الزراعة المدعومة من المجتمع من أجل مستقبل غذائي مستدام
الزراعة المدعومة من المجتمع من أجل مستقبل غذائي مستدام
في عصر تزداد فيه المخاوف بشأن جودة الطعام، يبحث كثيرون عن طرق تضمن لهم غذاءً أكثر أمانًا واستدامة، وهنا يبرز مفهوم يعيد تشكيل العلاقة بين المنتجين والمستهلكين، بحيث لا يقتصر دور المستهلك على الشراء، وإنما يصبح شريكًا في عملية الإنتاج نفسها.
ذلك المفهوم هو الزراعة المدعومة من المجتمع (community-supported agriculture)، الذي يتيح للمستهلكين دعم المزارعين المحليين مقابل الحصول على منتجات طازجة وموسمية؛ فكيف نشأ هذا المفهوم؟ وما الذي يجعله خيارًا واعدًا لمستقبل غذائي أكثر استدامة؟ هذا ما تناقشه حماة الأرض في السطور القادمة؛ فتابعوا القراءة.
مفهوم الزراعة المدعومة من المجتمع
الزراعة المدعومة من المجتمع (CSA) هي نموذج زراعي يربط المزارعين مباشرة بالمستهلكين من خلال نظام اشتراك يتيح للأفراد الحصول على حصص منتظمة من المنتجات الزراعية المحلية، مثل الخضراوات، والفاكهة، والسلع الأخرى. ويسهم المشتركون مقدَّمًا في تكاليف الإنتاج؛ مما يمنح المزارعين دعمًا ماليًّا مستقرًّا، في حين يحصل المشتركون على منتجات طازجة وموسمية.
ولا يوفر هذا الأسلوب دعمًا ماليًّا للمزارعين فقط، وإنما يقوي العلاقة بين المجتمع والمزارع، حيث يحصل المشترك على حصته من المنتجات الطازجة والمحلية خلال الموسم، وفي المقابل يتحمل جزءًا من مخاطر الإنتاج، مثل الطقس السيئ أو انخفاض الإنتاج، وهكذا يصبح الغذاء تجربة مجتمعية تنشئ ارتباطًا مباشرًا بين المزارع والمستهلك؛ وهو ما يعزز الشعور بالمسئولية في الاستهلاك والإنتاج، ويسهم في تحقيق الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة “الاستهلاك والإنتاج المسئولان”.
تاريخ الفكرة وتطورها
إنَّ فكرة الزراعة المدعومة من المجتمع ليست وليدة العصر الحديث، بل تعود جذورها إلى اليابان في الستينيات، حيث ظهرت حركة “تيكي” (Teikei)، وهي مبادرة أنشأتها مجموعة من النساء القلقات بشأن تأثير المبيدات في الصحة، وبدافع السعي نحو غذاء أكثر أمانًا، وقد بدأنَ حينئذٍ في دعم المزارعين المحليين لضمان الحصول على منتجات طازجة ونظيفة.
ولم يكن التأثير الأكبر لهذه الفكرة من اليابان، وإنما من أوروبا، وتحديدًا من التقاليد الزراعية الحيوية التي وضعها الفيلسوف النمساوي “رودولف شتاينر” في العشرينيات، التي أكدت أهمية التوازن بين الإنسان والطبيعة، والاعتماد على الموارد المحلية، والحد من التدخلات الصناعية في الإنتاج الزراعي.
وبمرور الزمن وصلت الفكرة إلى الولايات المتحدة، حيث تم إنشاء أول مزرعتين بنظام CSA عام 1986، وكانت إحداهما في ولاية “ماساتشوستس” والأخرى في ولاية “نيوهامبشاير”، ومنذ ذلك الحين شهدت الفكرة انتشارًا واسعًا، حتى أصبحت اليوم نموذجًا عالميًّا يسهم في تحقيق الأمن الغذائي، ويعزز التنمية المستدامة، ويقلل من الاعتماد على سلاسل التوريد الصناعية الطويلة.
نماذج واقعية
وتُعد تجربة مزرعة (Indian Line Farm) في “ماساتشوستس” نموذجًا رائعًا لكيفية نجاح الزراعة المدعومة من المجتمع، حيث بدأت هذه المزرعة بنموذج بسيط؛ فقد اشترك عدد محدود من العائلات لدعم الإنتاج الزراعي، غير أنها سرعان ما تحولت إلى مشروع زراعي ناجح يوفر الغذاء لمئات الأسر.
وتبنت عدة دول أوروبية هذا النموذج بصيغ مختلفة تتلاءم مع طبيعة مجتمعاتها؛ ففي فرنسا ظهر نموذج الجمعيات للحفاظ على الزراعة الريفية (AMAP)، الذي يقوم على شراكة وثيقة بين المزارعين والمستهلكين لإنشاء نظام غذائي محلي يحمي الأراضي الزراعية، ويدعم المزارعين في مواجهة التقلبات الاقتصادية.
وقد تبنت ألمانيا نموذج “سولافي – Solidarische Landwirtschaft”، وهو نموذج يعتمد على إسهام المشتركين في تمويل المزارعين من خلال اشتراكات سنوية، مقابل الحصول على منتجات طازجة مباشرة من المنتجين. أما في الولايات المتحدة فقد شهدت شبكة (CSA) نموًّا هائلًا؛ إذ تضم اليوم أكثر من 2500 مزرعة؛ وهو ما يعكس نجاح هذا النموذج باعتباره بديلًا مستدامًا للزراعة التقليدية، وقادرًا على تلبية احتياجات المجتمعات المحلية وتعزيز الأمن الغذائي.
خصائص الزراعة المدعومة من المجتمع
تختلف الزراعة المدعومة من المجتمع (CSA) عن النماذج الزراعية التقليدية؛ إذ تقوم بإلغاء الحاجة إلى الوسطاء، من خلال الشراكة المباشرة بين المُزارع والمستهلك، كما تتميز هذه الأنظمة بدرجة عالية من الشفافية والتفاعل المجتمعي، حيث يعرف المشتركون مصدر غذائهم، فضلًا عن أنهم يمكنهم زيارة المزرعة والمشاركة في أنشطتها، وهذا ما يعزز الشعور بالمسئولية تجاه البيئة ونظم الغذاء المستدامة.
ولا تقتصر فوائد الزراعة المدعومة من المجتمع على المستهلك فقط، وإنما توفر حلًّا اقتصاديًّا مستدامًا للمزارعين من خلال ضمان دخل ثابت يحميهم من تقلبات السوق، بالإضافة إلى تعزيز التنوع البيولوجي عبر تشجيع زراعة محاصيل متنوعة؛ مما يقلل من مخاطر الزراعة الأحادية التي تؤثر سلبًا في البيئة.
وإلى جانب ذلك، يسهم هذا النموذج في مكافحة التغير المناخي من خلال تقليل انبعاثات الكربون المرتبطة بالنقل مسافاتٍ طويلةً؛ بسبب اعتماده على الاستهلاك المحلي، وهو ما يعزز تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، خاصة الهدف (13) “العمل المناخي”.
تحديات الزراعة المدعومة من المجتمع
ورغم تلك المزايا العديدة فإنَّ الزراعة المدعومة من المجتمع تواجه بعض التحديات، مثل صعوبة إقناع المستهلكين بالالتزام المالي المقدم، خاصة في المجتمعات غير المعتادة على هذا النموذج. كما أن العوامل الجوية غير المتوقعة قد تؤثر في المحاصيل، مما يضع ضغطًا إضافيًّا على المزارعين والمستهلكين على حد سواء، فضلًا عمَّا يواجهه بعض المزارعين من صعوبة في إدارة الجوانب الإدارية والتسويقية لمثل هذه المشروعات، حيث يحتاج نجاح نظام (CSA) إلى تنظيم فعال وتواصل مستمر بين المزارع والمستهلكين لضمان الاستدامة.
ولمواجهة التحديات التي تعترض طريق الزراعة المدعومة من المجتمع، يمكن تبني استراتيجيات مثل تنويع مصادر التمويل، وتعزيز الشراكات بين المزارعين والمستهلكين، ودمج الحلول الرقمية لتسهيل عمليات التسويق والتوزيع والتواصل؛ فمع استمرار الجهود في هذا الاتجاه يبدو هذا النموذج قادرًا على التطور.
وترى حماة الأرض أنَّ الزراعة المدعومة من المجتمع نموذج يعيد تعريف العلاقة بين الغذاء والإنسان والبيئة، حيث يصبح الاستهلاك والإنتاج مسئولية مشتركة، وتصير الاستدامة هدفًا ملموسًا؛ ولذلك فإنَّ دعم المبادرات الزراعية المحلية أصبح أحد المسارات الفعالة لبناء نظام غذائي أكثر استقرارًا وأمانًا.