رقم قياسي لثاني أكسيد الكربون في 2025 يُنذر بتفاقم التغير المناخي

رقم قياسي لثاني أكسيد الكربون في 2025 يُنذر بتفاقم التغير المناخي
تظهر مؤشرات علمية حديثة تحولًا كبيرًا في الغلاف الجوي للأرض، لا يُمكن إدراكه بالعين المجردة غير أن آثاره تتجلى في بيانات مراكز الرصد العالمية، هذه التغيرات تشير إلى تراكم مقلق لغازات الاحتباس الحراري، خاصة ثاني أكسيد الكربون، وهذا يهدد بشكل مباشر التوازن البيئي العالمي والفصول الطبيعية وأنظمة الحياة على كوكبنا.
فقد كشف باحثو معهد “سكريبس” لعلوم المحيطات في “سان دييجو” أنَّ تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي تجاوزت لأول مرة في التاريخ البشري حاجز 430 جزءًا في المليون خلال شهر مايو الماضي من العام الحالي، بحسب القياسات الدقيقة التي بدأت عام 1958؛ مما يشير إلى قفزة نوعية تنذر بالخطر في مسار تغيّر المناخ، ويمثل خطوة أخرى في اتجاه لا رجعة فيه، إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لوقف الانبعاثات المتزايدة.
تؤكد هذه البيانات التاريخية من مرصد “ماونا لوا” في هاواي أن العالم دخل مرحلة مناخية غير مسبوقة منذ ملايين السنين؛ فهذه المستويات المرتفعة لغاز ثاني أكسيد الكربون، السبب الرئيسي في الاحتباس الحراري، تمثل مؤشرًا حاسمًا على تحول جذري يطال النظام البيئي بأكمله؛ لذلك ستتناول حماة الأرض في هذا المقال أبعاد هذا التطور وتأثيراته، ومدى ارتباطه بالتنمية المستدامة؛ فتابعوا القراءة.
منعطف خطير في مسار تغير المناخ
بمجرد إعلان معهد “سكريبس” أن متوسط تركيز ثاني أكسيد الكربون في مايو 2025 بلغ 430.2 جزءًا في المليون، تسارعت ردود الفعل في المجتمع العلمي، معتبرةً هذا الرقم منعطفًا خطيرًا في مسار تغير المناخ؛ فهو يحمل في طياته دلالة رمزية وأخرى عملية، حيث يُجسّد فشل المجتمع الدولي في كبح جماح الانبعاثات رغم كل الوعود والمفاوضات والمؤتمرات المناخية المتكررة.
ومع مقارنة هذا الرقم مع بيانات العام الماضي التي سجلت 426.7 جزءًا في المليون، نكتشف زيادة تقدر بـ 3.5 جزءًا خلال عام واحد فقط، وهي نسبة عالية تشير إلى أن التراكم مستمر بوتيرة متسارعة؛ مما يُنذر بأن الحدود الآمنة التي كانت توصيات العلماء تحذر من تجاوزها لم تعد قابلة للتطبيق.
كيف تؤثر مستويات الكربون في صحة الإنسان؟
وعلى الرغم من أن الحديث عن ثاني أكسيد الكربون يرتبط غالبًا بتغير المناخ، فإن هناك زاوية صحية لا تقل أهمية؛ فمع استمرار ارتفاع تركيز هذا الغاز في الهواء، بدأت تلوح في الأفق مخاطر صحية مباشرة على البشر، وقد أظهرت دراسات طبية أن التعرض لتركيزات عالية من ثاني أكسيد الكربون قد يؤدي إلى مشكلات تتراوح من الدوخة والنعاس إلى ضعف الإدراك والغثيان، وربما يصل الأمر إلى الوفاة في الحالات القصوى.
