ذوبان الجليد يهدد العالم.. كارثة قادمة من قمم الجبال
ذوبان الجليد يهدد العالم.. كارثة قادمة من قمم الجبال
في مناطق متفرقة من العالم، من جبال الألب إلى القطب الجنوبي مرورًا بمرتفعات الأنديز، تشهد الأنهار الجليدية تراجعًا ملحوظًا بفعل ارتفاع درجات الحرارة، وهو ما أدى إلى تحوّل ظاهرة ذوبان الجليد من ملاحظات علمية متفرقة إلى نمط بيئي مقلق يُنذر باختلال التوازن المناخي العالمي.
ويُعد تراجع الأنهار الجليدية من أخطر المؤشرات على تسارع الأزمة المناخية، ليس فقط بسبب ما ينجم عنه من نقص في موارد المياه العذبة، وإنما أيضًا لما يسببه من اضطرابات عميقة في أنظمة الزراعة والطاقة والمجتمعات التي طالما ارتبط استقرارها بتوازن هذه المنظومات. وفي ضوء هذا التهديد المتعدد الأبعاد، تستعرض حماة الأرض في هذا المقال أبرز تأثيرات ذوبان الجليد في مستقبل المياه، ومسار التنمية المستدامة الذي بات مرهونًا بمآلات الأزمة المناخية.
ذوبان الجليد يؤدي إلى إخلاء المدن
في مايو 2025، اضطر سكان قرية بلاتن السويسرية بأمر من السلطات إلى إخلاء المدينة بالكامل خشية فيضانات مفاجئة ناتجة عن ذوبان نهر بيرش الجليدي، في مشهد جديد يعكس تسارع وتيرة التغير المناخي وتأثيره المباشر في المناطق الجبلية. وخلال مؤتمر دوشنبه الذي عُقد مؤخرًا لمناقشة سبل حماية الأنهار الجليدية، كشفت الدراسات أن سويسرا وحدها فقدت بين عامي 2022 و2023 كميات من الجليد تفوق ما خسرته خلال ثلاثة عقود بين عامي 1960 و1990، في دلالة صريحة على اختلال التوازن البيئي واشتداد وتيرة الظاهرة عالميًّا.
وفي واقع الأمر، لا تمثل سويسرا سوى واحدة من عشرات البقاع الجغرافية التي تشهد تسارعًا مشابهًا في ذوبان الجليد؛ فمنذ عام 2000، فقد العالم كميات من الجليد تعادل نحو 46 ألف هرم من أهرامات الجيزة، في مؤشر صارخ على عمق التحولات المناخية المتسارعة. وقد لحق خطر انهيار الأنهار الجليدية منطقة الأنديز وجرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، حيث تتآكل الكتل البيضاء من جميع الجهات بوتيرة غير مسبوقة.
وتزداد خطورة هذا المسار إذا ما علمنا أن هذه الكتل تُعرف عالميًّا بـ”أبراج المياه”؛ لأنها تختزن أكثر من 70% من المياه العذبة على سطح الأرض، ومع تراجعها المتسارع، يصبح الأمن المائي لما يقرب من ملياري إنسان في خطر كبير، ويُهدَّد الشرب والزراعة وتوليد الطاقة في مناطق شاسعة من العالم.
فيضانات تخرج من الجليد
إلى جانب هذه التهديدات يبرز تهديد آخر لا يقل عنها خطورة؛ إذ يؤدي ذوبان الجليد في كثير من الأحيان إلى تكوّن بحيرات على سفوح الأنهار الجليدية، تختزن خلفها كميات هائلة من المياه، هذه البحيرات لا تمثل مصدرًا للري أو الشرب، وإنما تتحول إلى قنابل مائية موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، مسببة فيضانات مدمرة.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 15 مليون شخص حول العالم معرضون لخطر الغرق بسبب هذه الظاهرة، وقد شهدت الهند إحدى أسوأ الكوارث البيئية عندما انفجرت بحيرة جليدية، وهذا ما أسفر عن مقتل 179 شخصًا. وفي بيرو تبدو المفارقة أكثر حدة، حيث يعتمد السكان على ذوبان الجليد لتأمين نحو 20% من احتياجاتهم السنوية من المياه، إلا أن هذا الاعتماد تحول إلى تهديد دائم، مع تزايد خطر الفيضانات المفاجئة من بحيرات متضخمة تتشكل فوق رؤوسهم.
وقد لجأ أحد السكان إلى القضاء، رافعًا دعوى ضد شركة (RWE) الألمانية التي تسهم بنصيب كبير في معدلات الانبعاثات العالمية، متهمًا إياها بالتسبب في تغير المناخ الذي يهدد منزله بالدمار، وعلى الرغم من رفض المحكمة الألمانية للدعوى فإنَّ القضية أعادت فتح ملف العدالة المناخية العابرة للحدود، ذلك الملف الذي يزداد تعقيدًا مع كل كتلة جليدية تنهار.
الأثر الاقتصادي لانهيار الجليد
تعد الأنهار الجليدية شريانًا حيويًّا للزراعة والطاقة والاقتصاد في العديد من البلدان؛ ولذلك تظهر ملامح الأزمة بوضوح في مناطق مثل جبال الأنديز؛ إذ اضطر المزارعون إلى التخلي عن محاصيلهم التقليدية مثل القمح والبطاطا الحلوة، واستبدالها بأصناف أكثر قدرة على مقاومة الجفاف كالبطاطا المُرّة، ولم يكن هذا التحول خيارًا، وإنما كان استجابة قسرية لظروف بيئية متغيرة، تهدد توازن المجتمعات الزراعية وتضع الأمن الغذائي في مهبّ الريح.
