لماذا القضاء على الفقر؟
لماذا القضاء على الفقر؟
لم يعد الفقر اليوم مجرد نقص في المال أو غياب الدخل، بل أصبح ظاهرة معقدة تتداخل فيها مجموعة من الظروف الصعبة التي يواجهها ملايين الأشخاص حول العالم؛ هؤلاء الذين يعانون من الجوع، ونقص الرعاية الصحية المناسبة، وغيرها من الخدمات الإنسانية الضرورية.
وإنَّ الحديث عن القضاء على الفقر يتصل مباشرة بالبعد الاجتماعي لأهداف التنمية المستدامة، فضلًا عن البعدين الآخرين اللذين تقوم عليهما التنمية المستدامة؛ البعد الاقتصادي والبعد البيئي، إذْ يُعد القضاء على الفقر حجر الزاوية لتحقيق التنمية العادلة التي تشمل التعليم الجيد، والصحة الجيدة، والغذاء الكافي؛ فالفقر هو التحدي الأول الذي يجب التغلب عليه لبناء مجتمعات مستدامة تُتيح الفرص للجميع.
وانطلاقًا من هذا الفهم، تستعرض حماة الأرض في هذا المقال جذور الفقر وأبعاده، وتكشف كيف تؤثر عوامل مثل الحرمان الغذائي، وضعف الخدمات الصحية، وغياب فرص التعليم في اتساع دائرة الفقر، وتناقش لماذا كان القضاء على الفقر هو الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة؟ فتابعوا القراءة.
القضاء على الفقر أساس التنمية
عندما وضعت الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة في عام 2015، اختارت أن يكون القضاء على الفقر أولَ هذه الأهداف، في رسالة واضحة بأن محاربة الفقر ليست واجبًا إنسانيًّا فقط، وإنما ضرورة لضمان تحقيق بقية الأهداف؛ فكيف يمكننا تحقيق تعليم شامل أو نظام صحي قوي، في الوقت الذي تشير فيه تقارير البنك الدولي لعام 2023 إلى أن أكثر من 700 مليون شخص واقعون تحت خط الفقر؟!
لا شك أن الفقر يمثل عائقًا كبيرًا أمام أي تقدم حقيقي؛ فإلى جانب حرمان الإنسان من القوت والمعيشة، فإنه يحرم أيضًا من الفرص في حياة أفضل؛ ولهذا رُبط القضاء على الفقر مباشرةً بفكرة بناء مجتمعات قادرة على النهوض بذاتها، عبر ضمان توفير الحقوق الأساسية لكل إنسان دون استثناء.
ومن الجدير بالذكر أن القضاء على الفقر ليس مسألة خيرية فحسب، وإنما استراتيجية ذكية لبناء عالم أكثر استقرارًا وسلامًا؛ فالمجتمعات الفقيرة أكثر عرضة للنزاعات والأمراض والهجرة القسرية، وهذا ما يجعل التصدي للفقر خطوة جوهرية في تحقيق أمن عالمي دائم، وهو ما تؤكده تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
الفقر متعدد الأبعاد
لقد أدرك العالم -بفضل أبحاث التنمية البشرية- أن الفقر أعمق بكثير مما تظهره المؤشرات المالية. ومن هنا طوّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي -بالتعاون مع جامعة أكسفورد- مؤشر الفقر متعدد الأبعاد The Multidimensional Poverty Index – MPI))، الذي يقيس الفقر بناءً على عدة معايير لا تقتصر على قلة الدخل، وإنما تمتد لتشمل الحرمان في الصحة والتعليم ومستوى المعيشة.
ويُظهر هذا المؤشر واقعًا صعبًا يعيشه ملايين البشر؛ إذ قد يتمكن رب الأسرة من توفير قوت يومه، غير أنه لا يقدر على إرسال أطفاله إلى المدرسة أو ضمان حصولهم على الرعاية الصحية عند المرض؛ مما يجعله فعليًّا في دائرة الفقر، رغم أنه لا يصنَّف ضمن الفقراء وفق المعايير التقليدية القائمة على الدخل فقط.
ويستند هذا المؤشر في قياسه إلى ثلاثة أبعاد أساسية هي: التعليم، والصحة، ومستوى المعيشة، وتتفرع منها عشرة مؤشرات فرعية تتيح رؤية أدق وأوسع لطبيعة المعاناة التي يعيشها الإنسان تحت خط الفقر؛ مما يؤكد أهمية النظرة الشمولية في فهم أن الفقر ليس مجرد رقم في تقارير التنمية، وإنما هو تجربة حياتية عميقة، تشمل نقصًا في الفرص وحرمانًا من الضروريات.
الحرمان من الحقوق الأساسية
وهنا تظهر أهمية التفرقة بين الحرمان والنقص المادي؛ ففي كثير من الأحيان يُختزل الفقر في قلة المال، في حين يكشف مفهوم الحرمان عن بُعد أكثر عمقًا وقسوة في حياة الفئات المهمشة؛ فالحرمان يشمل فقدان الحقوق الأساسية التي تمنح الإنسان كرامته، مثل السكن الآمن، والمياه النظيفة، والكهرباء المستقرة، ومصادر التعليم الجيد، والرعاية الصحية المتقدمة.
وإذا كانت هذه الأبعاد غير المرئية للفقر هي جزء من واقع مئات الملايين حول العالم؛ فلا غرابة أن يشير تقرير التنمية البشرية لعام 2023 إلى أن أكثر من نصف سكان بعض الدول الفقيرة يعيشون في حالة حرمان متعدد الأبعاد. هذه الحقيقة تُظهر بوضوح أن محاربة الفقر ليست مهمة سهلة يمكن اختصارها في تقديم مساعدات مالية، بل هي معركة معقدة تتطلب استراتيجيات شاملة تمتد إلى جذور المشكلة، وتتعامل مع كل أبعادها الإنسانية دون إهمال أي بعد.
الجوع صرخة صامتة
ومن بين أخطر مظاهر هذا الحرمان، يظهر الجوع بوصفه مأساة صامتة، تُفقد الإنسان حياته الكريمة قبل أن تفقده طعامه؛ فالطفل الذي يعاني من سوء التغذية يواجه صعوبات في التعلم والنمو، وهذا يقلل من فرصه في المستقبل، والبالغ الجائع يفتقر إلى الطاقة اللازمة للعمل والإنتاج؛ مما يحد من قدرته على تحسين وضعه الاقتصادي.
وفقًا لتقرير “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2024” بلغ عدد الذين يعانون من الجوع في عام 2023 ما بين 713 و757 مليون إنسان، مع تقدير متوسط يبلغ حوالي 733 مليون إنسان، وهذا يعني أن واحدًا من كل 11 إنسانًا فوق كوكبنا لا يجد طعامًا كافيًا، وفي إفريقيا وحدها يعاني واحد من كل خمسة أشخاص من نقص حاد في الغذاء.
علاوة على ذلك، واجه حوالي 2.33 مليار إنسان حول العالم مستويات متباينة من انعدام الأمن الغذائي في عام 2023، وهذا حسب تقرير صادر عن اليونيسيف، وهو رقم لم يتغير كثيرًا منذ الارتفاع الحاد في عام 2020 بسبب جائحة كوفيد-19. ومن بين هؤلاء عانى أكثر من 864 مليون إنسان من انعدام الأمن الغذائي الشديد؛ مما يعني أنهم اضطروا -أحيانًا- إلى قضاء يوم كامل أو أكثر دون طعام.
وفي إطار السعي إلى إيجاد حلول جذرية لا يمكننا أن نتجاهل العوامل التي تُفاقم الأزمة يومًا بعد يوم، مثل الأزمات المناخية والنزاعات المسلحة، التي أصبحت من الدوافع الرئيسية لانتشار الجوع في مختلف أنحاء العالم؛ فالجفاف والفيضانات وتغير أنماط الطقس كلها عوامل تؤثر سلبًا في المحاصيل، وتهدد سبل العيش.
وفي الوقت نفسه تجبر الحروب ملايين الأشخاص على النزوح، وتسلبهم القدرة على الوصول إلى الموارد الأساسية. هذا الترابط بين البيئة والصراعات السياسية والتغيرات المناخية يؤكد ضرورة اعتماد نهج شامل في مواجهة الجوع، يستهدف الأسباب العميقة للأزمة وليس أعراضها فقط.
وفي هذا السياق، يُعد تمكين المجتمعات المحلية وتعزيز الزراعة المستدامة أحد المفاتيح الأساسية للخروج من دائرة الجوع؛ فمن خلال دعم صغار المزارعين وتوفير التدريب والموارد والتكنولوجيا الملائمة، يمكن تحسين الإنتاجية وتعزيز قدرة المجتمعات على الاعتماد على الذات.
علاقة الفقر بالصحة
ولا يمكن الحديث عن الفقر دون ضمان ركيزة أساسية أخرى، وهي الصحة الجيدة، التي هي حق أساسي لكل إنسان، غير أنها تظل حلمًا بعيدًا لملايين البشر الذين يحاصرهم الفقر؛ فمن الجدير بالذكر أن ضعف الرعاية الصحية هو أحد أبرز جوانب الفقر متعدد الأبعاد، حيث يؤدي غياب الخدمات الطبية الجيدة إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأسر الفقيرة.
ومما لا شك فيه أن الأمراض المزمنة التي لا تجد علاجًا تؤدي إلى خسائر اقتصادية ضخمة، حيث يفقد الأفراد قدرتهم على العمل والإنفاق، ويغرقون في ديون علاجية تزيدهم فقرًا فوق فقرهم؛ فبحسب منظمة الصحة العالمية (WHO) فإن أكثر من نصف مليار إنسان يعيشون في فقر شديد أو أصبحوا أفقر بسبب هذه الظروف.
ومن هنا تظهر أهمية التغطية الصحية الشاملة باعتبارها حلًّا جذريًّا لحماية الفئات الأكثر هشاشة؛ إذْ إنَّ توفير الرعاية الصحية دون أعباء مالية ثقيلة، وتقوية البنية التحتية الصحية، يسهمان بشكل مباشر في القضاء على الفقر والمرض؛ فالاستثمار في الصحة هو استثمار في مجتمع أفضل، وأكثر إنتاجية.
ولا يمكن تجاهل الجانب النفسي؛ فالضغوط الناتجة عن الحاجة والفقر تترك آثارًا عميقة على الصحة العقلية والنفسية، وتزيد من معدلات الاكتئاب والقلق، خصوصًا بين الأطفال والمراهقين الذين يعيشون في ظروف غير مستقرة، هذا البعد غالبًا ما يُهمل في السياسات العامة، رغم أنه يشكل أحد الأبعاد الرئيسية المؤثرة في استمرار الفقر.
التعليم مفتاح الخروج من دائرة الفقر
في مواجهة آثار الفقر النفسية والصحية، يبرز التعليم باعتباره خط الدفاع الأول الذي يُعيد تشكيل واقع الأفراد من الداخل؛ فحين يحصل الطفل على فرصة تعليم آمنة ومحفّزة، تتراجع مشاعر العجز وتتحول التحديات إلى دوافع للنمو.
ومن هذا المنطلق يكتسب دور التعليم بعدًا أعمق في مسار التنمية المستدامة، بوصفه حجر الأساس لبناء إنسان قادر على كسر قيود الفقر، والانطلاق نحو مستقبل أكثر استقرارًا وكرامة؛ فغياب التعليم الجيد يحكم على الأجيال الجديدة بالبقاء داخل دائرة الفقر مدى الحياة، حيث تشير دراسات البنك الدولي إلى أن كل سنة إضافية من التعليم قد تزيد دخل الفرد بنسبة تصل إلى 10%.
ولا يقتصر أثر التعليم على تمكين الأفراد فحسب، بل يتعداه ليعزز النمو الاقتصادي الوطني، ويقلل من الفجوات الاجتماعية؛ فالمجتمعات التي تستثمر في تعليم مواطنيها تشهد معدلات أعلى من الابتكار والإنتاجية، فضلًا عن انخفاض في معدلات الجريمة والعنف، كما أن التعليم يرفع من مستوى الوعي الصحي والبيئي؛ مما يسهم في تحسين نوعية الحياة على المدى البعيد.
ورغم هذه الأهمية الواضحة والكبيرة للتعليم فلا يزال العديد من الأطفال في المناطق الفقيرة يواجهون تحديات تعيق وصولهم إلى التعليم، مثل بُعد المدارس، ونقص المعلمين، وغياب الموارد التعليمية الأساسية؛ ولذلك فإن بناء بيئة تعليمية شاملة وآمنة يتطلب تضافر جهود الحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية.
إذن، علينا أنْ نتذكر جميعًا أنَّ القضاء على الفقر يفرض علينا مسئولية مشتركة ورؤية شاملة تدمج بين العدالة الاجتماعية والعدالة البيئية، حيث تكون التنمية حقًّا للجميع وليست امتيازًا لقلة. ومن هذا المنطلق، ترى حماة الأرض أن الحلول المستدامة تنبع من المجتمعات التي تعرف احتياجاتها وتملك طاقات وقدرات تستغلها في خدمة المستقبل المستدام؛ لأجل حياة كريمة.