مقبرة ثاني أكسيد الكربون.. ما بين الحلول والمخاوف
مقبرة ثاني أكسيد الكربون.. الحلول والمخاوف
أضحى هدفُ السيطرةِ على التغير المناخي أمرًا حتميًّا في ظل تفاقم الاحترار العالمي -وما يتعلق به من ظواهر وكوارث طبيعية- حتى وصل الأمر إلى عَقْدِ المؤتمرات الدولية الدورية لمناقشة ما آلَتْ إليه الأمورُ، وكيف يمكن الحد من هذه التأثيرات السلبية؟ ولعل من أبرز هذه القمم «مؤتمر الأطراف» الذي عُقِدَ مؤخرًا في مدينة شرم الشيخ.
هذه التحديات الكبيرة -التي فرضها تغير المناخ- خلقتْ مناخًا موازيًا من الإبداع والتفكير والبحث العلمي؛ لإيجاد حلول مبتكرة في معالجة مشكلة غازات الاحتباس الحراري، والتي من أشهرها غاز ثاني أكسيد الكربون. ولعل من أبرز هذه الحلول التي برزت مؤخرًا على الساحة، تقنيات التقاط وتخزين الكربون – Carbon Capture and Storage، أو ما يعرف اختصارًا بـ “CCS”. وسوف نسلط الضوء في هذا المقال على طبيعة هذه التقنية، وأبرز المخاوف المتعلقة بها، وكيف يمكن أنْ يكون لها إسهام في الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري.
ما الغرض من هذه التقنية؟
تعمل هذه التقنية على التقاط وفصل غاز ثاني أكسيد الكربون من مصادر التولد المختلفة، ومِن ثَمَّ تجميعه ونقله؛ حتى يُدْفَنَ في باطن الأرض لتخفيف الحمل والبصمة الكربونية في مختلف الأنشطة، فَتَقِلَّ انبعاثاتُ الغازات الدفيئة.
هذه التقنية ليست أمرًا جديدًا على العلماء، حيث بدأت طرق التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون في الظهور أواخر القرن الماضي. وعلى الرغم من هذا، فإنَّ الحاجز الأكبر أمام تطور هذه التقنية وزيادة الاعتماد عليها هو كيفية التعامل مع الغاز الملتقَط، وكيف يمكن تخزينه، وأين تلك المخازن التي ستحتويه؟ ومِن هذا المنطلق تم اقتراح حقن ثاني أكسيد الكربون في طبقات الأرض الرسوبية -أو في أي نوع من أنواع الطبقات التي تتميز بالمواصفات المناسبة- لتكون مقبرةَ هذا الغاز.
لهذه التقنية أغراض كثيرة، لعل من أهمها الوصول إلى الاستقرار النسبي في تغير المناخ، وهذا عن طريق الإسهام في دعم تحقيق هدف اتفاقية باريس، وهو الحدُّ مِن الاحتباس الحراري دون مستوى درجتينِ فوق معدلات ما قبل الثورة الصناعية، هذا بالإضافة إلى تحقيق صافي انبعاثات صفري في كثير من الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل: الأسمنت، ومحطات إنتاج الطاقة.
تكمن أهمية هذه التقنية أيضًا في الحد من البصمة الكربونية للصناعات التي ينتج عن عملياتها كميات كبيرة من الكربون، وليس فقط نتيجة حرق الوقود. وهي -أيضًا- حَلٌّ سريعٌ لمشكلة الغازات الدفيئة دون الحاجة إلى تغيرات جذرية في البنية التحتية، أو الحاجة إلى تغير محوري في استراتيجيات الطاقة في مختلف الصناعات، حيث تستطيع هذه التقنية التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون من مصادر التلوث مباشرةً، قبل تسلله إلى الغلاف الجوي.
كيف تعمل تقنية CCS؟
يمكن تقسيم طبيعة عمل تقنية التقاط وتخزين ثاني أكسيد الكربون إلى أربع مراحل رئيسية، نسردها لكم فيما يأتي:
أولًا: التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون
عملية التقاط الغاز تتم إما في مرحلة ما قبل الاحتراق -مثلما يحدث في صناعة الأسمدة- حيث يتفاعل أول أكسيد الكربون الناتج عن العمليات الإنتاجية مع بخار الماء لينتج ثاني أكسيد الكربون، ويمكن التقاط الغاز المنبعث في أثناء العملية التصنيعية، ولكن للأمر تكاليفه وعيوبه. وإما عن طريق التقاط ثاني أكسيد الكربون بعد الاحتراق -وهو الأكثر شيوعًا- حيث يتم التقاط الغاز مباشرةً من انبعاثات المداخن في محطات توليد الطاقة أو في مصانع الأسمنت أو الحديد والصلب. كما أنَّ هناك طرقًا لالتقاط ثاني أكسيد الكربون من الهواء الجوي.
عملية الالتقاط تتم عن طريق إمرار عوادم المداخن عبر مذيب أميني لامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون، أو إمرارها من خلال مادة كاوية مثل مادة هيدروكسيد الصوديوم، التي تتفاعل مع ثاني أكسيد الكربون لترسيب كربونات الصوديوم.
ثانيًا: عملية الفصل
بعد التقاط الغاز من العادم يتم فصله -فزيائيًّا- بالضغط أو الحرارة، حيث يتم تسخين كربونات الصوديوم -على سبيل المثال- لإنتاج تيار من ثاني أكسيد الكربون شديد النقاء، ويمكن إعادة تدوير هيدروكسيد الصوديوم مرَّةً أخرى في العملية.
يمكن أيضًا إتمام عملية الفصل بطرق أخرى، مثل الاستعانة ببعض أغشية ذات طبيعة مورفولوجية خاصة، مثل أغشية البلاديوم والأغشية المصنوعة من البوليمر، حيث يُعْتَمَدُ في هذا النهج علَى مَسَامِّيَّةِ ونفاذية تلك الأغشية للغازات المختلفة، وبعد الانتهاء من عملية فصل غاز ثاني أكسيد الكربون ينتقل إلى مرحلة الضغط أو إسالة الغاز؛ حتى يسهل نقله وتخزينه.
ثالثًا: عملية النقل
بمجرد التقاط وفصل ثاني أكسيد الكربون يتم تعريضه لضغط كبير جدًّا، لتحويله إلى حالة شبيهة بالحالة السائلة، حيث يشغل السائلُ مساحةً أقل من الغاز، مما يجعله أسهل في النقل بكميات كبيرة إلى موقع مناسب للتخزين الجيولوجي. وعادة ما يتم النقل عن طريق خطوط الأنابيب التي تعتبر أرخص طرق النقل، كما يمكن النقل عن طريق الشاحنات -مع كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون- في حين أنَّ بعض البلدان تلجَأ إلى النقل باستخدام السفن، ويرجع ذلك إلى موقع الدفن النهائي لثاني أكسيد الكربون، الذي قد يكون -أحيانًا- في قاع المحيط.
رابعًا: التخزين الجيولوجي والحقن في باطن الأرض
من المتعارف عليه في الحقول الجيولوجية أنَّ هناك بعضَ الآبارِ الاستكشافيةِ التي ينتهي المطاف بها فارغةً، دون وجود أي أثر للوقود الأحفوري في منطقة الحفر، وحتى الآبار الإنتاجية ينفد ما بها من ذهب أسود بعد مدة، فتصبح خاويةً في انتظار الردم النهائي. ومن باب الاستغلال الأمثل لتلك النفقات، يمكن حقن غاز ثاني أكسيد الكربون في باطن الأرض على أعماق كبيرة في التكوينات الجيولوجية المناسبة لذلك باستخدام هذه الآبار.
يمكن تخزين ثاني أكسيد الكربون تحت الأرض كمائع فوق حرج (Supercritical CO2)، ونقصد بهذا أنَّ ثاني أكسيد الكربون يمكن أنْ يوجد في حالة بين الحالتينِ السائلةِ والغازيةِ؛ ليتمتع بخصائصَ تجعله لزجًا مثل السائل وكثيفًا مثل الغاز، مما يجعل حجم التخزين المطلوب أقل بكثير مما لو كان الغاز في الظروف القياسية له. ونظرًا إلى ما تتميز به جيولوجيا الأرض من انخفاض في الضغط وارتفاع في درجة الحرارة -مع زيادة العمق في قشرة الأرض- يمكن لثاني أكسيد الكربون المحقون في الأعماق أنْ يبقى في الحالة فوق الحرجة التي أشرنا إليها.
يمكن أيضًا تخزين ثاني أكسيد الكربون في باطن الأرض بطريقة العزل، وهذا الأسلوب يشمل حقن ثاني أكسيد الكربون في القباب الملحية عديمة النفاذية، أو في التكوينات البازلتية، وهذا عن طريق الاستعانة بتقنية التصديع الهيدروليكي، حيث تُخْتَرَقُ تلك الصخورُ بما يشبه طلقات الأعيرة النارية؛ لتتشقق تلك التكوينات من الداخل بشكل هندسي معين، ويتم حقن ثاني أكسيد الكربون في هذه التشققات المتكونة، ثم ينتهي الأمر بسَدِّ الطرف النهائي لتلك المَسَامِّ بطبقة خرسانية غير نافذة.
المخاوف من الاعتماد على هذه التقنية
على الرغم من كون هذه التقنية حلًّا واعدًا في مجابهة التغير المناخي بشكل فوري، فإنَّ هناك كثيرًا من المخاوف المرتبطة بها، لعل أبرزها تسرب ثاني أكسيد الكربون إلى السطح مرَّةً أخرى، وهو أمر كارثيٌّ! كما أنَّ عمليات نقل الغاز الملتقَط ستحمل في طياتها كثيرًا من التحديات، وستتطلب مزيدًا من الإجراءات الوقائية، والحذر في أثناء النقل أو التخزين.
حتى الآن، لا يوجد ما يثبت أنَّ تخزين ثاني أكسيد الكربون في باطن الأرض سيقضي تمامًا على أزمة الاحتباس الحراري، كما أنَّ طبقات الأرض -على المدَى البعيد- ستكون متشبعةً بكميات ضخمة من الغاز؛ وبالتالي فإنَّ هذا الحلَّ ربما لن يكون متاحًا دائمًا، هذا بخلاف أنَّ التوزيع الجغرافي بين مصادر الانبعاث وأماكن الحقن قد يشكل عائقًا آخرَ.
حقن ثاني أكسيد الكربون في طبقات الأرض قد يؤدي إلى زيادة الطاقة الحرارية الجوفية“Geothermal Energy”، وهو ما سيشكل خطرًا لا يقل عن خطر ظاهرة الاحتباس الحراري، كما أنَّ هذه التقنية عند زيادة الاعتماد عليها قد تعمل كالحقنة المخدِّرة، حيث سيستمر الاعتماد على الوقود الأحفوري -نظرًا إلى إمكان احتواء انبعاثاته- بدلًا من تسريع الانتقال إلى طاقة متجددة أرخص وأنظف؛ فهذه التقنية -في نظر الكثيرين- حَلٌّ مؤقت وطارئ، ولا يمكن الاعتماد عليه مدةً طويلة، فكم من المخزون الكربوني قد تستطيع الأرضُ تحمله، وإلى متى؟!
الأمر الآخر الذي يجب علينا ألَّا نغفل عنه، هو أنَّ احتجازَ وتخزينَ ثاني أكسيد الكربون قد يهدد -أيضًا- الأراضي الرطبة ومصادر المياه الجوفية؛ حيث تشكل هذه التجمعات في باطن الأرض بؤرَ تلوثٍ محتملة في جميع الأنظمة البيئية من حولها.
وعلى الرغم من هذه المخاوف كلها فإنَّ أنصارَ هذه التقنية يوضحون أنه بالتطوير المستمر ستصبح هذه التقنية آمنةً للاستخدام، لأنها طريقة مجربة وتعمل بأمان لأكثر من 45 عامًا، كما أنَّ جميع مكونات التقنية من احتجاز الكربون وتخزينه، هي تقنيات حظيت بمساحات واسعة من البحث والدراسة، وقد استُخْدِمَتْ لعقود على نطاق تجاري واسع.
وفي الختام، قد حاولنا في هذا الطرح أنْ نضع أيدينا على الخطوط العريضة لتقنية الـ CCS، ما بين الحلول السريعة التي يمكن أنْ تقدمها، والمخاوف من الاعتماد عليها بشكل كبير، إلا إنَّ الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة لكل حالة، مع الأخذ بعين الاعتبار تلك الجوانب الاقتصادية والاستراتيجيات المناخية طويلة الأجل، ولعلنا نفرد لهذا الموضوع مزيدًا من المساحة في الأعداد القادمة.