغيل وإطفاء الأنوار بشكل تلقائيّ- على معالجة هذه المشكلة بكل تأكيد.

والآن، حان دورك لتأخذ خطوةً مستدامةً، وتساهم في الحد من التلوث الضوئيّ، سواء بتطبيق الإرشادات السابقة أم بنشر الوعي بهذه القضية المهمة بين أصدقائك وذويك؛ وهذا للإسهام في تحقيق عدد من أهداف التنمية المستدامة؛ أبرزها الهدف رقم (14) الحياة تحت الماء، والهدف رقم (15) الحياة في البر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى