غاز الضحك.. هل يضحك الأرض أم يبكيها؟
غاز الضحك.. هل يضحك الأرض أم يبكيها؟
تخيل أنَّ هناك غازًا مثيرًا للضحك في عيادات الأسنان، ويغرق الكوكب -في الوقت نفسه- في كوابيس مناخية! نعم، نحن نتحدث عن غاز أكسيد النيتروز (N2O)، المعروف بـ”غاز الضحك”، وهو غاز قد يبدو لطيفًا ومضحكًا في غرفة العمليات، سوى أنه يملك قدرةً تخريبيةً تدفع الأرض إلى البكاء تحت وطأة الاحترار العالميّ.
كيف يمكن لهذا الغاز أنْ يصبح محورَ معضلةٍ بيئية عالمية؟ هذا ما ستكتشفونه مع حماة الأرض في هذا المقال؛ فتابعوا القراءة حتى تتعرفوا كيفية انتقال أكسيد النيتروز من أدوات الأطباء إلى مزارعنا، ومن هناك إلى الغلاف الجويّ؛ ليتحول في النهاية إلى أحد أخطر أعداء البيئة.
فجوة في الانبعاثات
قبل أنْ نتناول موضوع أكسيد النيتروز ينبغي هنا أنْ نشير إلى وجود فجوة في معدلات الانبعاثات علَى مستوى العالم؛ إذْ تكشف إحصاءاتٌ حديثةٌ أجراها برنامج الأمم المتحدة للبيئة عن خلل واضح في توزيع الانبعاثات الكربونية بين دول العالم، حيث يتجاوز نصيبُ الفرد في الاتحاد الروسيّ والولايات المتحدة -علَى سبيل المثال- المتوسطَ العالميّ، البالغ 6.5 طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، في حين أنَّ نصيبَ الفرد في الهند أقل من نصف هذا المتوسط.
والأمر نفسه بالنسبة إلى البرازيل وإندونيسيا، حيث يقترب نصيب الفرد من المتوسط العالميّ لدول مجموعة العشرين، البالغ 7.9 طن. وبينما يُسجل نصيب الفرد في الدول الأقل نموًّا حوالي 2.2 طن فقط، فإنَّ نصيب الفرد في الدول الجزرية الصغيرة النامية يصل إلى 4.2 طن.
ويتسع نطاق هذه الفجوة ليشمل الانبعاثات الناتجة عن الاستهلاك -سواء بين الدول أم داخلها- حيث تُظهر البيانات أن 10% من سكان العالم -أصحاب الأجور المرتفعة- مسئولون عن 48% من إجماليّ الانبعاثات، في حين أنَّ نصفَ سكان العالم -أصحاب الأجور المنخفضة- يشاركون في هذه الانبعاثات العالمية بنسبة لا تتجاوز 12%؛ مما يؤكد حاجتنا إلى سياسات منصفة، حتى نعالج هذه الفجوة بين الدول، وفقًا للعدالة المناخية.
أكسيد النيتروز تحد مناخي
يُعرَفُ أكسيدُ النيتروز بقدرته علَى تسخين الأرض بمعدل يفوق تأثير ثاني أكسيد الكربون بحوالي 270 ضعفًا -وفق بيانات منظمة الأغذية والزراعة- حيث يظل هذا الغاز في الغلاف الجويّ وقتًا طويلًا يصل إلى 114 عامًا؛ مما يُتيح له التفاعل، فيتحول إلى أكاسيد النيتروجين التي تُضعف طبقة الأوزون؛ ومِن ثَمَّ يزداد تعرض الأرض للأشعة الشمسية الضارة، وهذا يؤثر في الزراعة عامةً وصحة الإنسان خاصةً.
وإنَّ 60% -تقريبًا- من انبعاثات أكسيد النيتروز علَى مستوى العالم تحدث -وفق بيانات معهد الدراسات البيئية والطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية- بشكل طبيعيّ، في حين أنَّ النسبة المتبقية -40%- تعود إلى الأنشطة البشرية. وهذه الانبعاثات تتزايد معدلاتها أكثر من أيّ وقت مضى؛ فقد كانت معدلات انبعاثات أكسيد النيتروز من 2020 إلى 2021 أعلى من معدل نموها السنويّ المتوسط -عالميًّا- علَى مدار السنوات العشر الماضية.
الزراعة مصدر رئيسي للانبعاثات
تُعدُّ الزراعة -وفقًا لتقرير الميزانية العالمية لأكسيد النيتروز- مصدرًا أساسيًّا لانبعاثات هذا الغاز الضار. وعلَى الرغم من دور الأسمدة النيتروجينية في تحسين إنتاجية المحاصيل -عبْر توفير المغذيات للنباتات- فإنَّ نصف الكمية المضافة يُمتص من قِبل النباتات، في حين أنَّ الباقي يتسرب إلى المياه الجوفية، أو ينطلق في الجو علَى هيئة غازات. ويُستهلك هذا النيتروجين من قِبل البكتيريا؛ مما يؤدي إلى إنتاج أكسيد النيتروز، وهو أحد الغازات الدفيئة القوية التي تساهم في ظاهرة الاحتباس الحراريّ.
تقنيات معالجة انبعاثات أكسيد النيتروز
بالرغم من التأثير السلبيّ لانبعاثات أكسيد النيتروز فإنَّ هناك تقنياتٍ مبتكرةً للتخفيف من هذه المشكلة؛ فقد تُستخدم -علَى سبيل المثال- أجهزةُ الاستشعار عن بُعد للكشف بدقة عن مستويات غاز النيتروجين في الوقت الحقيقيّ؛ مما يُتيح التحكمَ الأمثلَ في استخدام الأسمدة، وتقليل هدرها. كما تُستخدم مثبطات النَّتْرَجَةِ للحد من نشاط البكتيريا التي تُنتج أكسيد النيتروز؛ مما يقلل من كمية الغاز المنبعثة في البيئة.
حلول لتعزيز الاستدامة الزراعية
تُجرى في الأعوام الأخيرة أبحاثٌ لاكتشاف أساليب زراعية صديقة للبيئة، تعتمد علَى تحسين ممارسات الريّ والتسميد؛ لتقليل الأثر البيئيّ للزراعة. وللحد من انبعاثات أكسيد النيتروز وضمان استدامة القطاع الزراعيّ، يمكن تبني عدة حلول؛ منها: التوسع في استخدام الأسمدة العضوية، ويمكن أيضًا تشجيع المزارعين علَى تبني تقنيات الزراعة الدقيقة، التي تعتمد علَى بيانات لحظية؛ لأجل تحسين استخدام الموارد الزراعية. ويجب -بالإضافة إلى ما سبق- دعم الأبحاث والتطوير في مجال تحسين كفاءة الأسمدة، وعلينا أيضًا أنْ نعزز من أساليب التوعية البيئية بين المزارعين، وأنْ نقدم إليهم الحوافز الاقتصادية؛ كي يتبنَّوا ممارسات زراعية أكثر استدامةً.
في النهاية ليس أكسيد النيتروز مجردَ مشكلة انبعاثات فقط، فهو أحد العوامل الرئيسية التي تتسبب في زيادة تأثير أزمة التغيُّر المناخيّ، حيث يساهم إسهامًا مباشرًا في زيادة الاحترار العالميّ؛ لذا علينا تعزيز الوعي العالميّ بآثاره الكارثية، والانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة.
ولذلك كله تؤمن حماة الأرض بأنه لا بُدَّ من اتخاذ خطوات عملية في هذا الشأن البيئيّ؛ كي نضمن لنا وللأجيال القادمة مستقبلًا أكثر استدامةً، وهو الأمر الذي تهتم به “رؤية مصر 2030” اهتمامًا بالغًا، من خلال محاورها الخاصة بالحد من التلوث؛ حتى يعود ذلك بالنفع الدائم علَى حياة المصريين.