ملف خاص

الذكاء الاصطناعي والطريق إلى التنمية المستدامة

الذكاء الاصطناعي والطريق إلى التنمية المستدامة

الذكاء الاصطناعي والطريق إلى التنمية المستدامة

لم يملَّ الإنسانُ في تاريخه كله مِن محاولة اختراع الأدوات والأجهزة التي تساعده على أداء مهامه اليومية، وقد أصبح هذا الأمرُ في خلال القرون المتعاقبة محاوَلةً لإيجاد وسيلة تقوم بتنفيذ بعض المهام -بصورة كلية- بدلًا من الإنسان، ثم تطور الأمرُ إلى سعي وراء اختراع آلة يمكنها محاكاة طريقة تفكير العقل البشري؛ بحثًا عن حلول لمسائل شديدة التعقيد، ومن هنا ظهر مصطلحُ “الذكاء الاصطناعي”.

الاهتمام البشري بمفهوم الذكاء الاصطناعي ربما ظهر على استحياء بين صفحات عدد من الروايات والقصص في القرن التاسع عشر، ثم في الأفلام السينمائية والمسارح، وحاولتْ جميعُها تقديم صور خيالية عن كيفية دمج العنصر البشري بالآلة، بل إنَّ بعضًا منها قد تنبأ بسطوة الآلات -مستقبلًا- على الجنس البشري، وأمثلة هذه الأعمال كثيرة.

وعلى الرغم من أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ “Artificial Intelligence” أو (AI) -بمفهومه المعاصر- قد بدأ في خمسينيات القرن الماضي فإنَّ هذا المصطلحَ لم يَحْظَ بالزخم نفسه الذي حظِي به الآن -باستثناء العقدينِ الأخيرينِ- بسبب الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل مضطرد في الأجهزة والبرامج المختلفة في شتَّى التطبيقات، وهو ما قاد ثورةً تكنولوجيةً كبيرةً في كثير من المجالات، حتى أدَّتْ بالتبعية إلى إعادة صياغة واقعنا بشكل جديد أكثر ذكاءً، وإنْ شئت قلت: أكثر اصطناعية.

يحمل الذكاءُ الاصطناعيُّ -كغيره من التقنيات الحديثة- في جعبته كثيرًا من الحلول التي تدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: التطوير المتسارع في جودة وكفاءة الخدمات والعمليات الإنتاجية المختلفة، وإيجاد حلول جديدة لمشكلات كانت تظنها البشريةُ أبدية. لكن على الجانب الآخر، يمكن أنْ يؤثر الذكاء الاصطناعي -بصورة سلبية حادة- في كثير من الأنشطة البشرية عن طريق استبدال العنصر البشري بالآلة، ولا يخفى عليكم ما يثيره هذا الأمرُ من مخاوف.

في صفحات الملف الخاص من هذا العدد، سنحاول تقديم صورة كاملة عن الذكاء الاصطناعي -ما له وما عليه- محاوَلةً مِنَّا لفهم أبعاده، وكيف يمكن أنْ يصبح ذا دورٍ مهمٍّ في مساعدتنا على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وضمان مستقبل أفضل لنا وللعالم كله.

ما الذكاء الاصطناعي؟

مصطلح “الذكاء الاصطناعي” شَهِدَ عبر العقود المتتالية تغيُّرًا في طبيعة إدراكنا له وكيفية تعريفنا لمفهومه، حيث أصبح مع مرور الوقت أكثر شمولًا وتوسعًا؛ ففي بادئ الأمر كنا نُعَرِّفُ الذكاءَ الاصطناعيَّ بأنه أحد أفرع علوم الكمبيوتر المعنية بعمل -وكذلك تطوير- الأجهزة والآلات الذكية، التي تستطيع تنفيذ مهامٍّ كانت في العادة تتطلب تدخلًا بشريًّا لتنفيذها.

إنَّ فهمنا الأعمقَ للذكاء الاصطناعي -طبقًا لمتغيرات واقعنا الحالي- قد جعل نظرتنا الضيقةَ إلى حقيقته أكثر شموليةً؛ نظرًا إلى ارتباط هذا الذكاء الاصطناعي بمصطلحات أخرى، مثل “تعلم الآلة – Machine Learning”، و”التعلم العميق – Deep Learning”، وغيرهما من المصطلحات.

لذا، يمكننا القول: إنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ مجالٌ علميٌّ يهتم ببناء أجهزة الكمبيوتر والآلات، التي يمكنها التفكير والتعلم والتصرف بطريقة تتطلب -عادةً- ذكاءً بشريًّا، أو تتضمن بيانات يتجاوز نطاقها ما يمكن للبشر تحليله. والذكاء الاصطناعي مجال واسع يشمل تخصصات كثيرة، بما في هذا: علوم الكمبيوتر، تحليل البيانات، الإحصاء، هندسة الأجهزة والبرمجيات، واللغويات، علم الأعصاب، وحتى الفلسفة، وعلم النفس.

بشكل عامٍّ، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أداء المهام المرتبطة بالوظائف الإدراكية للإنسان، مثل استيعاب الكلمات ومعانيها، أو حتى ممارسة الألعاب وتحديد الأنماط، حيث تستطيع هذه الأنظمةُ أداء المهام المتعددة عن طريق معالجة كميات هائلة من البيانات، والبحث عن الأنماط المختلفة التي تمكنها من نَمْذَجَةِ قراراتها.

