صناعات مستدامة

الاستدامة البيئية في صناعة مستحضرات التجميل والعناية الشخصية

الاستدامة البيئية في صناعة مستحضرات التجميل والعناية الشخصية

سعى البشرُ -منذ قديم الزمان- إلى إيجاد طرق لتحسين مظهرهم الجسدي، وهو ما يظهر في الآثار الباقية عن كثير من الأمم التي توضح تطويع الإنسان للطبيعة؛ لأجل استخلاص العطور ومستحضرات التجميل وغيرها. نجد قدماء المصريين -على سبيل المثال- قد صنعوا العديد من أدوات الزينة، كما ابتكروا العديد من مستحضرات التجميل، وهو ما يظهر واضحًا في جدران المعابد والقِطَعِ الأثرية.

مع الوقت -واختلاف المكان والأعراف المجتمعية- تطورت مستحضراتُ التجميل بشكل كبير، لتتحول بشكل تدريجي من الاعتماد على المستخلصات الطبيعية من الحيوان والنبات إلى الاعتماد على المُرَكَّباتِ الكيميائية والمواد المعالجة.

قد تكون منتجات التجميل الحديثة أسهل في الحصول عليها، وكذا أسهل في الاستخدام، إلا إنه يتوجب علينا أيضًا مراعاة الآثار المترتبة على استخدام هذه المستحضرات التجميلية الحديثة، كما هي الحال مع معظم المواد الاستهلاكية؛ فلهذه المستحضرات بصمة كربونية وأثر بيئي معتبر يجب ألا نغفل عنهما.

التنوع الواسع والأنواع التي لا حصر لها والعلامات التجارية العديدة – جعلتْ من صناعة مستحضرات التجميل والعناية الشخصية صناعةً متناميةً تحقق مليارات الدولارات من العوائد كل عامٍ، إلا إنَّ التوجه العالميَّ نحو تحويل القطاع الصناعي -بشكل عامٍّ- إلى الاستدامة قد وضع صناعةَ مستحضرات التجميل تحت ضغوط؛ لأخذ خطوات جادة نحو جعلها صناعةً خضراءَ.

إنَّ فئةً متناميةً مِن المستهلِكين -لحسن الحظ- على دراية ووعي بكل ما يستخدمونه وبما له أثرٌ في البيئة؛ مما أدَّى بالتبعية إلى زيادة تدريجية في الاستدامة في صناعة التجميل، تلبيةً لاحتياجات هذا المستهلِك الواعي. من هنا سوف نستعرض في السطورِ القادمةِ أهمَّ المحاورِ التي تخص الاستدامة في صناعة مستحضرات وأدوات التجميل.

تأثير صناعة التجميل في البيئة

ينمو مجالُ التجميلِ بمعدل غير مسبوق، بفضل ظهور العلامات التجارية التي تُركز على مواكبة احتياجات العملاء بدرجة عالية، وهذا يقود إلى تطوير منتجات مبتكرة كثيرة في كل عامٍ؛ لكن هذه المنتجات تستلزم تكلفةً بيئيةً تكون -ربما- غيرَ مرئيةٍ لمعظمنا.

هناك قائمةٌ طويلةٌ من التحديات التي تواجه العلامات التجارية التي تتطلع إلى تقليل الآثار البيئية لعملياتها الصناعية، وتشمل هذه الآثارُ فوارغَ عبواتِ التجميلِ وما ينتج عنها من بلاستيكٍ وموادٍّ أخرى. كذلك كميات المياه المهدرة، والانبعاثات الكربونية، والقسوة على الحيوانات باستخدامها في تجارب غير إنسانية لصناعة المنتجات وتحسينها، وسنناقش هذه النقاط في السطور الآتية:

  1. عبوات وصناديق التغليف

في أغلب الأحيان، تعتمد عمليةُ تعبئة وتغليف مستحضرات التجميل -بشكل كبير- على الجانب التسويقي والدعائي أكثر من الجانب العملي، حيث يمثل تغليفُ المنتج أولويةً قصوى للعديد من الشركات في هذه الصناعة؛ فعن طريقه يمكن للمستخدِم أنْ يشعرَ بمدَى جودة المنتج داخل العبوة وقيمة العلامة التجارية؛ لذا نجد أنه كلما ارتفع سعرُ المنتج كان تغليفُه أكثر تعقيدًا بشكل غير ضروري، وبالتالي تنتج عنه مخلفاتٌ أكثر.

ومن الصعب -لسوء الحظ- إعادة تدوير عبوات ومواد تغليف مستحضرات التجميل؛ إِذْ إنَّ كثيرًا من الصناديق والحقائب التي تأتي فيها هذه المنتجات تكون مصنوعةً من خليط من المواد، وغالبًا ما يكون فصلُ هذه المواد أمرًا مستنزِفًا للوقت والجهد بشكل لا يصدق!

  1. المياه المهدرة

قد لا يكون الماءُ المكونَ الأولَ الذي يتبادر إلى الذهن عند التفكير في مستحضرات التجميل، لكن حقيقة الأمر هي أنَّ الماءَ مستخدَمٌ بشكل رئيسي في مجموعة واسعة من هذه المستحضرات، من منتجات العناية الشخصية إلى الكريمات وغيرها، حيث يُعتبر الماءُ الوسطَ المناسبَ الذي يذوب فيه كثيرٌ من المواد الكيميائية.

لذا، يُطلِقُ كثيرٌ على المياه لقبَ المذيب المثالي في صناعة مستحضرات التجميل، حيث يمكن باستخدامه مع المستحلبات (emulsifiers) الحصول على مستحضرات كثيفة القوام من المياه الممزوجة بالزيوت والدهون الأخرى.

  1. الانبعاثات الكربونية

ربما سيصاب بعضُ الناس بالدهشة عندما يعلمون أنَّ مستحضرات التجميل تشتمل على نفس ما تشتمل عليه منتجات التنظيف، وأحبار الطباعة، والمبيدات الحشرية، ومواد التشطيبات الخشبية من مُرَكَّبات عضوية متطايرة (VOCs). وهي المُرَكَّبات التي تُعَدُّ ملوِّثًا مِن ملوِّثات الهواء، ونجدُ هذه المُرَكَّبات العضوية المتطايرة في مستحضرات التجميل، مثل العطور ومزيلات العَرَقِ وبخاخات الشَّعر. وتُظهر الدراساتُ أنَّ هذه المُرَكَّبات العضوية المتطايرة تتسبب -بشكل كبير- في إطلاق انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

جانبٌ آخرُ، هو المكونات المشتقة من الوقود الأحفوري، وهي المكوناتُ المستخدَمةُ في مستحضرات التجميل، خصوصًا عمليات التعبئة والتغليف التي لها إسهامٌ -أيضًا- في البصمة الكربونية الناتجة عن هذه الصناعة؛ لذا فإنَّ الانبعاثات الصادرة عن صناعة مستحضرات التجميل والعناية الشخصية مشكلةٌ كبرى تحتاج إلى علاج، حتى لو كانتْ هذه المستحضراتُ مستخرجةً من مصادر طبيعية، حيث يمكن أنْ تُعَالجَ بطرق غير مستدامة.

  1. التلوث بالميكروبلاستيك

لا يقتصر التلوثُ البلاستيكيُّ الناتجُ عن صناعة مستحضرات التجميل على مخلفات عبوات ومواد التعبئة والتغليف فحسب، وإنما يتخطى هذا الأمرُ إلى المنتجات نفسها التي تحتوي في طياتها على جزيئات عديدة من الميكروبيدات.

والميكروبيدات عبارةٌ عن جزيئات بلاستيكية صغيرة الحجم، تُستخدم -عادةً- كمقشر في منتجات تقشير الجسم وبعض منتجات التجميل الأخرى؛ وبالتالي يمكن للمستهلِكين ضخ الملايين من هذه الجسيمات البلاستيكية في المجاري والمسطحات المائية ببساطة، وهذا عن طريق استخدام مستحضرات التجميل التي تحتوي على هذه الحبيبات الدقيقة.

النتيجة المباشرة لتلوث المياه بالميكروبيدات هي وصولها إلى أجساد الأسماك والكائنات البحرية -وبالتبعية الإنسان- فتزيد ظاهرةُ التلوث البلاستيكي التي تَأِنُّ منها محيطاتُنا.

  1. القسوة على الحيوان

يُعَدُّ اختبارُ مستحضرات التجميل على الحيوانات أمرًا غير إنساني ولا مبرر له، وهو يتسبب -بشكلٍ أو بآخرَ- في توجه شرائح عريضة من المستهلِكين إلى منتجات التجميل النباتية على مَرَّ السنين. تخضع بعضُ الحيوانات لتجارب قاسية، لاختبار خصائص منتجات التجميل، وتشمل هذه التجاربُ تجارب تهيج الجلد والعين، حيث تتعرض عيونُ الحيوانات وأجسادها للمواد الكيميائية.

تجربة قاسية أخرى، هي اختبار الجرعة المميتة من المنتج، حيث يحقن الباحثون الحيوانات بجرعة قاتلة من مواد كيميائية مستخدَمة في مستحضرٍ مَا؛ لتمييز المميتة مِن الخطيرة.

الممارسات المستدامة في صناعة التجميل

لقد أسهمت -كما أشرنا في بدءِ المقال- زيادةُ وعي شرائح كبيرة من المستهلِكين في الحرص على شراء المنتجات ذات الآثار البيئية المحدودة، وهو أمرٌ دفع قطاعات كثيرة -لا سيما القطاع الصناعي- إلى البحث والتطوير في إيجاد الطرق المناسبة؛ لزيادة كفاءة العمليات الإنتاجية، وضمان استدامة سلاسل التوريد، وتقليل الهدر في المنتجات، وتعظيم إعادة التدوير.

لذا، ظهرتْ بعضُ الممارسات المستدامة في صناعة مستحضرات التجميل والعناية الشخصية، وهذا بهدف خفض بصمتها الكربونية من ناحيةٍ، والاستجابة لاحتياجات المستهلِكين بمنتجات صديقة للبيئة من ناحيةٍ أخرى. وإليكم فيما يأتي بعضًا من هذه الممارسات.

  1. تركيبات محسنة

ظهرت في صناعة مستحضرات التجميل منتجاتٌ تحمل علامة “خضراء” أو “مستدامة”، وهي منتجات مصنوعة من مكونات طبيعية مشتقة من موارد متجددة؛ ومِن ثَمَّ لا ينتج عنها أيُّ تلويث للبيئة بمكونات مثل الميكروبيدات، أو المُرَكَّبات الكيميائية الأخرى.

تشتمل تركيباتُ مستحضرات التجميل الخضراء على المواد الكيميائية الزيتية الحيوية المستخلَصة من الطبيعة، وهي تشكل العمودَ الفقريَّ لمستحضرات التجميل الخضراء؛ نظرًا إلى أنها مشتقةٌ من مصادر نباتية متجددة. ولأغراض المحافظة على المياه، نجد العديد من منتجات العناية بالبشرة الجديدة التي لا تعتمد في تركيبها على الماء، وهي منتجات أصبحت ذات شعبية متنامية في الآونة الأخيرة، ليس لكونها أكثر صداقةً للبيئة فحسب، وإنما لانخفاض تكلفة إنتاجها.

  1. مواد تغليف مستدامة

يظهر لنا -بشكل واضح- التلوث الناجم عن العبوات البلاستيكية ومواد التعبئة والتغليف في قطاع مستحضرات التجميل والعناية الشخصية، حيث يمكن العثور على النفايات البلاستيكية لهذه العبوات بأشكال مختلفة.

ولحل هذه المشكلة، هناك طريقتانِ رئيسيتانِ تفكر فيهما شركاتُ التجميل، الأولى: الاعتماد على مواد تغليف قابلة للتحلل البيولوجي، والأخرى: التخلي -بشكل كامل- عن المواد البلاستيكية في عبوات التغليف.

بعض الحلول العملية الأخرى تتمثل في توفير عبوات مستحضرات تجميل يمكن إرجاعها مرَّةً أخرى لإعادة التعبئةِ والمَلْءِ، وهذا بدلًا من شراء عبوة جديدة، أو استخدام المواد البلاستيكية -في أسوء الأحوال- بشكل منظم يسمح بإعادة تدويرها بسهولة ويُسر.

  1. تصميم المنتجات بشكل ذكي

تُسبب صناعةُ مستحضرات التجميل والعناية الشخصية -كما استعرضنا- مشكلاتٍ بيئية، وهي مشكلاتٌ يرجع جزءٌ كبير منها إلى نفايات التغليف. لكن الأمر الآخر هنا، هو أنَّ تطويرَ المستحضرات الجديدة وإنتاجَها على نطاق واسع عمليةٌ تحتاج إلى تجارب عديدة، للتوصل إلى أفضل تركيبة تناسب الاحتياجَ العامَّ بين أغلب المستهلِكين.

يمكن لتصميم المنتجات بشكل ذكي يعتمد على استطلاع آراء المستهلِكين، للوقوف على احتياجاتهم بشكل دقيق – أنْ يساهم بشكل واضح في تقليل التجارب المعملية؛ وبالتالي خفض الانتهاكات التي تتعرض لها حيوانات التجارب هذه.

أمرٌ آخرُ، هو تصميم عبوة تغليف المنتج بشكل ذكي يسمح للمستخدِم بإعادة استخدام هذه العبوة في الأغراض الأخرى بسهولة، أو على أقل تقدير تسهيل مهمة مرافئ إعادة تدوير.

نحو مستقبل مستدام وجميل

ليس من المعقول أنْ نعتنِيَ بأنفسنا وجمالنا أكثر مما نعتنِيَ ببيئتنا واستدامتها، فكما أنَّ صحتنا ومظهرنا أمرانِ مهمَّانِ فصحة البيئة أمرٌ حتميٌّ لا بديل عنه؛ لذا يجب أنْ تختفي من بيوتنا ومحالِّنَا مستحضراتُ التجميل وأدواتُ العناية الشخصية التي تلوث الكوكب؛ سعيًا نحو تبني أسلوب حياة مستدام.

أما بالنسبة إلى الشركات والعلامات التجارية الكبرى في صناعة مستحضرات التجميل، فقد حان الوقت للبدء في التحول بهذه الصناعة إلى الاستدامة، وجعلها صناعةً صديقةً للبيئةً، صناعة تُجَمِّلُ -بشكل حقيقي- مظهرَ الإنسانِ وتحفظ جمال الطبيعة. ولعل الوعي المتزايد لدى المستهلِك يكون دافعًا مناسبًا لهذه الشركات، حتى تطبق -بشكل جاد- استراتيجيات تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى