الفحم الحيوي مورد طبيعي يعيد التوازن إلى التربة
الفحم الحيوي مورد طبيعي يعيد التوازن إلى التربة
أصبحت الأزمات المناخية في السنوات الأخيرة واقعًا يفرض تأثيراته المباشرة في العديد من القطاعات الحيوية، وعلى رأسها الزراعة؛ فموجات الجفاف، وتدهور خصوبة الأراضي، وتقلبات الإنتاج الزراعي، كلها مؤشرات تُنذر بأن أنظمة الزراعة التقليدية لم تعد قادرة على مواكبة التغيرات الحادة في البيئة.
هذا الواقع دفع العلماء إلى إعادة النظر في أساس العمليات الزراعية، لا من حيث الأدوات أو الآلات، وإنما من حيث التربة نفسها؛ فخصوبة التربة لم تعد تُقاس فقط بمدى إنتاجها، وإنما بقدرتها على الصمود، وعلى تنظيم المياه، وتدوير المغذيات، وعزل الكربون.
ومن هنا بدأ الباحثون يتوجهون إلى حلول عملية تركز على تحسين أداء النظم البيئية من الداخل، بدلًا من الاعتماد على التكنولوجيا أو المدخلات الصناعية فقط، ومن أبرز هذه الحلول استخدام الفحم الحيوي باعتباره خيارًا يستحق الاهتمام؛ لتعدد فوائده البيئية والزراعية.
فما الفحم الحيوي؟ ولماذا يُنظر إليه باعتباره أداة متعددة الوظائف يمكن أن تُحدث فرقًا في خصوبة التربة وكفاءة الزراعة؟ لفهم ذلك، تستعرض حماة الأرض في هذا المقال طريقة إنتاجه، وخصائصه، ثم استكشاف آثاره المباشرة وغير المباشرة في النظم الزراعية؛ فتابعوا القراءة.
ما المقصود بالفحم الحيوي؟
الفحم الحيوي (Biochar) ليس منتجًا صناعيًّا، بل هو مادة عضوية تنتج عن تسخين مخلفات نباتية، مثل بقايا النباتات والخشب، في بيئة منخفضة الأكسجين. وهي عملية تُعرف بالتحلل الحراري، وينتج عنها مادة سوداء غنية بالكربون، يمكن إضافتها إلى التربة لتُحدث فرقًا حقيقيًّا في خصائصها.
وتتجلى أهمية الفحم الحيوي في قدرته على تحسين التربة من عدة جوانب؛ فهو يعزز احتفاظها بالماء، ويحد من فقدان العناصر الغذائية، وينشّط الكائنات الدقيقة التي تسهم في توازن النظام البيئي للتربة، وكل ذلك دون الاعتماد على مدخلات كيميائية إضافية.
وإلى جانب ذلك له دور مؤثر في تقليل الانبعاثات الضارة، من خلال تثبيت الكربون داخل التربة وقتًا طويلًا. وتشير أبحاث أُجريت في جامعة كونيتيكت الأميركية إلى أن تأثير الفحم الحيوي يتجاوز الجوانب الفيزيائية للتربة؛ ليشمل دعم النشاط البيولوجي الموجود فيها، وهو ما نسلط الضوء عليه في الفقرات التالية.
الفحم الحيوي يكافح التغير المناخي
مما لا شك فيه أنَّ التربة ليست خليطًا من المعادن والمواد العضوية فحسب، فهي نظام بيئي ديناميكي وحيوي يضم مليارات الكائنات الحية الدقيقة، مثل البكتيريا والفطريات، التي لها دور جوهري في إعادة تدوير المغذيات واحتجاز الكربون وتحسين صحة التربة.
وتسهم هذه الميكروبات في تعزيز بنية التربة، وتحسين قدرتها على الاحتفاظ بالمياه، وزيادة خصوبتها بشكل طبيعي، بالإضافة إلى أن لها دورًا كبيرًا في عملية احتجاز الكربون، حيث تقوم بتحليل المواد العضوية وتحويلها إلى أشكال مستقرة من الكربون؛ مما يساعد على تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة والإسهام في التخفيف من آثار التغير المناخي.
وقد أظهرت دراسات من جامعة كونيتيكت أن وضع الفحم الحيوي في التربة يساعد على زيادة نشاط الميكروبات بنسبة تصل إلى 21%؛ تلك الكائنات صاحبة الدور الأبرز في تفكيك بقايا النباتات، وتحسين تهوية التربة، وتخزين الكربون بداخلها؛ ومِن ثَمَّ تصبح التربة أكثر خصوبة، وأقدر على تحمل الجفاف والتغيرات المناخية القاسية.
إن قطعة صغيرة من الفحم الحيوي تحتوي على شبكة واسعة من المسام والفراغات المجهرية، التي توفر بيئة مثالية لنمو الميكروبات وتكاثرها، حيث تعد هذه الفراغات ملاجئ طبيعية تحمي البكتيريا والفطريات من الظروف البيئية القاسية، مثل الجفاف والتغيرات الحادة في درجات الحرارة؛ مما يمنحها فرصة أكبر للبقاء والتكيف.
كما أن هذه المسام تعد خزانات دقيقة تمتص العناصر الغذائية الأساسية، مثل الكربون والنيتروجين والفوسفور؛ مما يسهم في تعزيز النشاط الميكروبي وتحفيز عمليات التحلل العضوي داخل التربة، وهو ما يؤدي إلى تحسين خصوبتها وتعزيز قدرتها على الاحتفاظ بالمياه.
ومن جهة أخرى، تظهر الأبحاث أن التأثير الإيجابي للفحم الحيوي يكون أكثر وضوحًا عند دمجه مع ممارسات زراعية أخرى، مثل إضافة السماد العضوي أو الروث الطبيعي؛ مما يوفر نظامًا متكاملًا يدعم صحة التربة ويزيد من إنتاجية المحاصيل بطريقة مستدامة.
دور الفحم الحيوي في تحقيق التنمية المستدامة
ولا يمكن الحديث عن حلول بيئية فعالة دون ربطها بالأهداف العالمية التي وضعتها الأمم المتحدة لتحقيق التنمية المستدامة، سعيًا إلى تحقيق توازن بين تلبية احتياجات البشر وحماية الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. من هذا المنطلق، يُعد تحسين التربة وزيادة إنتاج الغذاء بطرق صديقة للبيئة خطوة أساسية للقضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي، خاصة في ظل تزايد الضغوط على النظم الزراعية في كثير من دول العالم، وهو ما يدعم تحقيق الهدف (2) “القضاء على الجوع”.
بالإضافة إلى أن تقليل الانبعاثات الناتجة عن الزراعة يندرج ضمن الهدف (13) “العمل المناخي”، حيث يسهم الفحم الحيوي في تقليل انبعاث الكربون من التربة، وتحسين مرونتها في مواجهة الظواهر المناخية المتطرفة. كما أن قدرته على تقليل فقد المياه وتعزيز كفاءة استخدامها يجعله خيارًا حيويًّا، خاصة في المناطق التي تعاني من شح المياه.
ومع تزايد التحديات البيئية، بات من الضروري دمج هذه الابتكارات في السياسات الزراعية، محليًّا وعالميًّا؛ لضمان مستقبل أكثر استدامة. ولهذا السبب، يوصي الخبراء والمزارعون بتوسيع نطاق استخدام الفحم الحيوي، وتطوير البنية التحتية والمعرفة اللازمة لتطبيقه على نطاق واسع، باعتبارها جزءًا من التحول الحقيقي نحو الزراعة المستدامة.
التحديات والفرص المستقبلية
ورغم كل هذه الفوائد فلا يزال تطبيق الفحم الحيوي على نطاق واسع يواجه بعض العقبات، مثل التكلفة المرتفعة والتحديات المرتبطة بإنتاجه بكميات كبيرة؛ ولهذا يسعى الباحثون حاليًّا إلى تطوير نماذج اقتصادية تقوم على مفهوم إعادة التدوير، حيث يتم جمع النفايات العضوية المحلية وتحويلها إلى فحم حيوي يُعاد استخدامه في تحسين جودة التربة.
في الختام، يمثل استخدام الفحم الحيوي خطوة حيوية نحو تحقيق الزراعة المستدامة في مواجهة تحديات المناخ، وفي الوقت الذي يتواصل فيه دعم البحث والتطور في هذا المجال، تؤمن حماة الأرض بأهمية نشر الوعي حول هذه الحلول المبتكرة لتوفير بيئة صحية ومستدامة للأجيال المقبلة.