مَن مِنَّا ينسى المباريات التاريخية الثلاثة، التي جمعت بين بطل العالم في الشطرنج آنذاك الروسي “جاري كاسباروف” والكمبيوتر المسمى “Deep Blue”، الذي تم تطويره خصيصًا من قِبل شركة “IBM” للعب الشطرنج؟ المباراة الأولى كانت في العام 1989، حيث استطاع اللاعب الروسي هزيمة الكمبيوتر، ثم أُقيمَتِ المباراةُ الثانيةُ في العام 1996 مع نسخة أقوى من الكمبيوتر، إلا إنَّ هذا لمْ يكن كافيًا لهزيمة اللاعب الأعظم في تاريخ لعبة الشطرنج.

العمل في “IBM” لم يتوقف بعد الهزيمة الأخيرة، فبعدها بعامٍ واحدٍ -تحديدًا في العام 1997- ترقَّبَ العالمُ المباراةَ الثالثةَ بين الإنسان والآلة، ولكن في هذه المرَّةِ جاءتِ النتيجةُ غير متوقعة، حيث استطاع “Deep Blue” أنْ يهزمَ بطلَ العالمِ، وحينئذٍ اعتبر كثيرون هذه الهزيمةَ علامةً فارقةً في تاريخ الذكاء الاصطناعي.

جاري كسباروف

وعلى الرغم من قدراتها الفائقة فإنَّ الإشرافَ البشريَّ على أنظمة الذكاء الاصطناعي لا يزال مطلوبًا؛ لمَا لهذا من دور في تعزيز القرارات الجيدة الناتجة عنها، وتقليل القرارات السيئة، إلا إنَّ بعضَ أنظمة الذكاء الاصطناعي مصمَّمَةٌ للتعلم دون إشراف؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي ممارسة لعبة فيديو مرارًا وتكرارًا؛ حتى يكتشف في النهاية القواعدَ وكيفيةَ الفوز.

تاريخ الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي بمفهومه المعاصر ظهر في النصف الأول من القرن العشرين، حيث شق طريقه إلى أفلام الخيال العلمي التي قدمتْ مفهومَ الإنسان الآلي “الروبوت”، الذي يمكنه التفكير واتخاذ القرار، وبحلول الخمسينيات من القرن الماضي أصبح لدينا جيل من العلماء -خصوصًا علماء الرياضيات، وكذلك الفلاسفة- الذين اعتقدوا أنَّ مفهومَ الذكاء الاصطناعي (أو AI) شيءٌ يمكن استيعابه نظريًّا وتطبيقيًّا، ومن هؤلاء كان “آلان تورينج“.

“تورينج” شاب بريطاني -حاز في ما بعد لقب: أبو علوم الكمبيوتر النظرية والذكاء الاصطناعي- استطاع اكتشاف الاحتمال الرياضي لتطبيق الذكاء الاصطناعي. “تورينج” رأى أنَّ البشرَ يستخدمون المعلومات المتاحة لهم -بالإضافة إلى الأسباب والظروف المحيطة بكل موقف- لأجل حل المشكلات واتخاذ القرارات؛ وبالتالي إذا تَمَكَّنَّا من نقل هذه القدرة البشرية إلى الآلات فيمكنها حينئذٍ أنْ تصبح ذكيةً بما يكفي لاتخاذ القرارات. وهذا كان الإطارَ المنطقيَّ الذي نشره “تورينج” في ورقة بحثية في العام 1950، وكانت بعنوان “آلات الحوسبة والذكاء”، وهي الورقة التي ناقش فيها كيفيةَ بناء آلات ذكية، وكيفيةَ اختبار مدى ذكائها.

لسوء الحظ، لم تجد نظريةُ “تروينج” -على الرغم من ثوريتها- الأدوات المناسبة لتنفيذها على أرض الواقع، حيث كانتْ أجهزةُ الكمبيوتر في حاجة إلى تغيير جذري! ولتوضيح الأمر، كانتْ أجهزةُ الكمبيوتر آنذاك مُفْتَقِرَةً إلى المتطلبات الأساسية للذكاء؛ إِذْ لم تكن قادرةً على تخزين الأوامر، وإنما اقتصرتْ قدرتُها المحدودةُ على تنفيذ هذه الأوامر فحسب. بعبارة أخرى يمكن برمجة أجهزة الكمبيوتر على ما الذي يجب أنْ تقوم به، ولكنها لن تتذكر ما فعلته.

الأمر الآخر، هو أنَّ الحوسبةَ كانت باهظةَ الثمنِ للغاية، ففي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي وصلت تكلفة استئجار جهاز كمبيوتر إلى مئتَي ألف دولار شهريًّا؛ وبالتالي لم تتوافر هذه الأجهزة من الأساس سوى في الجامعات المرموقة وشركات التكنولوجيا الكبيرة القادرة على تحمل هذه التكاليف؛ ولذا فإنَّ إقناعَ أي مستثمِر -حينها- بضخ أمواله في تطوير هذه الفكرة المجنونة لم يكن أمرًا سهلًا قط.

بعد خمسة أعوام صَمَّمَ كلٌّ مِن: عالِمُ الكمبيوتر “ألين نيويل”، والمبرمِجُ “كليف شو”، والمهندِسُ “هربرت سيمون” – أولَ برنامج يستطيع تقليد مهارات حل المشكلات لدى الإنسان، وهو البرنامج الذي اعتبره كثيرون أولَ برنامج ذكاء اصطناعي؛ ليبدأ المجتمع العلمي بعدها في الشعور بأنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ نظريةٌ يمكن تطبيقها، وهذا فتح البابَ أمام مزيد من الأبحاث والدراسات.

المدة من عام 1957 إلى 1974 شهدت ازدهارًا كبيرًا في الذكاء الاصطناعي، وهذا بفضل التطور الكبير في قدرات أجهزة الكمبيوتر في تخزين المزيدِ من المعلومات، بالإضافة إلى أنها أصبحت أرخص سعرًا وأسرع تنفيذًا، وحينها صارتْ متاحةً على نطاق أوسع، كما تحسنت -أيضًا- خوارزميات التعلم الآلي، وزادت الاستثمارات في هذا المجال بشكل مستمر.

هذه الحركة المتسارعة من البحث والتطوير كشفتْ عن عقبات هائلة وكثيرة في طريق الذكاء الاصطناعي، وكانت كبرى هذه العقبات: افتقار الكمبيوتر إلى القدرة الحسابية للقيام بأي شيء جوهري، فمن ناحية كانت مساحاتُ التخزين لا تزال غير كافيةٍ، ومن ناحية أخرى كانت سرعةُ معالجة البيانات لا تزال متواضِعةً؛ وهو ما أدَّى إلى تباطؤ حركة البحث والتطوير في مدة عشر سنوات تقريبًا.

ومن المفارقات، أنه في غياب التمويل الحكومي والاهتمام العام ازدهر الذكاء الاصطناعي في خلال التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي – تحققتْ كثيرٌ من الأهداف البارزة للذكاء الاصطناعي. وقد ذكرنا سابقًا أنَّ العامَ 1997 شهِدَ فوز “Deep Blue” من IBM على بطل العالَمِ في الشطرنج “جاري كاسباروف”، وفي العامِ نفسه أُطلِقَ برنامجُ التعرف على الكلام، الذي طورته “Dragon Systems” على نظام ويندوز، وكان إطلاقُ هذا البرنامج خطوةً كبيرةً أخرى نحو تفسير اللغة المنطوقة من قِبل أجهزة الكمبيوتر.

والآن نحن نعيش في عصر “البيانات الضخمة”، وهو عصر أصبح لدينا فيه قدرة على جمع كميات ضخمة من المعلومات، حيث يتعذر على أي شخص معالجتها؛ وبالتالي أمسى الاعتمادُ على الذكاء الاصطناعي مثمِرًا بالفعل في كثير من الصناعات، مثل: التكنولوجيا، والبنوك، والتسويق، والترفيه، خصوصًا مع التطور الثوري في قدرات أجهزة الكمبيوتر، سواء في قدراتها التخزينية أم الحسابية؛ وهو ما قاد إلى كثير من الاختراقات في مجال علوم الكمبيوتر بشكل عامٍّ والذكاء الاصطناعي بشكل خاص.

إذنْ، ما الذي يخبئه المستقبلُ؟ في المستقبل القريب سوف تبدو لغةُ الذكاء الاصطناعي لُغةً أساسيةً لكوكب الأرض. نرى هذا بوضوح يومًا بعد يومٍ في تعاملاتنا اليومية، فعلى سبيل المثال: متى كانت آخر مرَّة اتصلت فيها بشركة وتحدثت مباشرة إلى إنسان؟ إنك تتحدث -غالبًا- إلى مساعد ذكي ناطق، يساعدك على الوصول إلى ما تريد، بل قد تجد مَن يتصل بك فإِذَا هو برنامج صوتي ينقل لك رسالةً ترويجيةً عن منتج ما. ومع التطور في قدرات الذكاء الاصطناعي فلن يكون غريبًا أنْ نُجري في المستقبل محادثات كاملة مع برامج الذكاء الاصطناعي.

يمكننا -أيضًا- في المستقبل أنْ نتوقع رؤية سيارات تعمل دون سائقٍ، وهو الأمر الذي بدأنا نتلمس بوادره في بعضِ التقنيات الفريدة التي تَزَوَّدَتْ بها بعضُ السيارات الحديثة، مثل الركن الآلي، وتغيير الحارات تلقائيًّا، وكل هذا دون أنْ تلمس يداك عجلةَ القيادِة. الهدف الأكبر من تطوير الذكاء الاصطناعي هو “الذكاء العامُّ”، ونريد بهذا أنْ تحظى الآلاتُ والبرامجُ بقدرات إدراكية تفوق قدرات البشر في المهام جميعها.

ما أنواع الذكاء الاصطناعي؟

أتاح الذكاءُ الاصطناعيُّ فرصًا جديدةً للتحسين والتطوير في مجالات مهمة، مثل: الصحة والتعليم والبيئة، وهذا بفضل قدراته على القيام ببعض المهام بشكل أكثر كفاءةً ومنهجيةً من البشر؛ فعلى سبيل المثال نجد أنَّ التقنيات الذكية في المباني والمَرْكَبَاتِ المختلفة تساهم بشكل ملموس في قضايا محورية، مثل: تقليل انبعاثات الكربون، أو دعم ذوي الهِمَمِ. وفي سياقٍ آخرَ، مَكَّنَ “تعلم الآلة” -وهو مجموعة فرعية من الذكاء الاصطناعي- المهندسينَ من بناء الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة، وغيرهما من التطبيقات.

يمكن أنْ نجعلَ الذكاءَ الاصطناعيَّ ثلاثَ فئاتٍ رئيسية حسب قدرته على التعلم؛ الفئةُ الأولى: ذكاء اصطناعي ضعيف أو ضيق“narrow AI” ، والثانية: ذكاء اصطناعي عامٌّ أو قوي “general AI”، والأخيرة: ذكاء اصطناعي فائق “super AI”. توضح هذه الفئاتُ قدرات الذكاء الاصطناعي من خلال نسبة تطورها في أثناء أداء مجموعة مهامٍّ محددة بدقة، وهي مهامٌّ تتطلب القدرة نفسها على التفكير مثل البشر، أو أداء مهام تتجاوز القدرات البشرية، ولكننا لن نسهب في شرح هذه الفئات الثلاث، وبدلًا من هذا سنسلط الضوءَ على التنويع الخاص بالباحث وأستاذ علم الأحياء التكاملي في جامعة ولاية ميشيغان “أرند هنتز”، والذي جعل الذكاءَ الاصطناعيَّ أربعةَ أنواعٍ رئيسية، نتناولها في ما يأتي:

أولًا- الآلات التفاعلية “Reactive Machines”

إنَّ الآلات التفاعلية أنظمةُ ذكاء اصطناعي لا تحتوي على ذاكرة، وذات مَهمة محددة، وهذا يعني أنَّ البيانات المدخلة إلى هذه الآلات ذات مخرجات من الطبيعة والنوع نفسيهما. نجد هذا النوعَ في نماذج التعلم الآلي، حيث إنها تجمع بيانات العملاء -مثل سجل الشراء أو تاريخ البحث- وتستخدمها لتقديم توصيات مناسبة إلى العملاء أنفسهم، وهو أمر نلمسه جميعًا عند تصفح الإنترنت، حيث تظهر لنا توصيات مرتبطة بأشياءَ قمنا بالبحث عنها سابقًا.

المثال الجلي لهذا النوع، هو كمبيوتر الشطرنج الخاص بـIBM، الذي أشرنا إليه سابقًا، حيث يمكن لهذا الكمبيوتر أنْ يتعرف على قِطَعَهِ وقِطَعِ خصومه فوق رقعة الشطرنج لعمل تنبؤات مستقبلية، لكنه لا يمتلك ذاكرةً لاستخدام أخطاء الماضي في اتخاذ قرارات مستقبلية، وإنما يتنبأ فقط بالحركات التالية المُمْكنةِ، ويختار أفضل حركة؛ وبالتالي يمكن اعتبار الآلات التفاعلية نموذجًا للذكاء الاصطناعي الفائق.

ثانيًا- الذاكرة المحدودة “Limited Memory”

النوع التالي من الذكاء الاصطناعي هو الذاكرة المحدودة التي تحاكي طريقةَ عملِ الخلايا العصبية في أدمغتنا، مما يعني أنَّها تصبح أكثر ذكاءً مع مرور الوقت، حيث إنها تتلقى مزيدًا من البيانات التي تتدرب عليها.

على خلاف الآلات التفاعلية، يمكن للذاكرة المحدودة أنْ تنظرَ إلى الماضي لتتذكر أشياءَ أو مواقفَ معينةً بمرور الوقت، ثم تتم برمجة هذه المشاهدات في أنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن أنْ تؤدي أعمالها المختلفة بناءً على بيانات اللحظة الماضية والحالية، إلا إنه في الذاكرة المحدودة لا تُحفَظُ هذه البياناتُ على المدَى البعيد، حتى يمكنه التعلم منها. مثال هذا: بعض تقنيات القيادة الذاتية التي تسمح بتغيير مسار السيارة طبقًا للمعلومات التي جُمِعَتْ في أثناء رحلات سابقة.

ثالثًا- نظرية العقل “Theory of Mind”

أمَّا النوعانِ الأول والثاني من الذكاء الاصطناعي فهُمَا نوعانِ موجودانِ حاليًّا على أرض الواقع، وأما النوعُ الثالثُ “نظرية العقل” والرابعُ “الوعي الذاتي” فهُمَا من أنواع الذكاء الاصطناعي التي سَتُبنَى في المستقبل؛ وبالتالي لا توجد أمثلة عليها في أرض الواقع.

إذا بُنِي هذانِ النوعانِ الأخيرانِ فسيكون الذكاءُ الاصطناعيُّ حينئذٍ قادرًا على فهم العالم من حوله بشكل أعمق، مستوعِبًا الأفكار والعواطف والمعتقدات؛ ومن ثَمَّ تحديد كيفية تصرفه وتعامله مع هذه المدخلات.

نحن البشر نفهم كيف تؤثر أفكارنا وعواطفنا في الآخرينَ، وكيف يؤثر الآخرون فينا، وهذا هو أساس العلاقات الإنسانية في مجتمعنا، ولكن في المستقبل يمكن أن تكون آلاتُ الذكاء الاصطناعي من هذا النوع قادرةً على فهم النوايا والتنبؤ بالسلوك كما لو كانت تحاكي العلاقات البشرية.

رابعًا- الوعي الذاتي “Self-Awareness”

الوعي الذاتيُّ مفهومٌ يذهب إلى ما هو أبعد من نظرية العقل وفهم العواطف، حيث يدرك النظامُ أو الآلةُ ذاتيهما، كما تكون لهما قدرة على الإحساس أو التنبؤ بمشاعر الآخرينَ. على سبيل المثال، “أنا جائع” تصبح “أعلم أنني جائع”، أو “أريد أنْ أتناول اللحم؛ لأنه طعامي المفضل”.

أقصى مراحل تطور الذكاء الاصطناعي ستكون تصميم أنظمة وآلات لديها إحساس بالذات وإدراك لسبب وجودها، وهذا النوع -كما قلنا- غير موجود على أرض الواقع حتى الآن. إننا بعيدون جدًّا عن الذكاء الاصطناعي المدرِكِ لذاته؛ فلا نزال نبحث إلى الآن حول كيفية عمل أدمغتنا في التعلم واتخاذ القرار.

دور الذكاء الاصطناعي في التنمية

يمتلك الذكاءُ الاصطناعيُّ قدرةً على حل بعض كبرى التحديات التي تواجهها البشريةُ، وهذا نلمسه في كل قطاع تقريبًا. في جميع أنحاء العالم نشاهدُ -فعليًّا- ثورةً في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وهي ثورةٌ تدفع العمليات في عديد من القطاعات نحو النمو. على سبيل المثال، ظهرت في الآونة الأخيرة أنظمةُ مساعدة السائق المتقدمة (ADAS)، وهي مجموعة من الخصائص في المَرْكَبَةِ تؤدي إلى تحسين جودة أنظمة أمانها؛ وبالتالي تجنب الحوداث بشكل كبير.

أما في قطاع الرعاية الصحية، فباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة يعمل باحثو الطب الحيوي على زيادة وتيرة اكتشاف الأدوية من خلال تحديد المواد الكيميائية والجزيئات والمُرَكَّبَاتِ التي قد تكون أدق استهدافًا لأمراض معينة. على جانبٍ آخرَ، تسمح تقنيات الذكاء الاصطناعي لشركات الخدمات المالية بتحديد الأنشطة الاحتيالية أو الفاسدة بشكل أفضل.

ولا يمكن أنْ ننسى هنا الأدوارَ المُهمةَ للذكاء الاصطناعي في مكافحة التغير المناخي، مثل تحسين كفاءة العمليات الصناعية المختلفة، وتقليل هدر الموارد، والتنبؤ بأنماط الطقس وحركة الرياح -وغيرها من الأدوار- لمجابهة التلوث بشكل أكثر فاعلية.

الذكاء الاصطناعي حليف مثالي تحتاجه التنمية المستدامة؛ لأجل تصميم وتنفيذ وتقديم المشورة والتخطيط لمستقبل كوكبنا واستدامته. ستساعدنا التكنولوجيا -مثل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي- على البناء بشكل أكثر كفاءةً، واستخدام الموارد بصورة مستدامة، وتقليل -وكذلك إدارة- النفايات بشكل أكثر فاعليةً، بالإضافة إلى عديد من المساعَدات الأخرى.

أيضًا، سيساعد الجمعُ بين الذكاء الاصطناعي والتنمية المستدامة على تطوير مختلف الصناعات بشكل يسمح بتقدم حضارتنا البشرية بشكل أفضل، مع تلبية الاحتياجات الحالية دون المساس بالأجيال القادمة، خصوصًا في ظل ظواهر خطيرة نعانيها الآنَ، مثل ظاهرة تغير المناخ، فضلًا عن التحديات الرئيسية الأخرى.

وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة “Nature”، يمكن أنْ يساعد الذكاءُ الاصطناعيُّ على تحقيق أغلب أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، حيث يمكن أنْ تصبح هذه التكنولوجيا أداةً رئيسيةً لتسهيل تبني الاقتصاد الدائري، وبناء مدن ذكية تستخدم مواردها بكفاءة.

من الأمثلة الواضحة على إسهام الذكاء الاصطناعي في الاستدامة هو إدارة حركة المرور، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالاختناقات المرورية، واقتراح مسارات بديلة؛ وبالتالي تخفيض استهلاك الوقود. كما يمكن لهذه التكنولوجيا أنْ تتنبأ بأوقات الطلب المتزايد على المواصلات؛ ومن ثَمَّ تَمَكُّنُ شركات النقل من جدولة رحلاتها بشكل مناسب يسهل على الركاب إيجاد رحلاتهم المناسبة من ناحية، ويقلل من التأثير في البيئة من ناحية أخرى.

كذلك يمكن أنْ يساعد الذكاء الاصطناعي على تعزيز كفاءة الطاقات المتجددة، وهو أمر مطبق فعليًّا بواسطة كثير من الشركات في أيامنا هذه؛ فعن طريق الذكاء الاصطناعي يمكن منع وتشخيص أعطال محطات الطاقة، بالإضافة إلى التنبؤ بكميات الطاقة المطلوبة في الأيام التالية، وضبط المحطات بما يلبي هذه الاحتياجات بشكل أكثر كفاءة.

خارج قطاع الطاقة، هناك عديد من الصناعات والشركات التي يمكن أنْ تتحسن بفضل الذكاء الاصطناعي. في الزراعة -مثلًا- يُسْتَخْدَمُ الذكاءُ الاصطناعيُّ لجعل الري والتسميد أكثر كفاءةً؛ فبفضل مستشعرات الرطوبة ودرجة الحرارة والتخصيب يستطيع الذكاء الاصطناعي التنبؤ باحتياجات المحاصيل. من الحلول الأكثر ابتكارًا ضمن الاستدامة الزراعية: الطائراتُ المُسَيَّرةُ بلا طيار، التي تساعد المزارعين على المراقبة المستمرة للمساحات الزراعية الكبيرة، بالإضافة إلى تحليل الصور واستخدام نتائج التحليل في مكافحة الآفات بشكل شامل.

بالنسبة إلى الصناعة بشكل عامٍّ، يوفر الذكاء الاصطناعي أنظمةَ تخزين وتصنيع وتوزيع ذات كفاءة عالية. علاوةً على هذا تستطيع أنظمةُ الرؤيةِ الاصطناعيةِ تحديدَ الأخطاءِ في خطوط التجميع غير المرئية للعين البشرية، وكذلك مخاطر السلامة أو الكوارث المحتملة. وهذا الجانب الأخير مهم بشكل خاص في صناعات مثل صناعة البناء، حيث تكون السلامةُ ضرورةً قصوى.

مثالٌ آخرُ على استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق استدامة أشمل هو التكنولوجيا التي تم تطويرها في آلات حفر الأنفاق. هذا النوع من الآلات معقدٌ بصورة خاصة، فخلال عملية الحفر يمكن أن يؤدي أي انهيار أرضي إلى إيقاف أعمال الحفر تحت الأرض كليًّا أو جزئيًّا. هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، حيث استطاعتْ شركة “أوراكل” تطوير نظام تنبؤ يعالج المعلومات المستمرة الصادرة عن 3000 متغير؛ لأجل التنبؤ بوقوع أي خطأ في أثناء عملية الحفر، وهذا سيجعل مشروعات حفر الأنفاق -مثلًا- أكثر توفيرًا وأكبر كفاءةً من ذي قبل؛ ولهذا يُعَدُّ الذكاءُ الاصطناعيُّ عنصرًا أساسيًّا في عمليات التنبؤ بالأخطاء وتقليل المشكلات التي قد تؤثر في معدلات التنمية المستدامة.

الذكاء الاصطناعي والبيئة

للذكاء الاصطناعي دورٌ في التصنيع والتعليم، وفي غيرهما مِن المجالات الأخرى، لكن هل يمكن أنْ يساهم هذا الذكاء الاصطناعي في إنقاذ الكوكب؟ وكيف يمكنه مساعدتنا على معالجة آثار تغير المناخ؟ وهل يمكن أنْ يؤثر -سلبًا- في البيئة؟ هذه كلها أسئلة سوف نناقشها في النقاط الآتية.

الذكاء الاصطناعي والبيئة

1- رصد المناخ

يوجد لدينا بالفعل كثيرٌ من التقنيات لرصد (مراقبة) مناخنا، لكن دمج الذكاء الاصطناعي بمثل هذه الأجهزة قد يُتيح لنا ارتقاءً بقدراتنا في الرصد إلى مستوى أعلى. وبمساعدة الذكاء الاصطناعي يمكن التعرف على أنماط مناخية معينة لم تكن ملاحظتُها ممكنةً باستخدام الأساليب التقليدية. علاوةً على هذا، يمكن للذكاء الاصطناعي استخلاص استنتاجات مهمة حول الاتجاه الذي يتخذه مناخنا، مما يسمح لنا بتخفيف الآثار السلبية بشكل أفضل.

لتحقيق ذلك، قد يكون من المفيد تزويد الأقمار الصناعية المدارية بقدرات الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن رسم صورة أكبر لحالة الكوكب، كما يمكن -أيضًا- استخدام رصد المناخ بالذكاء الاصطناعي على نطاق أصغر؛ لتقييم الطبيعة المتغيرة في نظام بيئي مُعين.

2- قياس البصمة الكربونية

تُعَدُّ انبعاثاتُ الكربونِ سببًا رئيسيًّا في تغير المناخ، حيث تشير تقارير “عالمنا في البيانات” إلى أنَّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون قد بلغت 1.5 تريليون طن منذ عام 1750، ومن الواضح -لمعظمنا- أنَّ معالجةَ تغير المناخ تتضمنُ -بصورة كبيرة- الحدَّ من انبعاثات الكربون، ولكن هذا لم يحدث، أو أنه يحدث بوتيرة بطيئة.

بواسطة الذكاء الاصطناعي يمكن تتبع بصمات الكربون الصادرة عن الشركات الكبيرة، مثل شركات النفط والغاز، ومصنِّعي الملابس، وكيانات الزراعة العملاقة؛ وهذا بشكل مستمر لتحديد تأثير عملياتهم في كوكبنا. أضف إلى هذا، أنه يمكن للذكاء الاصطناعي حساب البصمة الكربونية للأفراد أو السكان كلهم، مثل سكان مدينة رئيسية أو بلدة صغيرة.

أيضًا، قد يساهم استخدامُ الذكاءِ الاصطناعيِّ التنبُّؤيِّ (أي: تحليل البيانات والتعلم الآلي لعمل التنبؤات) في التنبؤ -مستقبلًا- بانبعاثات الكربون، مما يسمح لنا برؤية كيفية سير الأمور بناءً على أنشطتنا الحالية، وهذا التنبؤ يمكن أنْ يساعد على وضع القوانين واللوائح البيئية، التي تفرضها الحكوماتُ والاتفاقياتُ الدولية والإقليمية.

هناك استخدامٌ آخرُ محتمَلٌ ومثيرٌ للاهتمام، هو استخدام الذكاء الاصطناعي في التخفيف من البصمة الكربونية العالمية، وهو تحديد مصادر انبعاثات الكربون، مع تسليط الضوء على المتسببينَ الرئيسيينَ في هذه المشكلة. يمكن القيام بهذا على نطاق واسع أو ضيق، ولكن في كلتا الحالتينِ يمكن أنْ يزودنا هذا التحديد العالمي ببعض المعلومات الأساسية حول ما -أو مَن- الذي يؤذي كوكبنا.

3- رصد التغيرات في استخدامات الأراضي

في وقتنا الحالي، يؤدي استخدام أراضي كوكبنا دورًا رئيسيًّا في تغير المناخ، حيث تساهم الزراعة العشوائية وإزالة الغابات والزحف العمراني في ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا من خلال انبعاثات الكربون وإزالة الموائل الطبيعية؛ لهذا من المهم مراقبة أساليب استغلالِ الأراضيِ، أو إساءة استخدامها بشكل دائم ودقيق.

يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي بهذه الطريقة لمعرفة كيف يمكننا تحسين ممارسات استخدام الأراضي لدينا، وربما كيف يمكننا اكتساب أفكار جديدة حول كيفية استخدام الأراضي بشكل أكثر ذكاء. على سبيل المثال، استخدام مساحات من الصحراء لإنشاء مزارع الألواح الشمسية، أو استخدام المناطق الساحلية لاستغلال طاقة المد والجزر.

4- توليد أفكار جديدة صديقة للبيئة

بالنظر إلى أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ شكلٌ من أشكال التكنولوجيا الذكية التي يمكنها تعلم وربط المعلومات – فقد يكون مفيدًا في توليد أفكار جديدة ومبتكرة، يمكنها أنْ تساعد على معالجة تغير المناخ. على سبيل المثال، يمكن تغذية نظام الذكاء الاصطناعي ببيانات عن طرق استخدام أنواع الطاقة، فضلًا عن التكنولوجيا المتاحة في عصرنا الحديث، وبيان الأهداف البيئية التي نرغب في الوصول إليها، وبعد هذا يمكن للنظام سرد بعض الخيارات لإنتاج طاقة بشكل أكثر ذكاءً يساعد على الحدِّ من استخدام الموارد وانبعاثات الكربون، وربما يوفر المال أيضًا.

يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي على مستوى المستخدم النهائي؛ لتوفير الطاقة في المنزل، أو منح الشركات طرقًا أكثر فاعليةً لتشغيل الآلات ونقل البضائع، وغير هذا. يمكن أيضًا دمج الذكاء الاصطناعي بالتطبيقات التي تركز على البيئة؛ حتى يتمكن المستخدمون من إيجاد طرق جديدة لتقليل بصماتهم الكربونية في حياتهم اليومية.

على الرغم من أنَّ لدينا بالفعل خبراءَ بشريينَ يمكنهم الإسهام في هذا المجال، فإنَّ الكَمَّ الهائلَ من البيانات التي يمكن أنْ تستهلكها أنظمةُ الذكاءِ الاصطناعيِّ -وكذلك قدرتها على ملاحظة الأنماط والبحث عن حلول- تجعلها مرشحًا واعدًا في سعينا لأنْ نكون أكثر لطفًا على كوكبنا.

5- دَقُّ جرسِ إنذار الكوارث البيئية

من النتائج المخيفة لتغير المناخ زيادةُ تواتر الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات وحرائق الغابات. يمكن أن تكون هذه الأحداثُ مدمرةً، ويمكن أنْ تُودِي بحياة أناس كثيرين؛ لذا من الأهمية بمكان أنْ يكون لدينا تكنولوجيا لمراقبة الكوكب؛ لتنبيه الأطراف المعنية بأي تهديدات وشيكة.

يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في المعدات الحسية، ومعدات المراقبة، والتقنيات المماثلة؛ لمراقبة الأنماط الطبيعية داخل البيئات المختلفة؛ ومن ثَمَّ إطلاق الإنذار متى تغير شيءٌ ما. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي مراقبة أنظمة الطقس، والتنبؤ بهطول الأمطار، والتحذير من درجات الحرارة المرتفعة في الغابات، وغير هذا كثير.

بالإضافة إلى ما سبق، قد يستطيع الذكاءُ الاصطناعيُّ -مثلًا- وضع خطط فعَّالة للإخلاء، أو الإنقاذ، أو إعادة البناء إذا ما وقعتْ كارثةٌ. ويمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي لإيجاد طرق إخلاء مناسبة، كما يمكن أنْ يساعد المهندسين المعماريين على بناء أنواع من البنية التحتية المقاوِمة للكوارث؛ لتخفيف الضرر في حالة حدوثها.

6- الجانب البيئي السلبي للذكاء الاصطناعي

على الرغم من وجود طرق كثيرة يمكن للذكاء الاصطناعي من خلالها أنْ يساعدنا على مكافحة تغير المناخ – فإنَّ هذه التكنولوجيا -مثل غيرها- تلحق الضرر -فعليًّا- بالبيئة.

يستغرق تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي واختبارها وقتًا طويلًا، ويستهلك كميات طاقة كبيرة، حيث تشير التقاريرُ إلى أنَّ نموذجًا واحدًا للذكاء الاصطناعي يمكن أنْ ينبعث منه ما يصل إلى 300 كجم مكافئ من ثاني أكسيد الكربون، وهي الكمية نفسها التي تطلقها خمس سيارات متوسطة العمر.

من المهم هنا أنْ نلاحظ أنه على الرغم من جميع الفوائد المحتملة فإنَّ عمليات تطوير وإنشاء تقنيات الذكاء الاصطناعي لها بصمة كربونية كبيرة، وهذا أثرٌ سلبيٌّ لا يجب أنْ نغفله في ظل الفوائد الكثيرة التي يمكن أنْ تعود على البشرية من وراء الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.

ولكن ماذا عن الجانب الأخلاقي في الذكاء الاصطناعي؟ فهل يمكن أنْ يتحول من أداة تنموية إلى أداة تَحَكُّمِيَّةٍ في يد الدول المتقدمة، حتى تُسيطر بها على غيرها من الدول؟ سنترك الإجابةَ عن هذينِ السؤالينِ إلى قلم الدكتور/ محمد الخياط “رئيس هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة”.

حضرة الذكاء الاصطناعي

د محمد الخياط

كنا نناقش موقفَ تنفيذ أحد المشروعات عندما ألمحتُ إلى أهمية إرسال بريد إلكتروني إلى الشركة القائمة على الإنشاءات؛ حتى يعكس موقف المؤسسة، وذكرتُ عدةَ محاور لتضمينها في الرسالة. في أقل من دقيقة أشارتْ إليَّ إحدى الزميلات بأنَّ مقترَحَ البريد جاهزٌ لعرضه على شاشة العرض أمام الحضور لمناقشته، فنظرتُ نحوها بدهشة، ولسان حالي يقول: “كيف هذا؟!”، لكن دهشتي زادت عندما رُحْتُ أقرأ من الشاشة. كان النَّصُّ مقبولًا إلى حد كبير باستثناء بعض ملحوظات بسيطة، وعندما سألتها: “كيف، وبهذه السرعة؟!” أجابتْ: “إنه حضرة الذكاء الاصطناعي!!”.

مما يُروى أنَّ عشرات الآلاف من المواطنين قد عُيِّنوا مخبرين سريين إِبَّان الحُكم البوليسي في ألمانيا الشرقية، قبل انهيار جدار برلين في نوفمبر 1989؛ وهذا بغرض الحصول على تقارير أمنية عالية المستوى. هذا الأمر أدَّى إلى تلقي مقر المخابرات -يوميًّا- آلاف التقارير التي يحتاج تحليلها بشكل دقيق لاستخلاص النتائج إلى آلاف آخرين؛ وحينها أصبح المسئولون واقفينَ أمام ضغط عمل لم يتخيلوه، ومواجهينَ قراراتٍ محل شكوك.

اليوم، تتكفل الثورة الرقمية بالأمر، حيث تُرسِلُ الهواتفُ والحواسبُ أرتالًا من البيانات عن تفاصيل حياتنا -المواطن والمخبر معًا- إلى مراكز البيانات المنتشرة في أرجاء الكرة الأرضية؛ ليحولها الذكاءُ الاصطناعيُّ إلى مختبر هائل للسلوك الإنساني، وحقل تجارب للعلوم الاجتماعية والاقتصادية وعلم النفس، ولأنَّ المراقبةَ أصبحت ممكنةً ويسيرةً صار التوجيه سهلًا.

من هنا، فإنَّ الكاميرات المبثوثة في الشوارع، والمكاتب، ومواقف الحافلات -فضلًا عن كاميرات الهواتف الذكية- ليست سوى عيون ترصد كل حركة، وحتى الميكرفون المثبت في هواتفنا ليس سوى أُذن تسمع دبيبَ ما حولها. والذكاء الاصطناعي رقيب عتيد، يفرز ويحلل ويتخذ القرارات، وهو صورة أقرب ما تكون إلى طبيعة الأخ الأكبر في رواية “1984” للكاتب الإنجليزي “جورج أورويل”.

أيضًا، ما إنْ يمرر الكاشيرُ بطاقةَ ائتمان أحد الزبائن في الشق المخصص لها حتى تنكشف رغبات الزبون كافةً، وبالتالي تحدد الشركاتُ المنتجاتِ التي يكون الإقبال عليها أكثر، وحجمَ المخزون منها والمتاح في الأسواق، ومتى تطلب شحنات إضافية، وكذلك بث رسائل تسويق تختلف حسب الفئة المستهدفة.

لتوسيع قاعدة الولاء والإخلاص للماركات التجارية والمحلات، تستخدم بعضُ المتاجرِ عربات تسوق ذكية، ترشد الزبائن عبر كارت العميل الدائم -كارت تهديه المتاجرُ إلى زبائنها الدائمين- إلى مواقع الخصومات، مع بعض النصائح السريعة التي تتناسب ورغباته. كل هذه الخدمات وغيرها لم تكن لتتم لولا خوارزميات الذكاء الاصطناعي المعتمدة على حصد وهضم أكبر قدر مستطاع من البيانات، التي صارتْ تُعرف باسم البيانات الكبيرة “Big Data”.

لكن للبيانات الكبيرة استخدامات سيئة، وأشهر مثال على هذا ما واجهه “مارك زوكربيرج” الرئيس التنفيذي لشركة ميتا -فيسبوك سابقًا- في عام 2018، حيث استجوبه الكونجرس الأمريكي على خلفية ما عُرف بفضيحة تسريبات فيسبوك واختراق البيانات الشخصية لملايين المستخدمين وتحليلها بواسطة شركة كامبريدج آناليتيكا؛ مما أدَّى إلى استقالة مديرها التنفيذي “آلكسندر نيكس” آنذاك، خاصةً بعد اكتشاف استخدام الشركة بعضَ هذه البيانات لابتزاز سياسيين ومشاهير؛ حتى يدفعوا مبالغ مالية مقابل صمت الشركة عن بعض أعمالهم. هذا خلاف استخدام البيانات في معرفة توجهات الناخبين والانتماءات الحزبية، مع التركيز على أصحاب الصوت المتذبذب، الذين لم يحسموا اختياراتهم بعدُ؛ وبالتالي انتقاء الرسائل والإعلانات الموجهة إليهم بهدف توجيه انتماءاتهم.

ليس هذا فحسب، وإنما صار توقعُ اتجاهاتِ الأسواق المالية، الأسهم، مؤشرات البورصات، أسعار العملات، والعقود الآجلة -مثل أسعار النفط- معتمدًا بشكل رئيسي على التنبؤ المبني على أسس علمية. كذلك الأمر في الطب ومعرفة الحالة الصحية للمريض وما مَرَّ به من أمراض، حيث يُمْكِنُ للأطباء توقع الإصابة ببعض الأمراض؛ وبالتالي فإنَّ الكشفَ المبكرَ عنها يخفف من آثارها، إنْ لم يكن يساعد على تلافيها. من هنا تنمو استخدامات برامج الذكاء الاصطناعي في نواحي الحياة كافةً، فما دامتْ هناك بياناتٌ تاريخيةٌ وبرامجُ محاكاةٍ يصبح توقعُ المستقبلِ مرهونًا بالضغط على زِرِّ الكمبيوتر الشخصي؛ لمعرفة ما لم يحدث بعدُ.

تلك نماذج حقيقية ومتنوعة تُجيب عن سؤال: كيف يمكن توقع أفعالنا المستقبلية -‌يَا ‌لَلْعَجَبِ- التي صارت نتاج هضم برامج المحاكاة لذكرياتنا وماضينا؟ وربما يثير هذا فينا الفضول، وربما بعض القلق؛ بسبب قدرة هذه الأجهزة على تغييب بني البشر.

ويجب علينا أنْ نتذكر أننا حين نُعرِبُ عن قلقنا مِن حضرة الذكاء الاصطناعي، فإننا نشيرُ -بشكل غير مباشر- إلى قلقنا مِنَّا نحن البشر القائمين على برمجة تلك الدوائر الإلكترونية؛ لتتحكم -باستخدام برمجيات خاصة- في عدة قِطَعٍ ميكانيكية، نطلق عليها -لاحقًا- اسمَ روبوت، نغرسُ فيه بعضَ خصالٍ ظاهرها طيب وباطنها خبيث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى