تكلفة الكهرباء تهدد الوظائف في أوروبا
تكلفة الكهرباء تهدد الوظائف في أوروبا
تعد الطاقة اليوم عنصرًا محوريًّا في معادلة معقدة تجمع بين الاقتصاد والمناخ، والتكنولوجيا والاستدامة، أصبحت تكاليف الكهرباء والغاز في أوروبا تتجاوز كونها مجرد أرقام في الفواتير الشهرية، إذ أصبحت عاملًا حاسمًا في استمرارية الشركات، استقرار الوظائف، واستدامة الإنتاج.
ولذلك سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال عمق الأزمة المرتبطة بتكاليف الكهرباء المرتفعة في أوروبا، وتأثيرها المباشر في فرص العمل، بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة بينها وبين أهداف التنمية المستدامة التي تسعى إلى تحقيق العدالة بجميع مستوياتها؛ فتابعوا القراءة.
أزمة الطاقة في أوروبا ترفع تكاليف الإنتاج
شهدت أسعار الطاقة في منطقة اليورو -وهي الدول الأوروبية التي تعتمد اليورو عملة رسمية لها- ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وأصبحت تمثل تحديًا متزايدًا للمستهلكين، ورغم تراجع الأسعار نسبيًّا منذ وصولها إلى أعلى مستوياتها في عام 2022، فإنها لا تزال تفوق المتوسطات التاريخية بشكل ملحوظ.
وقد بلغ سعر الكهرباء في بعض الدول الأوروبية أكثر من 190 يورو لكل ميجاواط/ ساعة، أي ما يعادل ضِعفَي ما كان عليه قبل الأزمة، وهو ارتفاع تسببت فيه أزمات جيوسياسية، وارتفاع في أسعار انبعاثات الكربون، ونقص في الاستثمارات الكافية في الطاقة المتجددة.
وتتجاوز آثار هذه الأسعار المقلقة حدود المنازل؛ لتصل مباشرة إلى المصانع، خاصة تلك التي تعتمد على الكهرباء بشكل مكثف، مثل صناعات الكيماويات والمعادن والأسمنت، ومع ضعف القدرة على تمرير هذه التكاليف إلى المستهلكين دون التأثير في المبيعات، تجد الشركات نفسها أمام خيارين قاسيين: تقليص الإنتاج أو تقليص الوظائف، وهنا تتجلى العلاقة بين الطاقة وسوق العمل في أكثر صورها وضوحًا.
وفي الوقت الذي تتعامل الأسر مع فاتورة الكهرباء المرتفعة بكثير من الحذر والقلق، تخوض الشركات معركة بقاء تتطلب منها إعادة التفكير في نماذج أعمالها ومصادر طاقتها. هذا الترابط بين الاقتصاد والأسرة، والمجتمع الصناعي يعكس بوضوح أن أزمة الطاقة تشكل عنصرًا حيويًّا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة تلك المتعلقة بالطاقة النظيفة، والعمل اللائق، والنمو الاقتصادي.
تكاليف الكهرباء تهدد الوظائف
تشير بيانات دقيقة جمعت من أكثر من 200 ألف شركة صناعية في أوروبا إلى أن ارتفاعًا دائمًا بنسبة 10% في أسعار الكهرباء يمكن أن يؤدي إلى تقليص العمالة بنسبة تصل إلى 2% في القطاعات التي تعتمد على الطاقة بشكل كثيف، ولا يقتصر الأمر على المصانع وحدها، وإنما يمتد إلى الخدمات المحلية التي تعتمد على وجود هذه الصناعات، مثل المطاعم، ومتاجر التجزئة، والنقل.
ففي مناطق مثل جنوب ألمانيا، ومنطقة الرور، وشمال إيطاليا، تلك المناطق التي تتركز فيها الصناعات الثقيلة، يمكن أن يؤدي فقدان وظيفة واحدة في قطاع التصنيع المتقدم إلى فقدان خمس وظائف أخرى في القطاعات الخدمية المرتبطة به، إنها سلسلة مترابطة من التأثيرات، توضح كيف يمكن لصدمات الطاقة أن تمتد كالأمواج عبر الاقتصاد المحلي والإقليمي.
إن هذه الأرقام ليست مجرد بيانات إحصائية، بل هي قصص بشرية لمهنيين وعمال فقدوا مصدر رزقهم، ومجتمعات تعاني من الركود بسبب التراجع في الإنفاق المحلي؛ ولذلك تبرز الحاجة الملحة إلى تبني سياسات تضمن ألا يتحول الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة إلى أزمة اجتماعية، وإنما ينبغي أن يكون فرصة لإعادة بناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة.
هل هناك حل عادل للأزمة؟
السبيل للخروج من هذه الأزمة يمر عبر مرحلتين رئيسيتين: خفض تكلفة الكهرباء، وتسريع الانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة. وبما أن هذا التحول لن يتم بين عشية وضحاها، تظل الحاجة ملحة إلى تبني استراتيجيات ذكية تدير المرحلة الانتقالية بشكل عادل، ومن أبرز عناصر هذه الاستراتيجية هو الاستثمار في مهارات العمال وتوفير برامج تدريبية تسهم في زيادة الوظائف وتمكين العمال من الانتقال إلى قطاعات جديدة.
ووفق الموقع الرسمي للبنك المركزي الأوروبي، تشير خبرات اقتصادية سابقة إلى أن فقدان الوظائف في قطاع معين لا يعني بالضرورة زيادة في معدلات البطالة إذا تم توفير بيئة مرنة تسمح بتنقل العمال وتكيفهم مع المتطلبات الجديدة، وهنا يظهر دور السياسات العامة في تقديم الدعم المالي والمعنوي للعاملين المتأثرين، إلى جانب ضرورة تنويع الاقتصاد المحلي وعدم الاعتماد على قطاع واحد فقط.
المبادرات الأوروبية مثل الاتفاق الصناعي النظيف (Clean Industrial Deal)تسير في هذا الاتجاه، حيث توصي بدمج خطط إزالة الكربون مع استراتيجيات انتقال عادل للعمال، وإذا تم تنفيذ هذه السياسات بشكل فعال، يمكن للتحول الأخضر أن يصبح نقطة انطلاق لتجديد اقتصادي واجتماعي يعزز من صلابة المجتمعات في مواجهة التحديات المستقبلية.
إنجازات مصر في الطاقة المتجددة
وعلى الرغم من أن هذه المبادرات تتصدر المشهد في أوروبا، فإن منطقة الشرق الأوسط ليست بعيدة عن هذا التحول، فبناءً على واقع الطاقة وأسعارها والوظائف في المنطقة، تبرز مصر باعتبارها نموذجًا ملهمًا وناجحًا يمكن تسليط الضوء عليه في سياق التحول نحو الطاقة المتجددة.
فعلى مدار السنوات الماضية، حققت مصر إنجازات كبيرة في مجال تنويع مصادر الطاقة والاعتماد بشكل متزايد على مصادر الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛ مما خفف تدريجيًّا من الاعتماد على الوقود الأحفوري وقلل من الضغط على ميزان المدفوعات المرتبط باستيراد الكهرباء، ويكمن الأثر المباشر لهذه التحولات في خفض تكلفة الكهرباء على الصناعات المحلية، وهذا ما أسهم في تعزيز قدرتها التنافسية في الأسواق الإقليمية والدولية.
ومن أهم ما حققه مصر من إنجازات في هذا المجال مشروع “بنبان” للطاقة الشمسية في أسوان الذي يعد من أكبر المشروعات في العالم في مجال الطاقة الشمسية، ويمثل خطوة استراتيجية نحو تأمين احتياجات البلاد من الكهرباء بطريقة نظيفة وفعالة، ولم يكن الأثر الاقتصادي مقتصرًا على توفير الكهرباء فحسب، وإنما امتد ليشمل توفير آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة، خاصة في المناطق النائية التي كانت تفتقر إلى المشروعات التنموية؛ مما جعل من التحول الأخضر محفزًا للتنمية المحلية والعدالة الاجتماعية.
في الوقت نفسه، تتبع مصر سياسة واضحة لتعزيز كفاءة استخدام الكهرباء في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، خاصة في قطاعات مثل الأسمنت والبتروكيماويات والمعادن، حيث تم إدراج آليات تشجيعية لتبني تكنولوجيا حديثة تقلل من الاعتماد على الكهرباء التقليدية، وتُجسد هذه الرؤية توافقًا مع المبادرات الدولية الداعية إلى تحقيق انتقال عادل، من خلال توفير برامج لإعادة تأهيل القوى العاملة وتدريبها بما يتلاءم مع متطلبات الاقتصاد الأخضر.
ويُعد النموذج المصري مثالًا على قدرة الدول على تحقيق توازن دقيق بين دفع عجلة التنمية الاقتصادية، وحماية البيئة، وتوفير وظائف عمل لائقة، وهو ما يجعله مصدر إلهام للعديد من الدول التي تسعى إلى مواجهة تحديات الطاقة دون التفريط في مكتسباتها الاجتماعية والاقتصادية.
دور التنمية المستدامة في حل الأزمة
إن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف (7) “طاقة نظيفة وبأسعار معقولة” والهدف (8) “العمل اللائق ونمو الاقتصاد”، أصبح ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى؛ لأن ربط الطاقة بسوق العمل لم يعد خيارًا نظريًّا، وإنما أصبح تحديًّا حقيقيًّا يستدعي حلولًا مبتكرة وشاملة.
ولهذا فإن تسريع وتيرة التحول نحو الطاقة المتجددة، وتحفيز الاستثمارات في الابتكار التكنولوجي، وتحديث شبكات الكهرباء لتكون أكثر مرونة وكفاءة، يعد ضرورة لحماية سوق العمل وضمان العدالة الاجتماعية، فكل جهد يُبذل في سبيل التحول إلى الطاقة النظيفة، هو في جوهره استثمار في فرص العمل، وكرامة الإنسان، واستقرار الاقتصاد.
ومن هذا المنطلق، تدعو حماة الأرض إلى رؤية تنموية شاملة تضع الطاقة في صميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، باعتبارها ركيزة لتحقيق التوازن بين استقرار الأسعار وتوفير فرص العمل؛ فالتحول نحو الطاقة النظيفة هو فرصة حقيقية لإعادة بناء اقتصادات أكثر عدلًا، ومجتمعات أكثر تماسكًا؛ لضمان مستقبل أفضل لنا وللأجيال القادمة.