صناعات مستدامة

إعادة تعريف مفهوم الاستدامة في صناعة الأدوية

صناعة الأدوية

إعادة تعريف مفهوم الاستدامة في صناعة الأدوية

في الآونة الأخيرة أصبحتِ الاستدامةُ أولويةً بالنسبة إلى معظم الشركات، مع وجود فِرَقٍ مِن الموظفين في الشركات الكبرى مكرسة لمتابعة مثل هذه الملفات، ولتقديم رسائل قوية حول أهميتها، والترويج لجهود كل شركة في تحقيق أهدافها، ولكن عندما يأتي الأمر إلى التأثيرات الحقيقية والعملية لهذه الجهود في المستهلكينَ، فإنَّ فاعليةَ هذه الجهود غالبًا ما تكون غير كافية.

في صناعة المستحضرات الصيدلانية، غالبًا ما تكون الاستدامةُ كلمةً طنَّانةً وعامَّةً وغيرَ محددةٍ، ويبدو أنَّ هدفَ استخدام كلمة «الاستدامة» الحفاظُ على جني الأرباح على المدَى القصير، بدلًا من الحفاظ على صحة البشر على المدَى الطويل.

نهج التركيز على المرضى

على الرغم من أنَّ المستثمرينَ في وقتنا الحالي يحكمون على الشركات بناءً على أدائها في الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) قبل ضخ استثماراتهم، فقد أظهر تحليل في عام 2021 أنَّ 0.2 ٪ فقط من الشركات حول العالم تتماشى بقوة مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وهي نسبة مقلقة بكل تأكيد، لا سيما في قطاع الصحة، بالنظر إلى أنَّ الصحةَ نفسها استثمارٌ مستدامٌ؛ لذا يجب أنْ يكون الوصولُ إلى المنتجات الصيدلانية وخدمات الرعاية الصحية مستدامًا للجميع، بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه، كما يجب أنْ تركز جهود الاستدامة على الاستثمار طويل الأجل في تحقيق العدالة الصحية.

بينما تتحدث شركاتُ الأدويةِ -حاليًّا- كثيرًا عن التزامها بـاتباع نهج «يركز على صحة المريض» في المقام الأول، وبينما أيضًا تحققَ تقدمٌ كبيرٌ في العقد الماضي في فهم فوائد نهج التركيز على المريض في عمليات البحث والتطوير؛ فإنَّ نهج شركات الأدوية المزعوم في التركيز علَى المريض نادرًا ما يُرَى في كيفية رؤيتهم للاستدامة في الرعاية الصحية.

لإعطاء مثال واحد على التحديات التي يمكن أن يواجهها الأشخاص في البلدان منخفضة الدخل في الوصول إلى العلاج على المدى الطويل، انظرْ إلى تجربة هذا المسن – صاحب الـ 60 عامًا، الذي يعمل كهربائيًّا في كينيا، حيث تلقى علاجًا أنقذ حياته مِن مخالب سرطان الدم النخاعي المزمن، من خلال برنامج مؤسسة «Max Access Solutions».

يعمل هذا البرنامج -وما يشابه من برامج- على الوصول إلى العقاقير التي تبرعت بها شركات الأدوية، لتصل إلى المحتاجينَ في البلدان الفقيرة؛ وبالرغم من ذلك فإنَّ معاناةَ الرجل لم تَنْتَهِ، بل باع -في وجود علاج مجاني- ما يملكه كله حتى يستطيع التنقل مِن وإلى العيادة؛ لتلقي العلاج في نيروبي.

مـا بيـن الاسـتـثـمـار قصير الأجل والاستثمار طـويـــل الأجـل

في عالم قد يحتاج فيه الفرد إلى بيع ممتلكاته حتى يستطيع الوصول إلى المستشفى لتلقي العلاج، فإنَّ تحقيق الاستدامة في القطاع الصحي وصناعة الأدوية سيتطلب جهودًا من زوايا متعددة؛ ومن هنا نرَى ثلاث خطوات عملية يمكن لشركات الأدوية اتخاذها لتصبح مستدامةً حقًّا.

أولًا: يجب أنْ تدرك هذه الشركات أنَّ الاستدامة ليست ربحية قصيرة الأجل، وإنما هي استثمار سيحول في نهاية المطاف البلدان منخفضة الموارد إلى أسواق عاملة. وفي هذا السياق، وجدت دراسة حديثة أجراها «معهد بروكينغز» أنَّ كل دولار واحد يُستثمرُ في مجالات صحة البلدان منخفضة الدخل يحقق عائدًا اقتصاديًّا يتراوح بين دولارينِ وأربعة دولاراتٍ؛ وبالتالي يمكن أن تؤدي هذه الاستثماراتُ إلى تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية، وزيادة فرص الجميع في الحصول على الرعاية الصحية، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ثانيًا: تحتاج هذه الشركات إلى وضع إطار لميزانية سنوية متسقة مع حجم الاستثمار، لتعزيز الوصول إلى الأدوية بالطريقة نفسها التي يفعلونها مع ميزانيات البحث والتطوير؛ فالاستثمار المتسق وطويل الأجل ضروري لتحقيق الاستدامة.

ثالثًا: يجب أنْ تشمل هذه الشركات المرضى بشكل استباقي عند تطوير استراتيجيات وصول الأدوية، ويجب أنْ يقيسوا النجاح من خلال نتائج المرضى، وليس من خلال المبيعات فقط؛ لذا يتعين علَى الشركات -عند تصميم برامج الوصول- أنْ تسأل عما إذا كانت علاجاتها ميسورةَ التكلفة ومستدامةً للأشخاص على المدَى الطويل، أم لا؟

وعلَى الرغم من أنَّ مؤشرَ الوصول إلى الأدوية عن العام 2022 -الذي تصدره منظمة «Access to Medicine» قد سجَّل تقدمًا من قِبل بعض كبرى شركات الأدوية العالمية في توسيع نطاق وصول الدواء إلى المرضى؛ فإنَّ معظم هذه الجهود لا تزال متناسيةً الشرائحَ الأشدَّ فقرًا.

مسئـولـية شـركات الدواء

في الغالب لا يحصل الأفراد الذين يعيشون في الدول منخفضة الدخل على العلاجات التي يحتاجون إليها، بما في هذا الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية الأخرى، وهو أمر يمكن أنْ يمثل مشكلة حادة بشكل خاص للنساء والفتيات، حيث إنهنَّ أكثر تأثرًا بضعف الرعاية الصحية.

تحتاج الشركات إلى تطوير علاجات جديدة، ولكن يجب عليها -أيضًا- ضمان توفر كل من المنتجات الأساسية والعلاجات المتطورة باستمرار لمزيد من الأشخاص في كثير مِن البلدان.

مسئولية الشركات لا تتوقف عند هذا الحد، حيث تلعب شركات الأدوية -أيضًا- دورًا في ضمان دعم أنظمة الرعاية الصحية، بدلًا مِن مجرد دعم مجموعة محدودة من مناطق المرض، حيث تُلَبَّى احتياجاتُ المرضى عبر سلسلة الرعاية المستمرة.

بالإضافة إلى الوصول إلى الأدوية المبتكرة، يحتاج الناس في جميع أنحاء العالم -أيضًا- إلى الحصول على هذه الأدوية في الوقت المناسب، بخاصة الأدوية التي تعالج أمراضًا خطيرةً، وكذلك الحصول على اللقاحات الوقائية وغيرها من المنتجات الأساسية، مثل الأكسجين الطبي.

أحد المتطلبات الأساسية لزيادة القدرة علَى الوصول إلى الأدوية هو ضمان سلاسل التوريد الآمنة، وهي منطقة تلعب فيها صناعة المستحضرات الصيدلانية دورًا مركزيًّا، حيث يمكن أنْ تقلل من مخاطر النقص ونفاد المخزون الدوائي من خلال تنويع المُوَرِّدِيْنَ، وبناء القدرات، ونقل التكنولوجيا؛ لدعم التصنيع المحلي في البيئات ذات الموارد الفقيرة.

ومن خلال الالتزام الحقيقي بنهج التركيز على المريض، يمكن للقطاعينِ الخاص والعامِّ العمل معًا لبناء نظام رعاية صحية أكثر مرونةً واستقرارًا بين أشد الناس فقرًا وضعفًا في المجتمع.

يتعلق الأمر كله في النهاية بمتابعة تقدم شركات الأدوية في المسار نحو الاستدامة، مع قيامها بالتزامات طويلة الأجل تخص وصول مختلف الشرائح إلى النظم الصحية ودعمها، بدلًا من التركيز على تقديم وترويج منتجات طبية استهلاكية جديدة.

المسـاعـدات وحدهــا لا تكفــي

من بين حوالي 650 مليون شخص في العالم يعيشون تحت خط الفقر، يعتمد كثير منهم على المساعدات الخارجية والمنتجات المتبرع بها للحصول على الرعاية الطبية الأساسية، وفي حين أنَّ هناك حاجةً إلى نماذج اقتصادية جديدة لضمان وصول الأدوية وصولًا لا يعتمد فقط على المساعدات والتبرعات، وبينما لا يمكن أن يأتي التحول الحقيقي إلا من خلال الوصول المستمر إلى رعاية صحية ميسورة التكلفة؛ فإنَّ البرامج القائمة على التبرع لا تزال شريانَ حياةِ الأشخاصِ الذين ليس عندهم طريقة أخرى لتحقيق ذلك في الوصول إلى الأدوية التي يحتاجون إليها.

واستمرارًا في السعي إلى تحقيق الاستدامة، يمكن لشركات الأدوية البناء على جهود مثل جهود برنامج «Max Foundation» لسرطان الدم النخاعي المزمن، وما يماثله من البرامج والمبادرات الأخرى، بهدف مساعدة البلدان منخفضة الموارد على تحقيق الاستدامة الاقتصادية في مجال الرعاية الصحية بمرور الوقت.

وفي الختام، يجب على كل شركة أدوية جادة بشأن الاستدامة أنْ تتحدى نفسها لإعادة صياغة تفسيرها لما تعنيه «الاستدامة»، كما تحتاج هذه الشركات إلى تحفيز الابتكار في تصميم المنتجات وتطويرها وتسهيل الوصول إليها من خلال توفير الموارد المناسبة؛ لضمان خدمة جميع المرضى على قدم المساواة، وهو ما سيعني بالضرورة زيادة الأرباح، باعتبارها نتيجةً حتميةً لزيادة الوصول، ولكن لا سبيل إلى هذا إلا إذا كان المريض -حقًّا- في المقام الأول عند هذه الشركات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى