هل يمكن لإدارة الإشعاعات الشمسية أنْ تشكل مستقبل مكافحة تغير المناخ؟
هل يمكن لإدارة الإشعاعات الشمسية أنْ تُشَكِّلَ مستقبلَ مكافحة تغير المناخ؟
ربما تثير تقنية “إدارة الإشعاعات الشمسية” -التي يُرمَزُ إليها اختصارًا بـ (SRM)- الجدلَ الأكبرَ بين جميع الاستراتيجيات المقترحة للوقاية من تغير المناخ، وبالرغم من هذا -وكما يناقش أحدث تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)- فإنَّ آثارَ الاحْتِرَارِ العالميِّ تستمر في أنْ تصبح أكثر جذرية من أي وقت مضى؛ وبالتالي يجب أنْ تصبح جهودنا أيضًا متنوعةً ومبتكرةً للتعاطي معها.
في ظل معدل الزيادة الحالية للاحْتِرَارِ العالميِّ، أصبح واضحًا أنَّ استراتيجيات الحد من الانبعاثات لن تكون كافيةً وحدها لمنع الآثار الشديدة الناتجة عن تغير المناخ التي نواجهها الآن؛ لذا يتجه المجتمعُ العلميُّ إلى بحث وتطوير تقنيات هندسة إدارة الإشعاعات الشمسية، باعتبارها طريقةً تكميليةً محتملةً للحد من الاحتباس الحراري.
الهندسةُ الشمسيةُ -أو إدارة الإشعاعات الشمسية (SRM)- نوعٌ من هندسة المناخ. والفكرة مِن وراء هذه التقنية هي عكس ضوء الشمس (الإشعاع الشمسي) إلى الفضاء الخارجي مرَّةً أخرى؛ وذلك للحدِّ مِن تغير المناخ الذي يسببه الإنسان.
مفهوم إدارة الإشعاعات الشمسية
يدخل كل يوم تيارٌ مستمرٌّ مِن الأشعة فوق البنفسجية قصيرة الموجة إلى الغلاف الجوي للأرض، وتعكس الغيوم وجسيمات الغلاف الجوي نسبةً صغيرةً مِن هذه الأشعة إلى الفضاء مرَّةً أخرى، وحينها يخترق الباقي سطحَ الأرضِ، حيث يتم امتصاصه؛ ومِن ثَمَّ إعادة إشعاعه كإشعاع طويل الموجة (أشعة تحت الحمراء).
التغير الكبير في الطول الموجي -إضافةً إلى الكثافة العالية لغازات الاحتباس الحراري في الطبقة السفلى من الغلاف الجوي، التي تمتص هذه الموجات، ثم تعيد إطلاقها بشكل عشوائي في الاتجاهات جميعها – يفسر الزيادات الكبيرة في درجات الحرارة التي وجدتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.
نظرية عمل إدارة الإشعاعات الشمسية بسيطة للغاية، وهي عكس الأشعة فوق البنفسجية في ضوء الشمس مَرَّةً أخرى إلى الفضاء قبل أنْ تتحول إلى إشعاع طويل الموجة قابل للامتصاص، وذلك عن طريق زيادة الخصائص الانعكاسية للأسطح المختلفة. ومن الأمثلة علَى ذلك: الهندسة الوراثية للمحاصيل، لإنتاج أوراق أكثر لمعانًا، أو استخدام الطلاء الأبيض علَى الأسطح، نظرًا إلى قدرته علَى عكس الضوء.
تبييض السحب البحرية
كما أشرنا، فإنَّ إدارة الإشعاعات الشمسية هي تقنية لا تزال تحت التطوير والبحث، وبالرغم من هذا فإنَّ الاستراتيجيتينِ الأكثر مناقشةً هما: “تبييض السحب البحرية” و”الحقن الستراتوسفيري للهباء الجوي”، اللَّتَانِ تعملانِ في الغلاف الجوي باعتبارهما وسيلتينِ إلى زيادة قدرة الأرض علَى عكس الضوء (الوضاءة). وتختلف الوضاءة (Albedo) عن الانعكاسية (Reflectivity) بأنَّها قدرة الأجسام علَى عكس جميع الأشعة الكهرومغناطيسية الساقطة عليها باختلاف أطوالها الموجية، كما تمثل النسبة بين إجمالي الأشعة الساقطة علَى سطح ما والأشعة المنعكسة منه.
الاستراتيجية الأولى -وهي “تبييض السحب البحرية”، وبالإنجليزية “marine cloud brightening”- تعمل على جعل السحب التي تعلو المحيطات والبحار أفتح؛ وبالتالي زيادة قدرتها على عكس أشعة الشمس مرَّةً أخرى إلى الفضاء؛ وهذا عن طريق تركيب أنظمة رش قوية فوق السفن، أو فوق المحطات العائمة، لتدفع مياه المحيطات والبحار المالحة نحو السحب والغيوم.
