هل يدمر الزلزال حلم التنمية؟

هل يدمر الزلزال حلم التنمية؟
في لحظة واحدة، قد يُحدث الزلزال تغيّرًا مفاجئًا في ملامح مدينة كاملة، ويقلب حياة الآلاف رأسًا على عقب، غير أنه لا يأتي دائمًا على هيئة كارثة مدمّرة؛ فكثيرٌ من هذه الهزّات يمرّ دون أثر يُذكر، أو تُحصر تداعياته في نطاق محدود، إلا أن التحدّي يكمن في تلك الحالات التي تتقاطع فيها قوّة الزلزال مع هشاشة البنية التحتية والعمرانية؛ فتُكشف حينها فجأة مواضع الضعف الكامنة في الأنظمة الحضرية والصحية والاقتصادية.
وفي عالم يطمح إلى تحقيق التنمية المستدامة، لا يمكن تجاهل مثل هذه الاحتمالات؛ إذ إن أثر الكارثة لا ينبع من وقوع الظواهر الطبيعية فحسب، وإنما من مدى استعداد المجتمعات لمواجهتها وقدرتها على التعافي، وعلى الرغم من أن هذه الظواهر لا تُدرَج ضمن مسببات الفقر أو التدهور البيئي بشكل مباشر، فإنها تملك من القدرة ما يكفي لتعطيل جهود طويلة الأمد، خاصة حين تداهم مجتمعات لم تُعِدّ العدّة لمثل هذا النوع من المفاجآت.
ومع اتساع رقعة التمدن وانتقال أكثر من نصف سكان العالم إلى المدن، تصبح الزلازل تهديدًا صريحًا لاستدامة الحياة الحضرية نفسها؛ إذ تتقاطع آثارها مع هشاشة التخطيط العمراني وضعف البنية التحتية، مما يجعل أحياءً كاملة عرضة للانهيار في لحظات، وهنا يبرز الدور الحيوي للهدف (11) من أهداف التنمية المستدامة الخاص بالمدن والمجتمعات المحلية المستدامة، الذي يدعو إلى بناء مدن قادرة على الصمود والاستمرار في مواجهة المخاطر؛ مما يؤكد ضرورة اعتماد معايير هندسية وبيئية صارمة تميز بين ما هو مستدام وما هو آيل للسقوط.
وليست البنايات هي ما ينهار فقط تحت وطأة الزلزال، بل تتعرض الصحة العامة أيضًا لهزات عنيفة؛ ففي هذا السياق يتجلى الهدف (3) من أهداف التنمية المستدامة، “الصحة الجيدة والرفاه”، باعتباره أحد أكثر الأهداف تضررًا نتيجة تداعيات الكوارث الزلزالية، حيث تتراوح الإصابات الجسدية بين كسور وجروح عميقة؛ مما يزيد من الحاجة إلى أنظمة صحية مرنة وقادرة على الاستجابة السريعة.
التكيف مع الكوارث لمواجهة تحديات المناخ
أما فيما يتعلق بتغير المناخ، فقد يعتقد البعض أن الزلازل لا تمت بصلة مباشرة لهذا التحدي العالمي الذي يهدد كوكب الأرض برمّته، غير أن الواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو؛ إذ يشير الهدف (13) من أهداف التنمية المستدامة “العمل المناخي”، بوضوح إلى أهمية تعزيز قدرة المجتمعات على التكيف مع الكوارث، سواء كانت ناتجة عن تغيرات مناخية مثل الأعاصير وحرائق الغابات، أو كوارث جيولوجية مثل الزلازل والانفجارات البركانية.
فبالرغم من أن الزلازل لا تُعد من الظواهر الناتجة عن التغير المناخي بشكل مباشر، فإن تأثيراتها غالبًا ما تتفاقم عندما تتزامن مع ظواهر مناخية أخرى، مثل الفيضانات، أو الانهيارات الأرضية، أو ذوبان التربة الجليدية، خاصة في المناطق الهشة بيئيًّا.
وفي بيئات تعاني أصلًا من أزمات مناخية مزمنة، مثل التصحر، أو شحّ المياه، أو ارتفاع درجات الحرارة، لا يكون الزلزال مجرد كارثة جيولوجية طارئة، وإنما قد يتحول إلى عامل حاسم يسرّع من انهيار النظم المجتمعية والاقتصادية، ويزيد من تعقيد المشهد التنموي؛ ففي مثل هذه السياقات الهشة، لا تقتصر الخسائر على الأرواح والممتلكات، وإنما تمتد آثارها لتعمّق فجوات الفقر، وتضعف قدرة المجتمعات على استعادة التوازن البيئي والاجتماعي.
ومن هنا يصبح بناء القدرة على التكيّف مع الكوارث، وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر، وتطبيق معايير هندسية صارمة لمقاومة الهزات الأرضية، وتمكين المجتمعات من الاستجابة السريعة، ركنًا أساسيًّا من أركان أي استراتيجية وطنية لمواجهة آثار التغير المناخي.
وصحيح أنَّ الزلازل لا تنشأ عن تغير المناخ مباشرة، غير أن العلاقة بينهما علاقة تداخل في النتائج لا يمكن إغفالها؛ مما يستوجب مقاربات تكاملية في الحلول، تشمل خطط التكيّف طويلة الأمد، وتمويل المناخ، والتخطيط العمراني المستدام؛ لضمان استدامة الحياة في مواجهة ما هو متغير وما هو مفاجئ على حد سواء.
كيف يبرز الزلزال فجوات العدالة الاجتماعية؟
ومن زاوية أخرى، تكشف الزلازل عن الفجوات الصارخة في العدالة الاجتماعية والاقتصادية؛ لتضع أهدافًا أساسية مثل الهدف (1) القضاء على الفقر والهدف (10) الحد من أوجه عدم المساواة، تحت مجهر النقد والتشكيك؛ فالكارثة لا تطرق جميع الأبواب على قدم المساواة، وإنما تختار ضحاياها غالبًا من بين الفئات الأكثر هشاشة وتهميشًا.
فإنَّ الذين يعيشون في بيوت هشة أو في مناطق عشوائية أو مناطق عشوائيات غير منظمة هم الأكثر عرضة للموت أو التشرد أو فقدان مصدر رزقهم، وفي كثير من المدن تُبنى هذه التجمعات الفقيرة في مناطق جغرافية معرضة أصلًا لمخاطر جيولوجية، دون أن تحظى بأي حماية قانونية أو هندسية؛ مما يجعلها بؤرًا مأساوية للكوارث.
ولا تقف الأزمة عند الخسارة المباشرة في الأرواح والممتلكات، وإنما تمتد لتشمل مسارات التعافي التي غالبًا ما تكون غير عادلة؛ فعندما تضرب الكارثة، تتوجه الموارد بسرعة إلى المناطق الحيوية أو إلى الفئات القادرة على الضغط والمطالبة بحقوقها، في حين تُترك المناطق الفقيرة في دائرة الانتظار، تعاني من البطء في إعادة الإعمار، ونقص الخدمات، وغياب الدعم النفسي والاجتماعي.
من هنا فإن أي خطة طموحة لتحقيق التنمية المستدامة لا يمكن أن تتجاهل البعد الاجتماعي لإدارة الكوارث؛ فالعدالة في الاستجابة ركيزة أساسية لضمان صمود المجتمعات كافة، ولا بد من اعتماد سياسات حماية اجتماعية شاملة، وبرامج تمكين اقتصادي وتعليمي للفئات الهشة، وآليات تمويل عادلة تعطي الأولوية للفقراء في جهود الإغاثة وإعادة الإعمار؛ لأن الاستدامة الحقيقية لا تتحقق إلا عندما يشعر كل فرد -بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية أو الاقتصادية- بأنه جزء من منظومة حماية جماعية لا تترك أحدًا خلف الركب.
وفي ضوء ما تَقدَّم، يتضح أن الزلازل ليست مجرد كوارث طبيعية عابرة، وإنما هي كاشف عميق لجودة التخطيط العمراني، ومدى جاهزية البنية التحتية، وصدق التوجه نحو تنمية مستدامة لا تترك أحدًا تحت الركام، ومن هذا المنطلق، ترى حماة الأرض أن تلك الظواهر الطبيعية توجهنا إلى ضرورة مراجعة أولوياتنا التنموية من زاوية القدرة على الصمود، لا فقط من منظور التوسع والامتداد.







