الذكاء الاصطناعي كلمة سر الحروب النووية الحديثة
الذكاء الاصطناعي كلمة سر الحروب النووية الحديثة
في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي بشكل غير مسبوق، لم تعد الحروب تُخاض فقط بالسلاح التقليدي أو حتى النووي، وإنما دخلت أدوات جديدة إلى مشهد التهديدات، على رأسها الذكاء الاصطناعي، الذي كان يُنظر إليه سابقًا باعتباره أداة لتحسين حياة البشر، بات اليوم يُوظف في تطوير أنظمة عسكرية، تُمكّن الدول من الردع والهجوم في آن واحد.
أطلق معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) -الذي يعد من أبرز مراكز الدراسات الدفاعية عالميًّا- تحذيرًا جديدًا يُنذر بنقطة تحول خطيرة في التفاعل بين التكنولوجيا والسياسة الدولية؛ فقد حذّر المعهد من أن التقارب المتزايد بين الذكاء الاصطناعي المتقدم وتوسّع الترسانات النووية يُسرّع من احتمالات اندلاع حرب نووية عن طريق الخطأ، نتيجة قرارات متسرعة أو تقديرات خاطئة خلال الأزمات.
الخطير في هذا المشهد ليس فقط في قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات ضخمة من المعلومات بسرعة، وإنما في احتمالية تفسيره الخاطئ لأي تهديد على أنه عدائي، وهو ما يدفع الأنظمة العسكرية نحو رد فعل قد يكون قاتلًا، عندما تتخذ الآلة قرارًا نوويًّا دون تدخل بشري كافٍ، فإن الخطأ لن يكون محتملًا.
وفي هذا السياق، سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال أبعاد هذا التهديد المتنامي، وعلاقته بمسار الاستدامة العالمية، من خلال توضيح التداخل الخطير بين الذكاء الاصطناعي والقرارات الحربية، والتداعيات المحتملة على الأمن البيئي والإنساني، كما تسلط الضوء على الفجوات التشريعية القائمة وسبل مواجهتها؛ فتابعوا القراءة.
الذكاء الاصطناعي يسهم في سرعة اتخاذ القرار
في عالم الصراعات المحتدمة، يُنظر إلى سرعة اتخاذ القرار باعتبارها ميزة استراتيجية، غير أنها قد تتحول إلى نقمة عندما تُفقد السيطرة على نتائجها، وهنا تكمن خطورة إدخال الذكاء الاصطناعي إلى آلية اتخاذ القرار في اللحظات الحرجة، خصوصًا في النزاعات النووية، حيث لا مجال للتجريب أو الخطأ.
ويحذّر “دان سميث” مدير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، من الاعتماد المفرط على الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في السياقات العسكرية، مؤكدًا أن سرعة هذه الأنظمة في معالجة البيانات قد تتجاوز قدرة البشر، غير أنها تفتقر إلى الفهم الحقيقي للسياق السياسي والثقافي؛ فقراراتها قد تُبنى على نماذج سطحية ناقصة أو بيانات مضلّلة، وهو ما يجعلها قادرة على تصعيد الأحداث والدفع بالبشر نحو حافة الهاوية دون إدراك للعواقب.
إلى أين يتجه العالم؟
في موازاة القلق المتصاعد من دخول الذكاء الاصطناعي ميدان السلاح النووي، تسير القوى العالمية في مسار آخر لا يقل خطورة، وهو تطوير الترسانات النووية بوتيرة متسارعة، وتفكيك ما تبقى من الاتفاقيات التي كانت تنظّم هذا السباق المجنون؛ فبيانات معهد ستوكهولم ترصد زيادة مثيرة للقلق في حجم الترسانة النووية الصينية، حيث ارتفعت من 500 إلى 600 رأس نووي خلال عام واحد فقط، وهذه الزيادة مؤشر على تسارع سباق التسلح بين القوى الكبرى، وسط غياب أي نية جدية لإعادة بناء نظام رقابي دولي فعال.
الأخطر من ذلك أن معاهدة “نيو ستارت”، التي تُعد آخر أداة قائمة للحد من التسلح النووي بين الولايات المتحدة وروسيا، في طريقها إلى الزوال، وهو ما يفتح الباب أمام سباق تسلح نووي حرّ، بلا حواجز قانونية أو سياسية، وفي ظل أزمة الثقة المتفاقمة بين القوى الكبرى، فإن فكرة العودة إلى طاولة المفاوضات تبدو بعيدة المنال.
وصف “دان سميث” هذه المرحلة بأنها أكثر تعقيدًا وخطورة من الحرب الباردة؛ فما نشهده اليوم ليس فقط مواجهة بين دولتين عظميين، وإنما سباق متشعب يشمل قوى صاعدة، وتكنولوجيا خارجة عن السيطرة، وقواعد اشتباك جديدة تمامًا.
الذكاء الاصطناعي يهدد الاستدامة
لطالما ارتبطت الاستدامة بمفاهيم البيئة والطاقة والمناخ، إلا أن التحديات المعاصرة تُحتم علينا توسيع هذا المفهوم ليشمل كل ما يُهدد بقاء الإنسان على كوكب الأرض، بما في ذلك التطورات التكنولوجية غير المنضبطة؛ فحين يدخل الذكاء الاصطناعي في صلب صناعة القرار العسكري -خاصة في الملفات النووية- يصبح التهديد وجوديًّا، ويقوّض الأسس التي بُنيت عليها أجندة التنمية المستدامة لعام 2030.
فعلى سبيل المثال، لا يمكن تحقيق الهدف (16) من أهداف التنمية المستدامة، الذي يدعو إلى بناء مجتمعات مستدامة في عالم تسوده خوارزميات غير خاضعة للمساءلة، في حين يقف الإنسان متفرّجًا على قرارات تتخذها الآلات في ثوانٍ معدودة، والهدف (13) المعني بالتصدي لتغير المناخ يصبح بلا معنى إذا اندلعت حرب نووية تقضي على النظم البيئية، وتزيد من مستويات الإشعاع والانبعاثات والاحتباس الحراري لعقود قادمة، وربما لقرون. بالإضافة إلى ذلك، يبدو الهدف (17) المعني بتعزيز الشراكات الدولية، بعيد المنال إذا استمرت القوى الكبرى في سباق تسلح جديد يخترق حدود التكنولوجيا دون التزامات أخلاقية أو قانونية واضحة.
إن الكوارث النووية سواء الناتجة عن الحروب أو عن خطأ تقني في تشغيل الذكاء الاصطناعي قد تمحو أثر الجهود التنموية بكل أبعادها، وتُعيد العالم إلى نقطة الصفر؛ فكيف يمكن لدول العالم أن تقلّص انبعاثاتها وتُرمم بيئتها في ظل غيوم مشعة وانهيار في التوازن البيئي؟!
وما يزيد من خطورة هذا الواقع أن أنظمة الحوكمة العالمية لا تزال غير مهيأة لمواكبة هذه القفزات التقنية؛ إذ لم تُحدّث حتى الآن مساراتها القانونية أو الرقابية لتشمل الاستخدامات العسكرية للذكاء الاصطناعي، وهو ما يفتح فجوة كبيرة بين ما تنادي به الأمم المتحدة من أهداف إنسانية وتنموية، وبين ممارسات الدول على الأرض، التي قد تقود إلى كارثة نووية تدمر كل مكاسب الاستدامة في لحظة.
الذكاء الاصطناعي والتهديد الوجودي
التقدّم التكنولوجي لا يمكن إيقافه بسهولة، خاصة عندما يتقاطع مع مصالح سياسية وتطلعات عسكرية متعارضة؛ فالذكاء الاصطناعي التوليدي يتشكل وفقًا لقرارات من يصمّمونه ويوجّهونه لتحقيق أهداف بعينها، وما يحذر منه معهد ستوكهولم هو أن الأنظمة العسكرية قد تُصبح غير قابلة للتنبؤ؛ لأنها تتفاعل مع بيئات مشوشة، وأحيانًا غير مكتملة البيانات، وقد يُتخذ قرار نووي كارثي استنادًا إلى بيانات مضللة أو إشارة حرارية أُسيء تفسيرها، في ظل غياب القدرة البشرية على التدخل أو مراجعة القرار.
وفي ظل تداخل ساحات الحرب بين السيبرانية (مصطلح يشير إلى استخدام الحواسيب وشبكة الإنترنت في مهاجمة الآخرين كالأفراد والمؤسسات والدول) والتقليدية والنووية، بات مشهد الأمن العالمي أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، حتى إنَّ وضع سيناريو موحّد للتعامل مع الأزمات أصبح تحديًا حقيقيًّا حتى لكبار صانعي القرار، ويزداد هذا التعقيد مع غياب إطار قانوني دولي ينظّم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري؛ مما يفتح الباب على مرحلة خطيرة من الفراغ التشريعي.
هذا الواقع لا يتطلب فقط تطوير تقنيات مضادة أو تشكيل تحالفات أمنية، وإنما يستدعي إعادة صياغة شاملة لمفهومَي السلام والاستدامة في القرن الحادي والعشرين؛ فهل يمكن بناء سلام حقيقي دون إخضاع أدوات الحرب الجديدة للمساءلة والرقابة؟ وهل يصحّ الحديث عن تنمية مستدامة في حين يظل مصير الكوكب بأكمله عُرضة لضغطة زر خاطئة؟
إن الذكاء الاصطناعي إذا لم يُضبط بقيود أخلاقية وتشريعية واضحة، قد يتحول إلى سلاح إبادة لا يفرّق بين مدني وعسكري، ولا يعرف معنى الرحمة أو الندم، وعلى العالم أن يواجه هذه الحقيقة، لا أن يختبئ خلف وهم السيطرة المطلقة، ومن هنا تدعو حماة الأرض صُنّاع القرار، ومؤسسات البحث، والمجتمع المدني، إلى التحرك العاجل من أجل وضع ميثاق عالمي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الشئون العسكرية.