السحب في ذاتها عاكس جيد لأشعة الشمس، بسبب ما تحتوي عليه من قطرات صغيرة من المياه، وكلما كانت هذه القطرات المكونة للغيوم أصغر كانت قدرتها على عكس الضوء أكبر، كذلك كلما زاد عدد هذه القطرات الصغيرة زادت -أيضًا- قدرة الغيوم على عكس الأشعة، ولكن حتى تتكون المزيد من قطرات المياه فإنها تحتاج إلى ما يُعرفُ بـ “نوى التكاثف” أو “بذور السحاب”، وهي جزيئات صغيرة الجحم جدًّا تسمح لقطيرات المياه بالتَّكَوُّنِ فوقها.
الفكرة هي أنه عند إضافة الهباء (Aerosols) إلى الغلاف الجوي في أماكن تَكَوُّنِ السحب، تعمل الذرات الدقيقة العالقة في الهباء باعتبارها “نوى تكاثف” تسمح بتكون مزيد مِن قطرات المياه الصغيرة؛ وبالتالي زيادة وضاءة السحب والغيوم.
هذه الطريقة مرتبطة بالبحار والمحيطات، بسبب انخفاض -أو غياب- الأتربة والملوثات الهوائية فوقها؛ ومِن ثَمَّ نقص في عدد الجسيمات التي تعمل باعتبارها “نوى تكاثف”، ولكن عند رَشِّ المياه المالحة بقوة تعمل حبيبات الملح أيضًا باعتبارها “نوى تكاثف”.
الحقن الستراتوسفيري للهباء الجوي
إنَّ حقنَ الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير “stratospheric aerosol injection”طريقةٌ مقترَحةٌ للهندسة الشمسية (إدارة الإشعاعات الشمسية)؛ لتقليل الاحْتِرَارِ العالميِّ. تعمل هذه الاستراتيجيةُ عن طريق إدخال الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير لزيادة “الإعتام العالمي”، وبالتعبية وضاءة كوكب الأرض، وذلك كما يحدث بشكل طبيعي في السحب الضخمة، التي تصدر عن الانفجارات البركانية.
الحقن الستراتوسفيري للهباء الجوي (SAI) يعمل عن طريق حقن جزيئات عاكسة مباشرة في طبقات الغلاف الجوي العلوي، وهو الأمر الذي يحاكي العمليات الطبيعية نفسها، فعلى سبيل المثال أدى اندلاع بركان جبل بيناتوبو بالفلبين في عام 1991 إلى إطلاق قوي لـ 20 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت العاكس للشمس؛ مما أدى إلى انخفاض متوسط درجة الحرارة العالمية بمقدار 0.5 درجة مئوية خلال الأشهر الثمانية عشر التالية.
ولكن لعمل ذلك بشكل بشري مدروس، فمن المرجح أن يتم استخدام أسطول من الطائرات التي تحلق على ارتفاعات عالية، وذلك لحقن الجزيئات العاكسة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، مثل كربونات الصوديوم أو الجسيمات النانوية كبدائل محتملة لثاني أكسيد الكبريت.
العوائق أمام التطبيق الفعلي
على الرغم من كونها تقنيةً واعدةً سريعةً وفعَّالةً من حيث التكلفة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، فإنَّ هناك جدلًا كبيرًا محيطًا بها؛ نظرًا لما تمثله من تلاعب متعمد بمناخ الأرض، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى اختلال التوازي المناخي الهش بالفعل، حيث تعاني عديد من المناطق حول العالم من تغير أنماط المطر وحتى الجفاف، ناهيك عن نضوب الأوزون، بالإضافة إلى أن حجب ضوء الشمس عن قطاعات كبيرة من المحيطات قد يهدد الحياة أسفلها.
يجب الاعتراف بأنَّ إدارة الإشعاعات الشمسية لا تعالج زيادة مشكلة انبعاثات غازات الاحتباس باعتبارها السبب الجذري للاحترار العالمي، ولكنها بدلًا من هذا تعوض آثارها بالضبط كما يفعل الدواء المسكن، يمنع الألم بشكل فوري وسريع، ولكنه لا يعالج أصل المشكلة.
المشكلة الأخرى هي أنَّ إدارة الإشعاعات الشمسية قد تمثل ثوب التخفي المثالي للمصالح المرتبطة باستمرار الاعتماد على الوقود الإحفوري، ولكن في نهاية المطاف تبقى هذه التقنية أحد الحلول الواعدة التي يمكن دمجها في ضوء سياسات صارمة نحو الحد من الانبعاثات، لكن بكل تأكيد فإن الاعتماد عليها كخيار رئيسي هو أمر غير قابل للطرح من الأساس.