صناعات مستدامة

كيف يؤثر التغير المناخي في الغذاء؟

كيف يؤثر التغير المناخي في الغذاء؟

يتسارع التغير المناخي اليوم ليترك تأثيراته العميقة في كل جوانب حياتنا، بدءًا من الطقس المتقلب الذي نشهده في مدننا إلى التأثيرات المباشرة التي باتت تمس وفرة الغذاء وجودته على موائدنا؛ فبينما يهدد الجفاف المحاصيل في بعض المناطق، إذَا بالفيضانات تغمر الأراضي الزراعية في مناطق أخرى؛ مما يؤدي إلى اضطرابات غير مسبوقة في أنظمة الغذاء العالمية والمحلية.

في ظل هذا الواقع، يبرز سؤال محوري: كيف يمكننا ضمان استمرار توفر الغذاء بشكل مستدام وآمن لكل فرد؟ الإجابة تتطلب منا الغوص في الصورة الأكبر لفهم العلاقة الوثيقة بين المناخ والغذاء، واستكشاف كيفية تأثير التغيرات البيئية على حياتنا اليومية، سواء على مستوى المجتمعات أو داخل حدود المنزل. وهذا هو ما ستسلط عليه حماة الأرض الضوء في هذا المقال؛ فتابعوا القراءة.

الاحترار العالمي وتفاقم أزمة الغذاء

لا يمكن الحديث عن الأمن الغذائي دون التوقف عند ظاهرة الاحتباس الحراري، التي تُعد من أبرز مظاهر التغير المناخي وأكثرها تأثيرًا في النظم الزراعية؛ فالاحترار العالمي الناتج عن النشاط البشري -على رأسه حرق الوقود الأحفوري وإزالة الغابات- لم يعد مجرد مسألة نظرية تطرح في المؤتمرات، وإنما تحوّل إلى واقع يومي يخلّ بتوازن البيئة، ويؤثر بشكل مباشر في سلاسل إنتاج الغذاء.

غير أن درجات الحرارة المرتفعة ليست وحدها هي العدو، فموجات الجفاف الممتدة التي تصيب مناطق بأكملها تُنهك التربة بشكل متكرر، وتجعلها أقل قدرة على الاحتفاظ بالمياه والمواد الغذائية الضرورية، ومع تدهور خصوبة الأراضي الزراعية، يصبح إنتاج الغذاء أكثر تكلفة وأقل وفرة.

ومن جهة أخرى، يوفر المناخ المتقلب بيئة خصبة لانتشار الآفات والأمراض الزراعية، التي لم تعد محصورة في مناطق محددة، وإنما باتت تتنقل بحرية مع تغيّر الظروف المناخية. والنتيجة هي خسائر فادحة في المحاصيل، وضعف في الإنتاج الحيواني، وهذا ما أسهم في وجود فجوة غذائية تتسع يومًا بعد يوم، وتشكل تهديدًا حقيقيًّا على الأمن الغذائي العالمي.

تأثير التغير المناخي في سلاسل الإمداد

ولا يقف تأثير التغير المناخي عند حدود الزراعة فقط، وإنما يتعداه إلى سلسلة الإمداد الغذائي كلها؛ فالفيضانات تدمر المخازن، والأعاصير تقطع الطرق، وحرائق الغابات تعزل المناطق عن مصادر التموين، وكل ذلك يضع سلاسل الإمداد تحت ضغط هائل، يجعل من توفير الغذاء في الأوقات الحرجة تحديًا كبيرًا لا يمكن تجاهله في صياغة سياسات الأمن الغذائي المستقبلية.

في هذه الظروف المتقلبة، يصبح حفظ الغذاء وتخزينه وتوصيله مهمة شاقة، تتطلب بنية تحتية مرنة وقدرة كبيرة على التكيّف السريع مع الطوارئ المناخية. وتزداد التحديات بشكل أكبر حين تكون المجتمعات المستهدفة فقيرة أو معزولة جغرافيًّا؛ مما يجعل الغذاء سلعة نادرة وباهظة الثمن في لحظات الأزمات، ويزيد من معاناة السكان الذين يواجهون الكارثة دون مقومات للصمود.

وقد شهد العالم خلال السنوات الأخيرة عددًا متزايدًا من الكوارث المناخية التي ألحقت أضرارًا جسيمة بسلاسل الإمداد الغذائي، من بينها إعصار “إيدا” الذي ضرب الولايات المتحدة وتسبب في تعطيل شحن المواد الغذائية على نطاق واسع. هذا الاضطراب أدّى إلى ارتفاع كبير في الأسعار وزيادة معدلات الهدر الغذائي، نتيجة تعذر التخزين والتوزيع الفعّال.

وتفاقمت المشكلة مع فقدان الثقة في قدرة الأسواق على تأمين الاحتياجات الأساسية؛ مما دفع كثيرين إلى تخزين كميات كبيرة من الطعام بشكل غير منظم، وأدى ذلك إلى خلل واضح في التوازن بين العرض والطلب، وهو ما أسهم في تفاقم الوضع الغذائي في لحظات الأزمة.

وتجدر الإشارة إلى أن تداعيات الكوارث المناخية لا تقف عند حدود الدولة المتأثرة بها، وإنما تمتد آثارها بسرعة لتشمل مناطق أخرى حول العالم، وذلك بسبب الترابط الوثيق في سلاسل الإنتاج والتجارة الغذائية على مستوى الكوكب. فعلى سبيل المثال، عندما تتعرض منطقة جنوب آسيا لأزمة في إنتاج الأرز، أو تشهد أمريكا الجنوبية موجات نفوق جماعي للماشية، فإن الأسواق في أوروبا وإفريقيا وآسيا تتأثر بشكل مباشر، سواء في الأسعار أو في وفرة المعروض.

هذا التشابك يُبرز بوضوح أن التغير المناخي لا يعترف بالحدود السياسية أو الجغرافية، وأن مسألة الأمن الغذائي باتت قضية عالمية تتطلب استجابة جماعية وتعاونًا دوليًّا واسعًا؛ إذ إنها لم تعد مسئولية دولة واحدة، وإنما تتعلق بمصير البشرية بأكملها.

أزمة الجوع وعلاقتها بالتغير المناخي

وفي خضم هذه التداعيات المناخية المتسارعة، تظهر أزمة أكثر إيلامًا على الصعيد الإنساني، وهي أزمة الجوع، حيث تتزايد معدلات الجوع عالميًّا بوتيرة مقلقة، حيث تجاوز عدد من يعانون من الجوع المزمن حاجز الـ 700 مليون إنسان، وفقا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2023.

وتتصاعد في بعض الأماكن صور جديدة من الجوع، حيث أصبح سلاحًا غير مباشر يعزز التهميش الطبقي والتفاوت الاجتماعي؛ فمع تقلص المعروض الغذائي وارتفاع الأسعار بشكل مفاجئ، يصبح من المستحيل على الكثيرين -خاصة في الدول النامية- شراء حاجاتهم الأساسية من الطعام. هذا الوضع يعمّق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية ويزيد من حدة الفقر؛ مما يؤثر بشكل مباشر في استقرار المجتمعات.

تتداخل العوامل السياسية والاقتصادية مع الأزمة الغذائية، مما يجعل من الأمن الغذائي قضية عالمية لا تقبل التأجيل؛ فلم تعد الأزمات الغذائية مجرد تحديات تنموية، وإنما أصبحت أدوات تُستغل في تأجيج النزاعات وتغذية موجات النزوح. كما أن بناء أنظمة غذائية أكثر عدالة واستدامة أصبح أمرًا ملحًا يتطلب استجابة جماعية على الصعيد الدولي؛ لضمان وصول الغذاء بشكل عادل إلى جميع الفئات وحماية المجتمعات الفقيرة من تأثيرات الكوارث المناخية المستمرة.

ولا يمكن مواجهة هذه التحديات دون وعي مجتمعي حقيقي بدور الأفراد والمؤسسات على حد سواء؛ فكل خطوة صغيرة نحو الاستهلاك المسئول، وكل مبادرة لتقليل الهدر، وكل دعم للمزارع المحلي أو المنتج المستدام، تسهم في بناء منظومة غذائية أكثر توازنًا واستقرارًا.

ومن هنا ترى حماة الأرض أن إعادة النظر في علاقتنا بالغذاء والمناخ باتت واجبًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا؛ فحين نضمن لطفل في قرية نائية وجبة مغذية، ونوفر لفلاح في منطقة منكوبة فرصة الاستمرار في الزراعة، ونُحسن شبكات التوزيع لتصل إلى أبعد نقطة، فإننا لا نُطعم الجائع فحسب، وإنما نبني سلامًا واستقرارًا يستحقه الجميع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى