الاستدامة والقانون

الحصار الفكري والنفسي أشد خطرًا من الاقتصادي

الحصار الفكري

الحصار الفكري والنفسي أشد خطرًا من الاقتصادي

مِن المتعارف عليه أنَّ قياسَ تَقدم أيّ دولة تحكمه عدةُ اعتبارات، كمقياس تقدمها وتطورها الاقتصاديّ، ولكن هناك عدة اعتبارات أخرى تحكم تَقدمَ أيّ دولةٍ، بل هي أساس تقدم الدول. مِن تلك الاعتبارات: التقدم الفكريّ، كالتقدم في المستوى التعليميّ والتقدم في مستوى الشعوب ومدى حضارتها وثقافتها؛ وهذا لن يتأتَّى بين عشية وضحاها، وإنما يتأتَّى تدريجيًّا، بدءًا من بناء الإنسان إلى أنْ يعقبه بناء المجتمع. وبناء الإنسان لن يتحقق إلا بعد اتباع عدة خطوات، بدءًا من التركيز على مرحلة الطفل التي تُعتبر أهمَّ مرحلةٍ يجب أنْ تُراعى في المقام الأول، وتعليمه الأسسَ التي من خلالها يتم تأهيله لمرحلة الشباب.

يتم تلقين الطفل في بداية مراحل عمره الأسسَ والقِيمَ والتقاليدَ التي يعيش عليها طيلةَ حياته، بل تكون راسخةً في ذهنه ووجدانه رسوخَ الجبالِ، ويساهم في تأهيله الأُسرةُ والمجتمعُ؛ فالأسرة تؤدي دورًا مهمًّا في حياة الطفل بتلقينه القيم والمبادئ التي يعيش عليها، وزرع كل ما هو جميل في داخله، فالطفل يولد على الفطرة؛ الفطرة التي خلقه الله عليها، فطرة المحبة والسلام، فطرة التعاون التي لا بُدَّ مِن زرعها في داخل الأطفال؛ حتى تتركَ تأثيرًا إيجابيًّا في حياتهم. وقد ضربت لنا دولة اليابان أروع الأمثلة في الأخلاق والتعاون، فهم يزرعون كل ما هو جميل في حياة الأطفال، يكبر معهم يومًا تلو الآخر.

ويكمل دورَ الأُسرةِ المدرسةُ التي يثبت فيها كل تلك المعاني الجميلة -علميًّا وتطبيقيًّا- عن طريق المناهج التي تُدرس للأطفال، والاهتمام بكل الوسائل التي تؤثر في حياة الطفل من إعلام عن طريق ما يتم إذاعته عبر التلفاز، فهناك عوامل عديدة تؤثر في الطفل دون أنْ نشعرَ. وتلك العواملُ من الممكن أنْ تُصبحَ سلبيةً أو إيجابيةً، فحتى طريقة اللعب تساهم إمَّا في نشأة طفل سوي نفسيًّا -كما هو الحال في دولة اليابان- وإما أنْ تُساهمَ في نشأة طفل أناني لا يحب إلا نفسه.

تُضيف دولةٌ مثل اليابان مادةَ الأخلاقِ إلى المناهج التعليمية، فمثلًا: تُعدُّ هذه الدولة نموذجًا رائعًا في ثقافة الأخلاق؛ ففي رياض أطفال اليابان يلعبون لعبة الكراسي، ويأتون بتسعة كراسي لعشرة أطفال، ثم يقولون للأطفال بأنَّ عددكم أكبر من الكراسي، فإذا ظل أحدكم دون كرسي يخسر الجميع، فيحاول جميع الأطفال احتضان بعضهم بعضًا؛ لكي يستطيع عشرةُ أطفالٍ الجلوس على تسعة كراسي؛ ومِن ثَمَّ يقللون عددَ الكراسي تِبَاعًا مع بقاء قاعدة أنهم يجب أنْ يتأكدوا بألَّا يبقى أحدهم دون كرسي وإلا خسروا جميعًا؛ فيتعلّم الطفلُ ثقافةَ “لا نجاحَ لي دون مساعدة غيري على النجاح!”.

بعكس ما يحدث في مجتمعنا، فيأتون بتسعة كراسي لعشرة أطفال، ويقولون للأطفال بأنَّ الرابحَ هو مَن يحصل على الكرسي، ومَنْ يَبْقَ دون كرسي يكُنْ خارج اللعبة، ثم يقلّلون عدد الكراسي كلّ مرَّة فيخرج طفل كل مرَّة حتى يبقى طفل واحد، ويتم إعلان فوزه، فيتعلّم الطفلُ ثقافةَ “نفسي نفسي، ولكي أنجح علَيَّ أنْ أزيح غيري!”.

وإذا نظرنا إلى أيّ دولة متقدمة نجد أنَّ أساسَ تقدمها هو التعليمُ، حيث يشترك الموهوبون -بعد اجتيازهم اختبارات كفاءة خاصة- في دورات إضافية أو مدارس خاصة لتنمية مواهبهم، بالإضافة إلى ما تحدده وزاراتُ التعليم في هذه الدول من مناهج، تُخصص كل عام موضوعًا معينًا ذا بُعدٍ قوميّ؛ لتعميق الفهم والوعي.

كما أنَّ الهدفَ من تعليم ما قبل مرحلة الدراسة -من 2 إلى 4 سنوات- هو تنمية طاقات الطفل الخاصة باللغة والتعامل الاجتماعيّ، ناهيك بزرع الوطنية في نفوس الأطفال، وحب بعضهم بعضًا؛ فحقوق الإنسان التي يُنادي بها الجميع ويطالب بها الكل لن تتأتَّى إلَّا بنشأة الطفل عليها، فهي حق يكتسبه الإنسان منذ أنْ يأتي إلى الحياة، ونادى بها الإسلام منذ قرون طويلة، قبل أنْ يعرفها الغربُ وينادي بها كما نشاهد اليوم! فالإسلام حَثَّ عليها، ووضع الضوابط والأحكام حتى يسهل تطبيقها في أرض الواقع، وحتى لا يؤثر حق إنسان في أيّ إنسانٍ آخرَ، فحقوق الإنسان مترابطة مع بعضها بعضًا، وأيّ تجاوز في حق يؤثر -سلبًا- في حق إنسانٍ آخرَ!

فلو أخذنا -على سبيل المثال- حقوقَ المرأة التي تشغل بالَ الكثير في العالم الغربيّ والعربيّ، لوجدنا أنَّ المرأةَ هي التي سلبت الحق من نفسها أولًا، فالحقوق المقصودة هي حقوق معنوية أكثر منها مادية، كالحق في التمتع بالحياة بكرامة دون خوف، وليس كما يحدث اليوم من تعرضها لضغوط من جميع النواحي، سواء الاجتماعية أم العملية، وما تتعرض له -يوميًّا- سببه الأساسي النشأة الخاطئة للطفل، المتمثل في الإنسان الذي أدَّى إلى نشأة مجتمع مختلٍّ نوعًا ما.

فعلى سبيل المثال لا تأخذ الأُسرةُ في اعتبارها أنها تنشِئ -أحيانًا- معتقداتٍ خاطئةً، سواء للبنت أم الولد، فتنشِئ في الطفل -الولد- مفاهيمَ خاطئةً عن الرجولة، وارتباط الرجولة بالسيطرة على المرأة، ومنع حقها في الحياة والتعامل معها باعتبارها إنسانةً كرمها الله وأعطاها حقوقها، وليس تفضُّلًا وتكرُّمًا من المجتمع!

إنَّ سببَ ما تعانيه المرأة اليوم هو المرأة نفسها، المتمثلة في دور الأم، وإدخال مفاهيم خاطئة عن المرأة للطفل -الولد- وإدخال أيضًا مفاهيم خاطئة للطفل -البنت- جعلها تعاني من تلك المفاهيم طيلة حياتها، وتدفع ثمن النشأة الخاطئة؛ فنشاهد اليوم التربية الخاطئة من الأسرة للطفل البنت أو الولد، فما يُفَرِّقُ طفلًا عن آخرَ هو التربية والنشأة السوية الصحيحة، التي تساهم في نشأة مجتمع صحيح وسويّ نفسيًّا، وليس كما نشاهد في بعض المجتمعات من معاناة البعض من الأمراض النفسية، التي اكتسبها منذ الصغر، وجعله ضحيةً وجانيًا في آنٍ واحدٍ في المجتمع!

فالحصار الحقيقيّ لأيّ دولة يساهم إمَّا في نهضتها وإمَّا في سقوطها، وهو الحصار الفكريّ والنفسيّ المسئولة عنه مؤسسات الدولة كما ذكرتُ، سواء تمثلت في أفراد أم هيئات كالوزارات، فكل منهم يؤدي دورًا مهمًّا في تقدم الدولة والإسهام في نهضتها؛ فحقوق الإنسان هي نتاج لواجبات أفراد ومؤسسات، يقابلها حقوق من الدولة، ولن تستطيع أيّ دولة منح حقوق للأفراد إلا وتُقابلها التزاماتٌ وواجباتٌ منهم.

كما أنَّ الحقوقَ التي يطالب بها الجميع وتُنادي بها منظمات حقوق الإنسان لن تُمنح للفرد إلا إذا منحها هو لنفسه أولًا، فالجميع يُنادي بالحرية، ولكن ليس الكل يعي أولًا ما الحرية وما مفهومها الحقيقيّ؛ فالبعض يأتي بأفعال باسم الحرية، ولا يعلم بأنَّ إتيانه بتلك الأفعال يتعدى على حريات الآخرينَ، فالحرية بحق ألَّا تؤدي ممارسة الإنسان لحريته إلى أنْ يتعدَّى على حريات الآخرينَ، وإلا أصبح هذا الإنسانُ منتهكًا لحقوق نفسه والآخرينَ، فحرية الإنسان تقف عند حدود حريات الآخرينَ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل مفاهيم حقوق الإنسان، فالفرد هو من يمنحها لنفسه، وليس كما يعتقد البعض بأنَّ الدولةَ هي المانحة؛ الدولة تغطي حرية الإنسان بغطاء قانونيّ متمثل في الدستور والقوانين من جزاء وعقاب، أمَّا أصلُ الحقوق والحريات فالفرد هو مَن يسعى إلى الحصول عليها منذ الصغر، من خلال التعليم وتنمية مهاراته الفكرية والذهنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى