بقلم الاستدامة.. من التدهور العمراني إلى المدن المستدامة
بقلم الاستدامة.. من التدهور العمراني إلى المدن المستدامة
إنَّ حياةَ الإنسانِ نظامٌ له متطلبات عديدة ومتنوعة، وهذه المتطلبات مرتبطة باستغلال الموارد واستهلاكها، ومِن هذه المتطلبات الزحفُ العمرانيّ، وإقامةُ المباني الأسمنتية محل الأراضي الزراعية. وهذا التوسع العمرانيّ يأتي على حساب تلك الأراضي المزروعة؛ مما يؤدي إلى تلوث البيئة بصورة أو بأخرى.
واليوم -بعدما دخلت مصرُ عصرًا جديدًا من التحضر والابتكار- أصبح لزامًا علينا أنْ نعطي أولويةً للقضايا والملفات المهمة، التي على رأسها تخضير المدن. وهي القضية التي آمنتُ بها وما زلتُ، غير أنها قضية ذات أبعاد اجتماعية، لا سيما عند النظر إلى تأثيرات الزحف العمرانيّ في موارد البيئة وخطط تنمية مواردها.
مِن هنا، كان التوجه المصريّ نحو وقف هذا الزحف العمرانيّ في أنحاء الجمهورية، خاصةً في محافظة القاهرة، التي باتت مكتظةً بسكانها؛ لذا كان علينا أنْ ننظرَ بعين الاعتبار إلى مشروعات بناء المدن المستدامة، مكافَحَةً للمشكلات الاقتصادية المرتبطة -بشكل مباشر أو غير مباشر- بالأرض، والذي يُتَرجَمُ في أرض الواقع إلى تدهور بيئيّ، يمكن أنْ يقضيَ على الأخضر واليابس.
كان النمو السكانيّ مَلمحًا من ملامح التحضر، لكن هذا لم يعد الحال؛ لأنَّ الزيادةَ البشريةَ تستطيع أنْ تلتهمَ مقدرات وموارد الدول في سنوات معدودة، وهو ما رأيناه في الزحف البشريّ على أطراف القاهرة، حيث ماتَ الأخضرُ وعاشتِ الكتلُ السكنيةُ! وكادت أنْ تتحولَ القاهرةُ إلى مكان غير صالح للسُّكنى.
والآن، رأتِ الدولةُ في وقف هذا الزحف العمرانيّ فرصةً مواتيةً لزيادةِ الوعي بقضايا البيئة ومواردها بين المواطنينَ، والدعوةِ إلى بناء مدن مستدامة، يستنشق فيها المصريون هواءً نقيًّا، ويحيون حياةً صحيةً.
وإذا أردنا أنْ نفهمَ سببَ ذلك الإلزام الذي أشرتُ إليه في مطلع المقال -وهو إلزام يقع على عاتق الحكومة- فعلينا أنْ ندركَ مدى الضرر الذي يصيب الحياة الاجتماعية والاقتصادية جرَّاء المخالفات البيئية في مجال المباني؛ فإنَّ عناصرَ البيئةِ كائنٌ حيّ، تجب علينا رعايته مثلما نرعى أطفالنا، وإلَّا جاءتِ النتائجُ خطيرةً.
لذا، كانتِ الدولةُ بالمرصاد، ولم تَأْلُ جهدًا لأجل إصدار القوانين والتشريعات الحازمة، منعًا للتلاعب بالبيئة ومواردها، وتصديًا لإهدار حقوق الأجيال الحالية والقادمة، وذلك قبل أنْ يصبح العبثُ بالبيئة مَظهرًا من مظاهرِ القضاءِ على الحياة نفسها!
الطريق من القاهرة إلى العاصمة الإدارية
السؤال هنا، هو كيف يمكننا أنْ نعيد بعث البيئة العمرانية من جديد، ودعم أنظمة حياتها؟ إنَّ البنيةَ التحتيةَ يمكنها زيادة المشكلات البيئية داخل المدينة بصورة عامة، حيث إنَّ تهالكَ شبكات الصرف الصحيّ -على سبيل المثال- يتسبب في معضلات بيئية كثيرة؛ لأنَّ تحركَ الكتل السكانية بصورة مستمرة يضغط على طاقة محطات الصرف الصحيّ، فضلًا عن بعض الممارسات البشرية غير المسئولة، كإلقاء المخلفات في هذه الشبكات الحيوية.
هذه الأنشطة الحياتية يمكن أنْ تشكل حِملًا زائدًا على البنية التحتية والموارد؛ مما يؤدي إلى تشويه عناصر بيئية وأصول معمارية عديدة؛ لذا سَعَت مصر في هذا المجال إلى إعادةِ تخطيطِ القاهرةِ تخطيطًا متوافِقًا مع متطلبات التحول الأخضر، ومتوازنًا مع البيئة وإدارة مواردها بصورة مسئولة، كما سعت أيضًا إلى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة؛ تلك المدينة المبنية على أسس معمارية تمنح للبيئة حقها، وتلبي احتياجاتها المستقبلية.
إذنْ، لا أبالغ إنْ قلتُ: إنَّ العاصمةَ الإداريةَ الجديدةَ هي حجر الأساس في الجمهورية الجديدة؛ لأنها تعكس واقعَ التنمية المستدامة وأهدافَهَا داخل الاستراتيجيات الوطنية المصرية، وتُبرز الدورَ الذي تقوم به الدولةُ في سبيل بناء مسارات الاستدامة في كل المجالات.
وليس هذا التحول الإداريّ إلى العاصمة الإدارية الجديدة تحولًا مكانيًّا فحسب، وإنما هو تحول يُضفي على الإدارة المصرية روحًا جديدةً؛ ليكون هذا أفقًا مغايرًا قائمًا على الرقمنة؛ لتجعل الدولةُ من الحلول الذكية -في جميع قطاعاتها- أسلوبًا دائمًا؛ ما يعني تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتعتمد مصرُ في هذا التحول الإداريّ على عدة أسس، منها: تنفيذ برامج ومبادرات لبناء قدرات الموظفين، ورفع كفاءة الجهاز الإداريّ، ووضع دليل استرشاديّ لهذا التحول.
العمران المصريّ والتغيُّرات المناخية
بالنظر إلى ما سبق، زاد الاهتمام بالأراضي وكيفية إدارتها، وهذا حينما أصبح واضحًا أنَّ هناك مشكلاتٍ اقتصاديةً واجتماعيةً وعمرانيةً -ومنها التدهور البيئيّ- يسببها استهلاك الأراضي بإقامة المباني السكنية دون تخطيط؛ مما دفع الوزارات المعنية إلى تخطيط أراضي المحافظات الجديدة بأسلوب علميّ؛ كي تلبي هذه المدن المصريةُ الطلبَ المتزايدَ على وحدات السكن.
وإذا كان في التوسع العمرانيّ -توفيرًا للوحدات السكنية- ضرورةٌ، فقد تسببت هذه الضرورةُ في ضياع مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى تأثير هذا في موارد البيئة؛ لذا كانت خطط الدولة المصرية ناظرةً باهتمام إلى إعادة توزيع وتوجيه النمو العمرانيّ، حمايةً للموارد الطبيعية.
ولم تكن هذه الجهود المبذولة في تطوير عمران القاهرة -وغيرها من المحافظات- سوى تطبيقٍ لمحاور التنمية العمرانية، التي تدور حول مواجهة قضايا الاحتباس الحراريّ ومشكلات التغيُّر المناخيّ. وهي القضايا والمشكلات التي أصبحت محلَّ نظرِ العالم كله في السنوات الأخيرة؛ ولهذا جاءت “رؤية مصر 2030” حافلةً باستراتيجيات عمرانية تراعي أهداف التنمية المستدامة.
تعمل هذه الرؤية الطموحة -فضلًا عن مواكبة التطورات المناخية العالمية- على النظر إلى موقع مصر وخصوصيته، وأنَّ مساحةَ مصر قادرةٌ على إتاحة مناطق سكنية واسعة ومستدامة، دون الإخلال بمتطلبات البيئة ومعايير التنمية؛ فكانت رؤية مصر 2030 تنفيذًا فعليًّا لخطط زيادة المعمور بما يتوافق مع الموارد وعدد وتوزيع السكان.
هذا التنفيذ جاء وفقًا لرغبة صادقة في بيئة مستدامة، مع الحفاظ على المقدرات والموارد المصرية في كل محافظات الجمهورية. وإنني لأرى في ذلك كله مصلحةً للوطن، حيث إننا بذلك نستفيد عن طريق استغلال موقع مصر الاستراتيجيّ، بما يدعم تحركاتها في مجال البيئة والتنمية على المستويينِ الإقليميّ والدوليّ؛ وفي النهاية تكون النتيجةُ زيادةَ المشروعات الجاذبة للاستثمار الأجنبيّ.
إنني -كغيري من أبناء هذا الوطن- أرى في قضية إعادة تخضير المدن خطوةً من خطوات مواجهة التغيُّرات المناخية، التي لا يظن أحدٌ أنها بعيدة عنَّا كل البعد؛ وهو ما يجعل من الاستراتيجيات المصرية الخاصة بالتنمية ضرورةً مُلحَّةً، وحاجَةً عمليةً تستلزمها عواملُ البناء وأدواتُ التحضر، بما يكفل لنا وطنًا مستدامًا لكل الأجيال الحالية والقادمة، وهو ما نراه واضحًا في العلاقة بين الجمهورية الجديدة ورؤية مصر 2030.