وفي حين لا تزال المستويات الحالية بعيدة عن تلك العتبات الحرجة بالنسبة للبشر، فإن الاتجاه التصاعدي يثير قلقًا بالغًا بين المختصين؛ لأن التراكم المستمر لهذا الغاز لا يقتصر تأثيره على الجو المحيط فقط، وإنما يمتد ليؤثر في جودة الهواء في الأماكن المغلقة، مثل المدارس والمكاتب والمنازل سيئة التهوية؛ مما يُشكل تهديدًا خفيًّا للصحة العامة.
وبالتالي، فإن قضية الكربون لم تعد شأنًا بيئيًّا فقط، وإنما أصبحت تمس صميم الحق في الصحة، وتضع أنظمة الرعاية الصحية أمام تحدٍّ جديد لم يكن حاضرًا في الحسابات قبل عقود؛ ومن ثم فإن هذا الأمر يمثل تحديًا مباشرًا لمسار التنمية المستدامة، ويؤثر بشكل خاص في الهدف (3) من أهداف التنمية المستدامة “الصحة الجيدة والرفاه” والهدف (13) “العمل المناخي”، وهنا تبرز الحاجة إلى دمج الحلول البيئية مع السياسات الصحية في إطار واحد، يضمن التكامل بين مكافحة الانبعاثات وحماية صحة الإنسان، تحقيقًا لأهداف التنمية المستدامة.
المحيطات تدفع الثمن
وبعيدًا عن اليابسة، تظهر آثار ثاني أكسيد الكربون بوضوح في المحيطات، حيث تعد هذه المسطحات المائية “رئة زرقاء” تمتص ما يقارب ربع انبعاثات الكربون الناتجة عن الأنشطة البشرية، غير أن هذا الامتصاص لم يأتِ دون كلفة؛ إذ يؤدي إلى ارتفاع حموضة مياه البحر، وهي ظاهرة تُعرف باسم “تحمض المحيطات”.
هذه الظاهرة تترك آثارًا مدمرة في الكائنات البحرية، لا سيما الشعاب المرجانية والمحاريات؛ فمع ازدياد الحموضة، تفقد هذه الكائنات قدرتها على بناء وصيانة أصدافها وهياكلها؛ مما يُهدد بتراجع التنوع البيولوجي البحري وانهيار سلاسل الغذاء التي يعتمد عليها ملايين البشر.
كما أن التحمض يُهدد مستقبل الصناعات السمكية، ويُعرض المجتمعات الساحلية لفقدان مصادر رزقها، وهذا يعني أن أزمة الكربون ليست فقط تهديدًا بيئيًّا عامًّا، وإنما هي تهديد اقتصادي واجتماعي، يُقوّض الاستقرار الغذائي، ويعوق تحقيق الهدف (14) من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بالحفاظ على الحياة تحت الماء.
نحو تجديد الالتزام بخفض الانبعاثات
وفي تعليقه على الأرقام القياسية الجديدة لتركيزات ثاني أكسيد الكربون، لخّص “رالف كيلينج” مدير برنامج سكريبس لثاني أكسيد الكربون، الوضع بعبارة مقتضبة ومؤثرة: «عام آخر، رقم قياسي جديد.. إنه لأمر محزن». هذه الجملة القصيرة لا تعكس فقط إحباط الأوساط العلمية، وإنما تسلط الضوء على إخفاق البشرية في تغيير مسارها رغم المعرفة الكاملة بالعواقب الوخيمة التي تنتظرنا.
ومع ذلك يظل الأمل في التغيير موجودًا؛ فالتحول إلى نماذج مستدامة، من شأنه أن يحدث فرقًا حقيقيًّا وملموسًا، غير أنه يتطلب -أولًا- توفرَ الإرادة السياسية القوية لدى قادة العالم، مصحوبة بوعي مجتمعي متزايد يدفع نحو تبني حلول جذرية. وفي هذا السياق، تؤكد حماة الأرض أن مستقبل الاستدامة أصبح مرهونًا بقدرتنا الجماعية على الحد من الانبعاثات الكربونية، والالتزام الصارم بتحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ لضمان كوكب صالح للعيش لنا وللأجيال القادمة.