أما في تشيلي فقد كان التأثير أكثر وضوحًا في قطاع الطاقة؛ إذ تشكل الطاقة الكهرومائية نحو 27% من إنتاج الكهرباء في البلاد، وقد أدى انخفاض تدفق المياه الذائبة إلى إغلاق محطة “ألتو مايبو” عام 2021. هذا الانقطاع يرمز إلى هشاشة البنية التحتية المعتمدة على الجليد، ويفتح الباب أمام أزمات مستقبلية في إنتاج الطاقة؛ فعندما تبلغ الأنهار الجليدية ما يُعرف بـ”ذروة المياه”، تصبح كل قطرة ذائبة خسارة مزدوجة؛ فلا تُخزن لمستقبل آمن، ولا تُستثمر في حاضر مستقر.
الأنهار الجليدية تهدد البحر
ولم يعد ذوبان الجليد محصورًا في المناطق الجبلية، وإنما امتد تأثيره إلى الصفائح الجليدية الضخمة، وفي مقدمتها صفيحة “ثوايتس” الجليدية في غرب القارة القطبية الجنوبية، التي يُحذر العلماء من أنها “غير مستقرة للغاية”. هذه الكتلة الهائلة -التي تعادل ولاية فلوريدا من حيث المساحة- تشهد ذوبانًا من جميع الجهات؛ مما يؤدي إلى ضخ كميات هائلة من المياه في المحيطات.
ورغم أن هذا الذوبان تسبب في ارتفاع مستوى سطح البحر بنحو 2 سنتيمتر فقط خلال 25 عامًا، فإن هذا الرقم الضئيل يخفي وراءه خطرًا وجوديًّا على عدد من الجزر والدول الساحلية. فبالنسبة لدول مثل فانواتو وفيجي، ومدن مكتظة كساحل جاكرتا ومانيلا ومومباي، يمثل هذا الارتفاع بدايةً لموجات تهدد بابتلاع اليابسة، ومع تسارع ارتفاع منسوب البحر، تتآكل قدرة البنية التحتية على الصمود، وتصبح السدود الحالية غير كافية لدرء الخطر؛ مما ينذر بغرق عواصم بأكملها، ويدفع بملايين البشر نحو الهجرة القسرية، محدثًا موجات اضطراب قد تمتد آثارها إلى تهديد السلام العالمي.
ارتباط الأنهار الجليدية بهوية الشعوب
لا تقتصر قيمة الأنهار الجليدية على كونها موردًا مائيًّا أو عنصرًا بيئيًّا، وإنما تتجاوز ذلك إلى علاقة روحية وثقافية عميقة، لا يمكن اختزالها في إحصاءات علمية أو رسومات بيانية؛ ففي بيرو يُقام كل عام مهرجان ديني عند نهر كولكيبونكو الجلِيدي، حيث يحمل المشاركون قطعًا من الجلِيد إلى قراهم، إيمانًا بقدرته على الشفاء، إلا أنه مع تراجع الكتلة الجلِيدية عامًا بعد عام، بدأت هذه الطقوس بالاندثار، كما بدأت ذاكرة المكان تفقد معالمها الجلِيدية.
وفي جبال الألب الإيطالية، تسبب فقدان نهر بريسينا الجلِيدي لثلث حجمه منذ عام 1990 في تقليص مواسم التزلج الشتوية، وهو ما انعكس على السياحة التي تُعد مصدر دخل رئيسي لسكان المنطقة. وعلى امتداد أوروبا، يُتوقع أن تنخفض نسبة الثلوج بنحو 42% بحلول نهاية القرن، وهذا ما يُنذر بتغيّرات جذرية في نمط الحياة الشتوية، بما في ذلك الرياضات والأنشطة الترفيهية التي شكلت جزءًا من الهوية الثقافية لملايين الأوروبيين.
أما في جرينلاند، فقد سجّلت البلاد في مايو 2025 موجة حر غير مسبوقة، وصلت فيها درجات الحرارة إلى أكثر من 26 درجة مئوية؛ مما تسبب في ذوبان الغطاء الجلِيدي بمعدل يفوق المتوسط التاريخي بـ17 مرة، في مؤشر صارخ على تصاعد حدة الظاهرة، واتساع رقعتها الجغرافية.
هذا الذوبان المفاجئ ليس حدثًا طبيعيًّا، وإنما نتيجة مباشرة لتغير المناخ، حيث أكدت شبكة “وورلد ويذر أتريبيوشن” أن 94% من محطات القياس سجلت درجات حرارة قياسية؛ إذ إن المشكلة لا تتوقف عند الذوبان، وإنما تتسع إلى البنية التحتية التي لم تُصمم لتحمّل حرارة الصيف؛ مما يُنذر بفيضانات ودمار للطرق والمرافق الحيوية.
وفي هذا السياق، لم يعد ذوبان الأنهار الجلِيدية مجرد علامة مناخية، وإنما تحوّل إلى تهديد وجودي يمحو ملامح قرون من التفاعل الإنساني مع الطبيعة، ويهدد سبل العيش والهوية في مناطق بأسرها؛ هذه الكتل هي نظم حية تختزن الماء وتنظّم الحياة، وتربط المجتمعات بجذورها الثقافية والروحية، ومن هنا تؤمن حماة الأرض بأن إنقاذها لا يعد حماية لمورد طبيعي فقط، وإنما يشمل الدفاع عن ذاكرة الشعوب، وحقوق الإنسان في الماء.