طريقة جديدة للتكرير الحيوي تعمل علَى استغلال مخلفات “اللجنين” الزراعية والصناعية
طريقة جديدة للتكرير الحيوي تعمل علَى استغلال مخلفات “اللجنين” الزراعية والصناعية
طور باحثون من جامعة نورث وسترن – إلينوي عمليةً مستدامةً وغير مكلفة من خطوتينِ، يمكنها إعادة تدوير نفايات الكربون العضوية، بما في هذا مادة “اللجنين”، وهي مادة يصعب تفكيكها، وتدخل في التركيب الهيكلي للنباتات. عملية المعالجة التي طورها الباحثون تشمل التكرير الحيوي المدعوم بالميكروبات؛ وذلك لتحويل اللجنين إلى مصادر كربونية أخرى يمكن استخدامها في المستحضرات الصيدلانية عالية القيمة المشتقة من النباتات، أو المكملات الغذائية المضادة للأكسدة، وكذلك الجسيمات النانوية القائمة علَى الكربون؛ لتوصيل الأدوية أو المواد الكيميائية (Drug Delivery).
واللجنين (Lignin) مركب كيميائي غير متجانس وشديد التعقيد، وهو المسئول -بشكل أساسي- عن الصلابة الميكانيكية لجدران الخلايا؛ وبالتالي النبات ككل، حيث يعمل باعتباره المادة الرابطة للهيكل البنائي للنبات. لتبسيط الأمر، يمكننا تشبيه اللجنين وخلايا النبات بالأسمنت والطوب علَى الترتيب؛ لذا يُسْتَخْرَجُ اللجنين بشكل أساسي من الأخشاب، حيث يمثل بها نسبة تتراوح بين 25 – 35% من إجمالي الكتلة الجافة.
من الناحية الكيميائية، لا يوجد لـ”للجنين” تركيب كيميائي ثابت، إلا إنه يمكن وصفه بمجموعة من الحلقات الأروماتية المترابطة ببعضها، وهو بوليمر طبيعي قوي للغاية، وبطيء في التحلل، ويتكون بشكل أساسي من الكربون، كما أنه مُقَاوِمٌ -بشكل كبير- للبكتيريا والعفن، ويتميز بدرجات لون بين الأسود والبني. ومن الناحية الصناعية، يتم استخراج وفصل اللجنين من الخشب باعتباره مخلَّفًا؛ وذلك لتصنيع مختلف المنتجات الورقية، فبدون اللجنين يتحول الخشب البني الصلب إلى لفائف بيضاء مرنة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا يحدث للكميات الهائلة من نفايات اللجنين الناتجة عن الأراضي الزراعية ومصانع التخمير والمنتجات الورقية؟ للأسف الشديد يتم حرق أو دفن معظمها! ما يؤدي إلى التلوث وإهدار مورد متجدد محتمل.
تحويل المُخَلَّفِ إلى مصدر قيمة
لحسن الحظ، طور باحثو جامعة نورث وسترن عمليةً مستدامةً وغير مكلفة من خطوتينِ، يمكنها إعادة تدوير نفايات الكربون العضوية، بما في ذلك اللجنين، من خلال معالجة هذه النفايات بالتكرير الحيوي المدعوم بالميكروبات، حيث تمكن هؤلاء الباحثون من تحويل اللجنين إلى مصادر كربونية يمكن استخدامها في المستحضرات الصيدلانية عالية القيمة المشتقة من النباتات، وفي المكملات الغذائية المضادة للأكسدة، وكذلك في الجسيمات النانوية القائمة علَى الكربون؛ لتوصيل الأدوية أو المواد الكيميائية. وقد ظهرت الدراسة علَى غلاف عدد يناير من “مجلة الكيمياء والهندسة المستدامة ACS”.
عملية التكرير الحيوي هي عملية تشبه في ذاتها عملية تكرير البترول، إلا إنها معنية بتحويل الكتلة الحيوية إلى طاقة ومركبات ثانوية مفيدة.
وقالت “كيمبرلي جراي” من جامعة نورث وسترن، والتي قادت البحث: «من المفترض أن يكون لـ”للجنين” قيمة هائلة، لكن يُنْظَرُ إليه بشكل عامٍّ باعتباره مُخَلَّفًا نحتاج التخلص منه. يشكل اللجنين 20 – 30٪ من الكتلة الحيوية، وهي كمية كبيرة، لكن من الصعب الاستفادة منها. ولقد جعلت الطبيعة اللجنين شديدَ المقاومةِ للمعالجة، لدرجة أنَّ الناسَ لم يتوصلوا إلى كيفية استخدامه، ويحاول الباحثون حل هذه المشكلة منذ عقود؛ ولكن قمنا -عن طريق محاكاة طريقة عمل وحدات تكرير البترول- بتطوير وحدة تكرير بيولوجي، تأخذ النفايات العضوية وتُخرج منتجات عالية القيمة».
ومن الجدير بالذكر، أنَّ “كيمبرلي جراي” هي رئيس قسم الهندسة المدنية والبيئية في جامعة نورث وسترن، بالإضافة إلى كونها أستاذًا في الهندسة الكيميائية والبيولوجية.
اللجنين مادة بناء طبيعية
يعد اللجنين أحد أكثر البوليمرات العضوية الطبيعية وفرةً في العالَمِ، حيث نجده في النباتات الوعائية جميعها. ويوفر اللجنين الموجود بين جدران خلايا النباتات القوةَ والمتانةَ الميكانيكيةَ لهياكلها، فبدون اللجنين يصبح الخشب واللحاء أضعف مِن أنْ يدعِّمَا الأشجارَ، ولن نصبح قادرينَ علَى استخدام الأخشاب في بناء المنازل، أو حتى في صنع الأثاث.
معظم الصناعات التي تستخدم النباتات -مثل صناعة الورق، وصناعات التخمير- تزيل اللجنين؛ وذلك للحصول علَى “السليلوز” (أحد أنواع السكر)، وبدلًا من استخدام هذه المادة الطبيعية شديدة المقاومة يتم حرقها باعتبارها وقودًا رخيصَ الثمن.
وقالت “جراي”: «البشر يريدون التخلص من هذه المادة للوصول إلى السكريات. إنهم يخمرون السليلوز لصنع الكحول، أو يعالجونه لصنع اللب والورق، ثم ماذا يفعلون؟ إنهم يحرقون اللجنين باعتباره وقودًا منخفض الجودة، وهذا إهدار حقيقي لمورد محتمل».
خلية وقود تعمل بالبكتيريا
لتطوير عملية التكرير الحيوي حتى تكون قادرةً علَى تفكيك نفايات الكربون صمم باحثون في البداية خليةَ تحليلٍ كهربائي ميكروبية (MEC). وعلَى غرار خلية الوقود، تتبادل خلية التحليل الميكروبية الطاقةَ بين الأنود والكاثود، ولكن بدلًا من استخدام الأنود المصنوع من المعادن، نجدُ أنَّ الأنود الحيوي في نورث وسترن متكون من نوع خاص من البكتيريا (Exoelectrogens)، التي تولد الكهرباء بشكل طبيعي عن طريق التهام (أكسدة) المواد العضوية.
وقال المُؤَلِّفُ المشاركُ في الدراسة “جورج ويلز”: «تعمل الميكروبات باعتبارها عاملًا مساعدًا، بدلًا من استخدام المحفزات الكيميائية، التي تكون -غالبًا- باهظةَ الثمنِ، وتتطلب درجات حرارة عالية».
تكمن ثورية خلية التحليل الكهربية الميكروبية هذه في قدرتها علَى معالجة أي نوع من النفايات العضوية، سواء البشرية منها، أم الزراعية، أم الصناعية. تقوم “MEC” أيضًا بمعالجة المياه المملوءة بالنفايات عبر البكتيريا التي تلتهم الكربون، حيث يتحلل الكربون العضوي إلى ثاني أكسيد الكربون، ثم تتنفس البكتيريا الإلكترونات بشكل طبيعي.
خلال هذه العملية، تتدفق الإلكترونات المستخرَجة من الأنود الحيوي إلى الكاثود، والذي يكون مصنوعًا من قماش الكربون؛ ليقوم باختزال الأكسجين وتوليد الماء. تستهلك هذه العملية البروتونات، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة الحموضة في الماء، وتحويلها إلى محلولٍ كاوٍ يمكن استخدامه بعد ذلك في عدد من التطبيقات، بما في ذلك معالجة مياه الصرف.
وقال “ويلز”: «فائدة أخرى لهذه العملية، هي أنها تعالج مياه الصرف بشكل فَعَّالٍ، لإزالة الكربون العضوي الضار؛ لذلك فإنَّ الماءَ النظيفَ أحدُ المنتجات الرئيسية لهذا العملية».
أخذ الباحثون -بعد ذلك- المادةَ الكاويةَ الناتجة عن العملية السابقة، ووجَّهوا انتباههم مَرَّةً أخرى إلى اللجنين. مركبات اللجنين متينة، لأنها تحتوي علَى سلاسل معقدة مترابطة من الكربون الأروماتي، والتي تتميز بنمط خاص في الترابط يعتمد علَى الحلقات الأروماتية السداسية، حيث تتكون كل حلقة من روابط مزدوجة ومفردة متناوبة، ما يجعلها صعبةَ التكسيرِ بشكل لا يصدق.
كسر الروابط غير القابلة للكسر
عندما عرَض الباحثون اللجنين علَى المادة الكاوية الحيوية، تفككت بوليمراته بطريقة تحافظ علَى ترابط الحلقات الأروماتية، حيث وجدوا أنَّ حوالي 17٪ من اللجنين المعالج قد تحول إلى حلقات من الكربون تسمى “الفلافونيد”، وهي مادة مغذية غنية بمضادات الأكسدة، وتوجد -غالبًا- في المكملات الغذائية. تستخدم هذه الحلقات الأروماتية الناتجة أيضًا -بشكل شائع- في الكيمياء الطبية، ويمكن استخدامها كمشتقات نباتية وبدائل مستدامة للأدوية والمكملات رخيصة الثمن.
قالت “جراي”: «الطريقة المبتكرة تكسر روابط البوليمر بين الحلقات، ولكنها تحفظ تركيب الحلقات ذاتها بشكل انتقائي. وإذا كان بإمكانك الحفاظ علَى هذه الحلقات الأروماتية، فيمكنك حينئذٍ صنع مواد عالية القيمة. قبل ذلك طوَّر الكيميائيون محفزات تفكك اللجنين بأكمله، وكان يتعين عليهم بعدها إعادة بناء الحلقات الأروماتية للاستفادة منها، لكننا تمكنا من تفكيك اللجنين بشكل انتقائي؛ للحفاظ علَى هذه الحلقات».
وقد تحولت النسبة المتبقية من اللجنين المعالَج (حوالي 80٪) إلى جزيئات نانوية قائمة علَى الكربون، حيث يمكن استخدامها لتشمل مواد توصيل الأدوية المستهدفة للبشر (Targeted Drug Delivery)، أو توصيل المغذيات المستهدفة في النباتات ((Targeted nutrient delivery. يمكن أن توفر الجسيمات النانوية أيضًا بديلًا مستدامًا مشتقًّا من النباتات لواقيات الشمس ومستحضرات التجميل.
قال “ويلز”: «من المثير تحديد واستكشاف طريق لاستعادة الموارد بشكل مستدام من النفايات. ولدينا كميات ضخمة من مياه الصرف ومخلفات اللجنين التي تحتاج إلى تكلفة عالية لمعالجتها؛ لذا نحاول إعادة تخيل هذه النفايات كمصادر للقيمة».
استعادة الموارد بدون مواد كيميائية خطرة
علَى الرغم من أنه كان بإمكان الباحثين استخدام أي مادة كاوية متوفرة تجاريًّا لمعالجة اللجنين، إلا إن نهجهم القائم علَى استخدام المادة الكاوية -الناتجة عن خلية التحليل الكهربي الميكروبية- له عديد من المزايا؛ فمن ناحية، تُعدُّ المادة الكاوية الناتجة مادةً كيميائيةً خضراءَ، نظرًا إلى كونها مُسْتَعَادَةً مِن مُخَلَّفٍ. ومن ناحية أخرى، تعتبر هذه المادة الكاوية أكثر أمانًا وأقل تكلفة، كما يمكن توليدها عند الحاجة.
وأضاف “ويلز”: «هناك عديد من المواد الكاوية، مثل هيدروكسيد الصوديوم، الذي يشيع استخدامه في عديد من العمليات الصناعية ومعالجة مياه الصرف، لكن الاعتماد عليه سيعني -بالضرورة- عمليات شحن وتخزين كميات كبيرة من المواد الكيميائية السامة. ليس هذا مكلفًا فحسب، بل إنه يشكل أيضًا خطرًا علَى الصحة العامة؛ لذا فالمادة الكاوية المولدة حيويًّا من النفايات تعتبر أكثر أمانًا واستدامةً. ميزة أخرى، هي تجنب الاعتماد علَى سلاسل التوريد لتأمين احتياجات هذه العملية من المواد الكيميائية، حيث إنَّ الطريقةَ المبتكرةَ تمنحنا المرونةَ والقدرةَ علَى التكيف؛ لتوليد المواد الكيميائية اللازمة عند الحاجة إليها».