علوم مستدامة

الثوريوم.. طريق جديد نحو الطاقة النووية الأكثر أمانًا واستدامة

الثوريوم

الثوريوم.. طريق جديد نحو الطاقة النووية الأكثر أمانًا واستدامة

مع تصاعد أزمة المناخ عالميًّا، تزداد الحاجة إلى مصادر طاقة نظيفة وآمنة يمكن الاعتماد عليها على المدى الطويل، وفي هذا السياق، تبرز الطاقة النووية باعتبارها خيارًا مطروحًا لتوليد الكهرباء دون انبعاثات كربونية كبيرة، غير أنها ترتبط بمخاطر بيئية وأمنية معقدة، خاصة بسبب الاعتماد الواسع على اليورانيوم وما يرتبط به من مخاطر بيئية وأمنية؛ لذلك يبرز عنصر “الثوريوم” باعتباره بديلًا محتملًا يمكن أن يفتح فصلًا جديدًا في مستقبل الطاقة النووية.

تستعرض حماة الأرض في هذا المقال الوضع الراهن لتكنولوجيا وقود الثُّوريوم النووي، من حيث الانتشار الجغرافي لاحتياطاته، وخصائصه الفيزيائية والكيميائية التي تميّزه عن اليورانيوم، إلى جانب المزايا البيئية والأمنية التي يوفرها، والتحديات التقنية والاقتصادية المرتبطة بتطوير مفاعلاته.

كما تسلط الضوء على الدور المحتمل لهذا المصدر البديل في دعم التحول نحو أنظمة طاقة أكثر استدامة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والانبعاثات المرتفعة، بما يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة في مجالات الطاقة النظيفة، والعمل المناخي، والاستهلاك المسئول؛ فتابعوا القراءة.

الطاقة النووية والانبعاثات

تُظهر الدراسات أن دورة حياة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المرتبطة بالطاقة النووية تعد من بين الأدنى مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى؛ ففي حين تسجل محطات الفحم والنفط انبعاثات تتراوح بين 600 إلى 1200 جرام مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكل كيلوواط/ساعة، فإن مفاعلات الماء الخفيف والثقيل تُنتج ما معدله 65 جرامًا فقط، بحسب دراسة شاملة أعدها لينزن عام 2008).

هذا التفاوت الكبير يضع الطاقة النووية في موقع متقدم ضمن خيارات التحول إلى مصادر طاقة منخفضة الكربون، وتُشير التقديرات إلى أن الطاقة النووية، رغم ما يرافقها من تحديات تتعلق بالنفايات وإعادة المعالجة، تظل من أكثر المصادر فعالية من حيث الانبعاثات، متفوقة حتى على بعض تقنيات الطاقة الشمسية.

تشمل انبعاثات دورة الحياة أيضًا مراحل استخراج المواد الخام، والتصنيع، والنقل، والتشغيل، والمعالجة النهائية، وعلى سبيل المثال، فإن عملية إعادة المعالجة النووية -رغم إسهامها في تقليل النفايات- تتطلب كميات كبيرة من الطاقة؛ مما يجعلها مصدرًا إضافيًّا لانبعاثات الكربون.

وفي الوقت الذي توفر فيه الطاقة النووية حلًّا واعدًا من حيث الانبعاثات، تظل الحاجة قائمة لتطوير أنواع جديدة من الوقود والمفاعلات تضمن أمانًا أكبر وأثرًا بيئيًّا أقل، وهو ما يعيد طرح الثُّوريوم باعتباره مفتاحًا محتملًا لهذا التغيير.

مفاعلات الغد واستراتيجية الثوريوم

تشير التقديرات إلى أن عدد المفاعلات النووية حول العالم سيرتفع إلى 622 بحلول عام 2040، بعد إغلاق 123 مفاعلًا وتشغيل 308 مفاعلات جديدة، وهذا التوسع يقوده الطلب المتزايد على الطاقة في دول مثل الصين والهند، اللتين تتبنيان استراتيجيات طموحة لتلبية الاحتياجات المستقبلية.

في المقابل، تواجه بعض الدول، مثل فرنسا، تحديات كبيرة في الحفاظ على جاهزية مفاعلاتها الحالية؛ ففي سبتمبر 2022، كان 25 مفاعلًا فرنسيًّا خارج الخدمة إما للصيانة الدورية وإمَّا لإصلاح التآكل، ومثل هذه الوقائع توضح الحاجة إلى تحديث التكنولوجيا والتفكير في أنواع وقود نووي جديدة وأكثر مرونة.

المفاعلات النووية

بين الثوريوم واليورانيوم

الثوريوم هو عنصر طبيعي مشع، إلا أنه يختلف عن اليورانيوم في عدة جوانب تجعله أكثر جاذبية؛ فهو يمتلك قدرات إنتاجية تفوق اليورانيوم بـ200 ضعف، كما أنه متوفر بكميات أكبر، وتنتشر احتياطياته في دول عديدة حول العالم مثل الهند وأستراليا والبرازيل والولايات المتحدة وحتى مصر؛ مما يُقلل من احتمالات احتكاره أو انقطاعه، كما أن استخدامه في المفاعلات يُنتج نفايات مشعة أقل ضررًا وأقصر عمرًا؛ مما يخفف من أعباء التخزين والمعالجة طويلة الأجل.

وبخلاف اليورانيوم، لا ينشطر الثوريوم بشكل مباشر لإنتاج الطاقة، وإنما يحتاج إلى “تنشيط” داخل المفاعل، حيث يتحول إلى نوع خاص من اليورانيوم يمكنه الانشطار وإطلاق الطاقة، وتُظهر الدراسات أن هذه العملية -رغم تعقيدها بعض الشيء- أكثر كفاءة، ويمكن أن تؤدي إلى استهلاك أفضل للوقود.

ومع أن العالم لا يزال يعتمد إلى حد كبير على اليورانيوم، فإن التوسع المستقبلي في محطات الطاقة النووية قد يجعل من الضروري إعادة النظر في أنواع الوقود المستخدمة؛ فالثُّوريوم رغم التحديات التقنية والاقتصادية التي تعرقل استخدامه على نطاق واسع حتى اليوم، يظل مرشحًا قويًّا للعب دور مهم في تأمين مستقبل الطاقة النووية بطريقة أكثر استدامة وأمانًا.

بالإضافة إلى ذلك، يمتلك أكسيد الثُّوريوم نقطة انصهار أعلى (3300 درجة مئوية) مقارنة بأكسيد اليورانيوم (2865 درجة مئوية)، إضافة إلى توصيل حراري أفضل، ومقاومة عالية للإشعاع، وثبات هيكلي عند معدلات حرق تصل إلى 38 ميجاواط/كج، وهذا يمنحه أداءً متفوقًا داخل المفاعلات.

كذلك، يعتبر أكسيد الثوريوم أكثر استقرارًا كيميائيًّا من أكسيد اليورانيوم، ولا يتأكسد بسهولة إلى مركبات أعلى؛ مما يجعل من وقود الثوريوم خيارًا أكثر استدامة من الناحية الكيميائية والفيزيائية. ورغم أوجه الشبه في تصنيع وقود الثُّوريوم واليورانيوم، فإن مرحلة إعادة المعالجة وإعادة التشكيل تتطلب تقنيات أكثر تعقيدًا؛ مما يستدعي تطويرًا في البنية التحتية النووية. وفي الجدول الآتي نوضح لكم بشكل موجز أوجه المقارنة بين الثوريوم واليورانيوم.

وجه المقارنة الثوريوم اليورانيوم
الوفرة الجغرافية منتشر في دول عديدة (الهند، البرازيل، مصر، وغيرها) محدود التوزيع، وأكثر عرضة للاحتكار
الإنتاجية قادر نظريًّا على إنتاج طاقة تفوق اليورانيوم بـ200 مرة أقل إنتاجية مقارنة بالثوريوم
النفايات المشعة يُنتج نفايات أقل ضررًا وأقصر عمرًا يُنتج نفايات طويلة العمر وأكثر خطورة
طريقة التفاعل يحتاج إلى تحويل داخل المفاعل (إلى يورانيوم-233) قبل أن يصبح قابلًا للانشطار ينشطر مباشرة، ويُنتج الطاقة دون تحويل
كفاءة استهلاك الوقود أكثر كفاءة من حيث استهلاك الوقود كفاءة محدودة نسبيًّا
درجة انصهار الأكسيد 3300 درجة مئوية (أعلى) 2865 درجة مئوية (أقل)
الخصائص الحرارية والإشعاعية توصيل حراري أعلى، مقاومة للإشعاع، وثبات هيكلي عند معدلات حرق مرتفعة أداء أقل تحت الظروف نفسها

الدول الرائدة والتجارب العالمية

وفي هذا السياق، أجرت دول عديدة تجارب فعلية على وقود الثوريوم، منها الهند وكندا وألمانيا والبرازيل والصين، فيف حين تبدي دول أخرى مثل تركيا اهتمامًا متزايدًا، وتعتمد جدوى اعتماد هذا الوقود على عدة عوامل، هي: توفر الموارد، والتكلفة، وسياسات النمو، وتوجهات الصناعة النووية.

وعلى الرغم من أن تطبيقات وقود الثُّوريوم لا تزال محدودة على المستوى العالمي، فإن بعض الدول بدأت بالفعل في استكشاف إمكاناته التقنية والاقتصادية ضمن استراتيجياتها النووية طويلة الأمد؛ ففي كندا يتيح التصميم الفريد لمفاعلات “CANDU” استخدام الثُّوريوم باعتباره بديلًا جزئيًّا لليورانيوم، وهو ما يسهم في الحفاظ على الاحتياطات المتوفرة من هذا اليورانيوم.

أما الهند فهي من الدول القليلة التي شرعت عمليًّا في استخراج الثُّوريوم من خامة المونازيت (المونازيت عبارة عن معدن للفوسفات يحوي عادة على عناصر نادرة، وهو أربعة أنواع)، مستفيدة من مواردها الطبيعية الوفيرة، وتشير الدراسات إلى أن التكلفة الابتدائية لاستخدام هذا الوقود قد تكون مرتفعة مقارنة باليورانيوم، إلا أن دورة الوقود الأطول وانخفاض كمية النفايات المشعة الناتجة قد يسهمان في تقليل التكاليف على المدى البعيد.

استخراج الثُّوريوم من خامة المونازيت

وعلى الصعيد البحثي، تعمل منظمات دولية، وعلى رأسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على تطوير قاعدة بيانات دقيقة حول الخصائص النووية للثُّوريوم، عبر برامج تشمل تحسين طرق الرصد وقياسات طيف النيوترونات، بما يعزز فرص دمجه الآمن والفعال في أنظمة الطاقة المستقبلية.

الثوريوم في مصر.. فرصة واعدة لتوطين التكنولوجيا

وفي حين تتواصل الجهود البحثية دوليًّا لتطوير قاعدة معرفية تُمكّن من دمج الثُّوريوم في أنظمة الطاقة المستقبلية، تتجه الأنظار إلى الدول التي تمتلك احتياطيات كبيرة من هذا المعدن، وفي مقدمتها مصر، حيث يبرز الثوريوم باعتباره فرصة استراتيجية لتوطين التكنولوجيا النووية وتعزيز أمن الطاقة.

فوفقًا لبيانات وحدة أبحاث الطاقة في واشنطن، تحتل مصر المرتبة الخامسة عالميًّا من حيث احتياطيات الثُّوريوم، بواقع 380 ألف طن، بعد الهند والبرازيل وأستراليا والولايات المتحدة، وهذا الترتيب يعكس الإمكانات الواعدة التي يمكن أن تسهم في دعم البرنامج النووي المصري.

وتزداد أهمية احتياطيات الثُّوريوم في مصر مع المضي قدمًا في تنفيذ مشروع محطة الضبعة النووية بالتعاون مع الجانب الروسي، وهو ما يفتح المجال مستقبلًا لاستخدام هذا المعدن ضمن منظومة الوقود النووي، كما أن إمكانية تشغيله في مفاعلات الملح المنصهر تمنح مصر خيارًا واعدًا لتقنيات أقل اعتمادًا على المياه، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل أزمة المياه التي تمر بها البلاد، ورغم أن استخدام الثوريوم لا يزال تجريبيًّا على مستوى العالم، فإن إدراجه في خطط البحث والتطوير قد يضع مصر بين الدول السباقة في هذا المجال.

الثوريوم والاستدامة خطوة نحو المستقبل

ولا تقتصر قيمة الثُّوريوم على خصائصه الفيزيائية، وإنما تتجاوز ذلك إلى دوره في بناء مستقبل أكثر استدامة إذا ما تم استخدامه لأغراض سلمية؛ لأن إسهامه في تقليل الانبعاثات الكربونية، وخفض كمية النفايات المشعة، والحد من مخاطر الانتشار النووي، كلها عناصر تساعد على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف (13) المتعلق بالعمل المناخي، والهدف (7) المتعلق بالطاقة النظيفة والمتاحة بأسعار معقولة، والهدف (9) المرتبط بالابتكار والبنية التحتية.

ويمثل تنويع مصادر الوقود النووي، من خلال إدخال الثُّوريوم، خطوة استراتيجية للحد من الاعتماد على موارد محدودة تتأثر بالتقلبات الجيوسياسية، مما يعزز استقرار منظومة الطاقة عالميًّا ويمنح الدول النامية فرصة أكبر لتقليص الفجوة التقنية والاقتصادية؛ فالاعتماد على الثوريوم يفتح الباب أمام تصور جديد للطاقة النووية، باعتبارها أداة لبناء نموذج تنموي أكثر توازنًا وعدالة.

في الختام، ترى مؤسسة حماة الأرض أن الثوريوم ليس مجرد عنصرًا في الجدول الدوري، بل هو تمثيل حيّ لفلسفة علمية جديدة تتجاوز منطق “الوفرة مقابل الخطورة” إلى معادلة أكثر توازنًا بين الأمان والاستدامة؛ ففي عالم تتصاعد فيه آثار التغير المناخي، وتضيق فيه خيارات الطاقة النظيفة، يبدو أن الثوريوم لا يطرح نفسه بديلًا لليورانيوم فحسب، بل يأتي بوصفه تصحيحًا للمسار الذي سلكه العالم منذ عقود طويلة.

ولقد مثّل الاعتماد على اليورانيوم -بالرغم من مزاياه- رهانًا محفوفًا بالمخاطر البيئية والأمنية والجيوسياسية، حيث أنتج نفايات يصعب احتواؤها، ومخاوف لا تهدأ من انتشار الأسلحة. أما الثوريوم، فبإمكانه -من خلال خصائصه الفريدة وتوزيعه الجغرافي العادل نسبيًّا- أن يُحدث نقلة نوعية في فلسفة الطاقة النووية: من نموذج قائم على القوة والسيطرة، إلى نموذج يستند إلى التعاون والاستدامة والتنوع؛ وعلى ذلك فإنَّ تبنّي الثوريوم يُعدُّ فرصة حقيقية لتجاوز مركزية الوقود التقليدي، وتوزيع مكاسب الطاقة على نحوٍ لا يُعيد إنتاج الهيمنة لدول وأقاليم بعينها، بل يُرسّخ العدالة البيئية بين الشرق والغرب، بين الحاضر والمستقبل، وبين الإنسان والأرض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى