صناعات مستدامة

غاز الشعلة.. فوائد استعادته بيئيًّا واقتصاديًّا

غاز الشعلة

غاز الشعلة.. فوائد استعادته بيئيًّا واقتصاديًّا

لا شكَّ في أننا أصبحنا نعيش في وقت يتسم بالتركيـز المتزايد على البيئة والجهود المبذولة لمكافحة تغيُّـر المناخ؛ بسبب ما يشهده كوكب الأرض من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، والذي يؤثر في جميع أشكال الحياة. مِن هنا، توجهت الأنظار نحو القطاعات الأكثـر تلويثًا، سواء الصناعية أم الخدمية؛ لدفعها إلى التحول بأنشطتها نحو الاستدامة، وخفض انبعاثاتها بشكل عاجل.

ومن بيـن جميع الصناعات تحظى صناعة النفط والغاز باهتمام كبيـر أكثـر من أيّ وقت مضـى، وهذا بيـن أصواتٍ تنادي إلى التخلص التام من الوقود الأحفوريّ -بالتالي القضاء على هذه الصناعة- وأصواتٍ أخرى تسعى إلى خفض البصمة الكربونية لصناعة النفط والغاز، وابتكار حلول ذكية تمكننا من استيعاب هذه الصناعة ضمن استراتيجيات مكافحة التغيُّـر المناخيّ.

ولعل مِن أبرز الموضوعات التي اكتسبت زخمًا في العقد الأخيـر، هو أنظمة استعادة غَاز الشعلة (FGRS)، باعتباره لاعبًا أساسيًّا في تقليل البصمة البيئية السلبية لصناعة النفط والغَاز، والمتمثلة -بشكلٍ رئيسٍ- في انبعاثات الغَازات الدفيئة؛ تحقيقًا لعددٍ من أهداف التنمية المستدامة، على رأسها الهدف التاسع (الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية)، والهدف الثاني عشر (الاستهلاك والإنتاج المسئولان).

وفي منطقتنا العربية يمثل استخراج البتـرول والغَاز العنصرَ الرئيسَ في اقتصاد عدد من الدول، سواء في الخليج العربيّ أم شمال إفريقيا؛ ما يعنـي إطلاق كميات كبيـرة من الانبعاثات الناتجة عن غَاز الشعلة في بيئتنا، وهو أمر يحتاج منا إلى بحثٍ ونظرٍ؛ لتطوير طرقٍ تتعامل مع هذه القضية بشكل مستدام. في السطور القادمة سنتعمق في موضوع غَاز الشعلة، وأهمية استعادته لتقليل الانبعاثات، وتعزيز الممارسات المستدامة في قطاعَي البتـرول والغَاز.

ما غاز الشعلة – Flare gas؟

ربما لاحظ بعضنا عند مروره بجوار محطات تكرير البتـرول وجودَ برجٍ معدنيّ طويل تعلوه شعلة ملتهبة من النار، وهي الشعلة التي أصبحتْ عبْـرَ عقودٍ من الزمن رمزَ صناعةِ البتـرولِ، بل إنَّ شركاتٍ كثيـرةً عاملةً في هذا القطاع تجعلها ضمن شعاراتها، باعتبارها إشارةً إلى أعمال التنقيب والتكرير.

ولكن ما السرُّ وراء هذه الشعلة، وما سبب وجودها في مصافي تكرير البتـرول؟ عند التنقيب عن النفط في باطن الأرض تكون هناك كميات كبيـرة من الغازات المختلفة المصاحبة للنفط (associated gas)، التـي يتم اعتبارها أحدَ النواتج الثانوية (مُخلَّف) لاستخراج النفط. وللتخلص من هذا المخلف تقوم حقول الاستخراج بحرقه في مشاعل مخصصة؛ ومِن هنا نشأ مصطلح «غاز الشعلة»، ولكن عملية حرق غاز الشعلة تسهم -بشكل كبيـر- في زيادة الانبعاثات الناتجة من عملية التنقيب عن النفط وتكريره.

تــتكون الغـازات المصاحبة من خليط من الغازات، أهمها الميثان الذي يمثل نسبـة 80% تقريبًا، يليه البـــروبان والبيوتان والإيثان، بالإضافة إلى كميات صغيـرة من الغازات الخاملـة وكبـريتيد الهيدروجيـن. وحسب تقديــــــــرات البنك الدوليّ فإنَّ قطاعَ النفط الذي يتمثل في شركات الطاقة قد حَرَقَ في المتوسط نحو 144 مليار متـر مكعب من غاز الشعلة عامَ 2021، وهو ما نتج عنه إطلاق ما يعادل أكثـر من 400 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجويّ.

لماذا نحرق غاز الشعلة؟

توجد أسباب كثيـرة تجعل من حرق الغَازات المصاحبة للبتـرول أمرًا روتينيًّا ومعتادًا في شركات البتـرول، أهمها السلامة؛ لأنَّ الكمياتِ الكبيـرةَ من الغَازات المصاحبة للنفط تتسبب في زيادة الضغــط (pressure) بشكـــل لا يمكــــن التحكــــم فيـــه، ما يعني احتمالية حدوث انفجار في موقع التنقيب في حال لم يتم تقليص هذا الضغط؛ لذا تلجأ الشركات إلى تجميع هذا الغَاز، والتخلص منه عن طريق الحرق.

تشمل المصادر الأخرى لغَاز الشعلة عملياتِ التشغيل والتوقف لمحطات التكرير، وضواغط دورات التبريد، وعند صيانة الأجهزة، بالإضافة إلى حوادث التشغيل المختلفة. وكل ما سبق يمكن أنْ تَصدُرَ عنه غازاتٌ مختلفةٌ يجب التخلص منها؛ لمنع تعريض المعدات والأنابيب لضغوط مفاجئة أعلى من المصممة لأجلها.

ولكن، ربما يتساءل البعض: لماذا لا يتم تجميع هذا الغاز وتخزينه ونقله بدلًا من حرقه؟ الإجابة هنا، هي أنَّ هذا الأمر يتطلب وجودَ شبكةِ أنابيب مخصصة لنقل هذا الغَاز، وهي شبكة قد لا تكون متوفرةً في جميع مواقع التنقيب الواقعِ أغلبها في مناطق نائية، كما أنَّ الاعتمادَ على إنشاء خزانات لهذا الغَاز ثم نقله بريًّا يُعدَّانِ خيارًا مكلفًا، وغيـرَ مُجْدٍ اقتصاديًّا في أغلب الأحيان؛ لذا تُحجِمُ الشركاتُ عنه -خاصة الشركات وحقول الاستخراج الصغيـرة- توفيـرًا للنفقات.

الغريب في الأمر، هو أنَّ تشريعاتِ وأُطُرَ التنظيمِ في بعض الدول تكون سببًا وراء حرق غَاز الشعلة! على سبيل المثال، نجد أنَّ بعض الشركات تكون حاصلةً على امتيازات لاستخراج البتـرول فقط دون السماح باستغلال الغَازات المصاحبة. على جانبٍ آخرَ، تفتقر بعضُ الأطر التنظيمية إلى موقفٍ واضـحٍ في تعامل شركات التنقيب مع الغازات المصاحبة، وهو ما قد يخلق حالةً من الغموض وعدم اليقيـن لدى الشركات.

مِن هنا، ظهرت حركة متسارعة من البحث والتطوير لإيجاد حلول مبتكرة؛ للاستفادة من غَاز الشعلة بدلًا من حرقه، مع الوضع في الاعتبار الأبعادَ الاقتصاديةَ، بالإضافة إلى الامتثال للوائح والتشريعات القانونية المنظمة لهذا الشأن؛ فلغَاز الشعلة تأثيـرات خطيـرة في البيئة والصحة العامة يجب التعامل معها.

غاز الشعلة

تأثيرات غاز الشعلة

لا ينكر أحد أهميةَ حرق غَاز الشعلة روتينيًّا لسلامة الأفراد والمعدات، إلا إنَّ عمليةَ الحرق هذه تتسبب في عددٍ من التأثيرات السلبية التي تضر بالبيئة والصحة والعامة، حيث يُطلَقُ في الهواء الجويّ عددٌ من غَازات الاحتباس الحراريّ، أهمها ثاني أكسيد الكربون والميثان، بالإضافة إلى غَازات مثل البنزين والنفثاليـن والأوزون؛ وهي غَازات تؤثر -بشكل مباشر- في الصحة العامة، وهذا بخلاف الجزيئات الدقيقة المستنشَقة (2.5 PM).

غاز الشعلة

ينتج عن غازِ الشعلة أيضًا انبعاثاتٌ من ثاني أكسيد الكبريت، وعددٌ من المواد الكيميائية المتطايرة في الغلاف الجويّ. وتسهم هذه الانبعاثات -بكل تأكيد- في تلويث الهواء، والاحتباس الحراريّ، واستنفاد طبقة الأوزون، فضلًا عن تأثيراتها المضرَّة بصحة الإنسان والتنوع البيولوجيّ.

بالإضافة إلى ما سبق، يَنتج أيضًا عن غازِ الشعلة الكربونُ الأسودُ (الهباب أو السُّـخام)، وهو ملوِّثٌ تُمكن رؤيته بالعيـن المجردة على هيئة أدخنة سوداء مصاحبة للشعلة، ويكون هذا نتيجةَ احتـراقِ غازِ الشعلة بصورة غيـر كاملة، والذي يكون -عادةً- بسبب وجود مشكلة في تغذية المشاعل بالأكسجين الكافي. وتشير الأبحاثُ التي أجراها الاتحاد الأوروبيّ لعلوم الأرض إلى أنَّ انبعاثات غازِ الشعلة قد تسهم بحوالي 40% من رواسب الكربون الأسود السنوية في القطب الشماليّ.

على جانبٍ آخرَ، تُخبـرنا دراسةٌ جديدةٌ أجراها باحثون في كلية الصحة العامة بجامعة نورث كارولينا، بأنَّ التلوثَ الناجمَ عن غازِ الشعلة -سواء بحرقه أم تنفيسه- أدَّى إلى أضرار صحية بقيمة 7.4 مليارات دولار في الولايات المتحدة فقط، فضلًا عن الآلاف من حالات الوفاة المبكرة حول العالم.

أبرز حلول غاز الشعلة

لا يُعتبـر غازُ الشعلة مساهمًا سلبيًّا في البيئة فحسب، وإنما يُعتبـر -أيضًا- موردًا مهدَرًا تُمكن إعادة استخدامه مرَّةً أخرى؛ ما يعني تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائريّ، ودفع قطاع النفط للتحول -تدريجيًّا- بعملياته؛ لتكون أكثـر استدامةً. وفيما يلي الحلول الثلاثة الأبرز في التعامل مع غَاز الشعلة.

أولًا- تحويل الغاز إلى سائل (GTL): أحد الحلول الواعدة للاستفادة من الغَازات المصاحبة هو تحويلها إلى سائل. هذه الطريقة يمكن استخدامها لتحويل غازِ الشعلة إلى منتجات ذات قيمة مضافة، مثل الغازِ الطبيعيّ المُسَالِ (LNG) أو البنزين أو الديزل، وهذا عن طريق عمليات التكرير والتحويل المناسبة. كما يمكن لغازِ الشعلة بعد فصله وتنقيته أنْ يكون مادةً خامًا في مصانع البتروكيماويات المختلفة؛ وبهذا يمكن تحويل غازِ الشعلة إلى مورد إضافيّ، بدلًا من التخلص منه باعتباره مخلَّفًا.

ثانيًا- إعادة الحقن في الآبار: عمليات استخراج النفط من الآبار المختلفة عادةً ما تكون في أعلى معدلاتها عند البداية؛ لوجود ما يكفي من الضغط في هذه الآبار، ولكن مع الوقت ينخفض هذا الضغط، وتصبح معدلات الاستخراج أضعفَ فأضعفَ؛ لذا تُمكن إعادة حقن الغَازات المصاحبة مرَّةً أخرى في الآبار بدلًا من حرقها؛ لاستعادة الضغط الطبيعيّ في هذه الآبار، وإطالة عمرها.

ثالثًا- إنتاج الكهرباء: حلٌّ آخرُ يمكن اللجوء إليه هو استخدام الغَازات المصاحبة في توليد الكهرباء عن طريق توربينات يتم تثبيتها فـي مواقع التنقيب، بحيث يغطي إنتاجُ الكهرباءِ احتياجاتِ الموقعِ من الطاقة بشكل عامّ، سواء للاستخدام الأدميّ أم لعمليات التشغيل، وهو حل يمكن أنْ يكون جذابًا -بشكل خاص- في المواقع التي لا تصل إليها شبكة الكهرباء.

رابعًا- التقاط وتخزين الكربون: يمكن أنْ تمثل تقنيات التقاط وتخزين الكربون (CSS) حلًّا في بعض الأحيان، وهذا للتعامل مع الانبعاثات الناتجة عن غازِ الشعلة عن طريق دفنها في طبقات الأرض؛ لمنع تسرب هذه الانبعاثات إلى الغلاف الجويّ، والحد من تأثيرها في تفاقم الاحتباس الحراريّ، ولكن هذا -بكل تأكيد- ليس الحـلَّ الأفضـلَ لهذه المشكلة.

غاز الشعلة في مصر

نحو تحقيق رؤية مصر 2030 نجد أنَّ لمختلف القطاعات الصناعية والخدمية في مصرَ إسهاماتٍ متعددةً في تحويل أنشطتها إلى الاستدامة، وهو أمر لم يَغِبْ عن قطاع البتـرول والغازِ الطبيعيّ المصريّ، حيث إنَّ تقنيات استعادة غازات الشعلة قد شقت طريقها إلى هذا القطاع منذ سنواتٍ، مع تَنَامٍ سنويّ في الاعتماد عليها بمواقع متعددة.

وقد تم -وفقًا للإحصاءات الرسمية- تنفيذ ما يزيد عن 30 مشروعًا لاستعادة غازِ الشعلة؛ ما ساهم في تحقيق عائد سنويّ بلغ 200 مليون دولار أمريكيّ، بالإضافة إلى خفض الانبعاثات بمعدل سنويّ بلغ 1.4 مليون طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون.

وفي السياق نفسه، تعمل مصر على وضع إطار قانونيّ منظم لوضع غازِ الشعلة، وهذا بما يضمن وجود الحوافز المناسبة للشركات، والسعي نحو تحقيق الأجندة المناخية الوطنية في ضوء أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وهو ما عبَّـرتْ عنه مصرُ -بشكل واضـح- أثناء مؤتمر المناخ -COP28- في دبي.

ختامًا، فإنَّ غازَ الشعلةِ يمثل تحديًا أساسيًّا أمام صناعة البتـرول، ويتعيـن علينا التحرك فورًا للتعامل معه بكل الطرق التي تسهم في تعزيز الاستدامة البيئية والاقتصادية. وعلى الرغم من أنَّ حرقَ غازِ الشعلة يمثل وسيلةً سهلةً للتخلص من الغَازات الزائدة، فإنه يتـرك تأثيـراتٍ سلبيةً تضر بالبيئة وصحة الإنسان على مدى قرون طويلة.

لذا، يجب على الجميع -شركات وهيئات وحكومات- اتخاذ إجراءات فعَّالة لتقليل حرق غازِ الشعلة، من خلال تطوير واستخدام التقنيات الحديثة، التي يمكنها أنْ تُحول هذا الغازَ من مخلَّفٍ إلى مورد يحقق مبادئ الاقتصاد الدائريّ، ويخفض البصمة الكربونية لهذا القطاع الحيويّ.

بالإضافة إلى الجهود التقنية، للتشريع والتنظيم دور حيويّ في تعزيز استدامة صناعة البتـرول، حيث ينبغي للحكومات تبني سياسات بيئية قوية تحفز على تقليل حرق غازِ الشعلة وتعزز استخدامه بدلًا من إهداره، وهذا لن يكون إلا بالتعاون الحقيقيّ مع القطاع الخاص؛ حتى نتمكنَ من تحقيق تقدم ملموس نحو أهدافنا المناخية على المستويينِ المحليّ والعالمـيّ، وبناء مستقبل أفضل للجميع.

غاز الشعلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى