إمدادات مستدامة من السكر تفتح آفاقا جديدة للتصنيع الحيوي
إمدادات مستدامة من السكر تفتح آفاقا جديدة للتصنيع الحيوي
نجح باحثون في التصنيع الحيويّ من خلال استخدام السكر المُحضَّر كيميائيًّا لأول مرَّة في العالم. ومع تحسين هذه التكنولوجيا، يمكن للمرء أنْ يتصور مستقبلًا يمكن فيه الحصول على السكَّر اللازم للتصنيع الحيويّ، في أيّ وقت وفي أيّ مكان وبمعدل مرتفع؛ ما يعني تحقيقَ عددٍ من أهداف التنمية المستدامة، خصوصًا الهدف التاسع: الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية، والهدف الثاني عشر: الاستهلاك والإنتاج المسئولان.
في المستقبل، من المتوقع أنْ يؤدي التصنيع الحيويّ باستخدام السكَّر المُصنَّع كيميائيًّا إلى تغيير قواعد اللعبة في مجال التكنولوجيا الحيوية، بما في هذا إنتاج المواد الكيميائية الحيوية والوقود الحيويّ والغذاء، حيث يُعدُّ السكرُ مادةً خامًا أساسيةً؛ مما سيؤدي في النهاية إلى إنشاء نظام جديد للتصنيع الحيويّ.
ولمِن لا يعلم فالتصنيع الحيويّ أو Biomanufacturing هو نوع من التكنولوجيا الحيوية، يهدف إلى استغلال الأنظمة الطبيعية لإنتاج مواد ومُركبات حيوية مهمة، يمكن بيعها على نطاق تجاريّ؛ للاستخدام في عديد من القطاعات مثل القطاع الطبيّ.
أما عن السكَّر فلا يتبادر إلى أذهانكم أنَّ المقصودَ به هو السكَّر التقليديّ فقط -الذي نستخدمه لتحلية مشروباتنا ومأكولاتنا- وإنما السكرُ في الكيمياء مصطلح يُطلَقُ على عائلة كبيرة من المُركبات، التي يتم استخلاصها -عادةً- مِن بعض المحاصيل، ويتم استخدامها في تطبيقات صناعية عديدة، مثل إنتاج الوقود، وتصنيع المُركبات الكيميائية.
إنجاز علميّ يتغلب على مشكلات سكر الكتلة الحيوية
التصنيع الحيويّ باستخدام السكَّريات المشتقة من الكتلة الحيوية “Biomass” مثل الذرة، أصبح يجذب الانتباه مؤخرًا، باعتباره تكنولوجيا صديقةً للبيئة. ومع ذلك، فإنَّ الكميات التي يمكن توفيرها من سكريات الكتلة الحيوية التقليدية محدودةٌ، مقارنةً بالطلب الكبير على إنتاج الوقود والمنتجات الكيميائية المختلفة؛ ما يؤدي إلى وجود مخاوف كبيرة بشأن تأثير التوسع الصناعيّ في سلال الغذاء، نظرًا إلى اعتماد هذه التكنولوجيا على استغلال المحاصيل الزراعية نفسها، التي تدخل في الصناعات الغذائية، وهي مشكلة كبيرة تحتاج إلى حَلٍّ.
في دراسة نُشِرَتْ مؤخرًا في دورية “ChemBioChem” العلمية، قام باحثون من جامعة “أوساكا” بتطوير تكنولوجيا مبتكرة للتصنيع الحيويّ، باستخدام السكَّريات غير الطبيعية المصنعة كيميائيًّا في المعمل، باعتبارها المادةَ الخامَ لحل المشكلة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة.
وباستخدام البكتيريا (Corynebacterium glutamicum، C. glutamicum)، نجح الباحثون في إنتاج مُخمَّر اللاكتات (lactate)، باستخدام محاليل السكَّر المُحضَّرة معمليًّا دون أيّ مساعدة من مصادر حيوية. وهذه هي الحالة الأولى في العالم التي يتم فيها التصنيع الحيويّ باستخدام السكَّر المصنع معمليًّا باعتباره مادةً خامًا.
هذا الإنجاز العلميّ الكبير سيمكننا في المستقبل من توفير احتياجاتنا من السكر الخام اللازم لعملية التصنيع الحيويّ، وهذا دون التأثير في المحاصيل الزراعية؛ وهو ما يعني اتساع رقعة التصنيع الحيويّ دون تعريض سلال الغذاء العالمية لأيّ أخطار.
مميزات السكر الصناعيّ الجديد
في الوقت الحاليّ، يعتمد التصنيع الحيويّ على الجيل الأول من الكتلة الحيوية، ونقصد بهذا الجيل الحاصلات الزراعية مثل الذرة وقصب السكر، وهو الاعتماد الذي سيتعارض -حتمًا- مع الطلب المتزايد على الغذاء، مهددًا بذلك الأمن الغذائيّ العالميّ، خصوصًا في ظل الطلب المتزايد على منتجات التصنيع الحيويّ، مثل الوقود والمواد الكيميائية المختلفة.
علاوةً على ذلك، فإنَّ التوسعَ في إنتاج السكر من خلال الزراعة على نطاق واسع له جوانب سلبية في حد ذاته، مثل استخدام الأراضي، والاستهلاك الهائل للموارد المستنفدة مثل المياه العذبة والنيتروجين والفوسفور، أضفْ إلى ما سبق تلوثَ المياه وفقدانَ التنوع البيولوجيّ. والآن، تُجري المجموعةُ البحثيةُ عديدًا من التجارب حول السكر المُصنَّع كيميائيًّا، والذي لا يعتمدُ على الزراعة؛ وهذا لتطويعه في مختلف تطبيقات التصنيع الحيويّ.
يتميز السكر المُحضَّر كيميائيًّا عن السكر المستخلص من المحاصيل الزراعية بكثير من الخصائص، أهمها معدل التصنيع المرتفع، فلسنا في حاجَةٍ إلى الزراعة والانتظار شهورًا، ثم تحويل الحاصلات الزراعية إلى المصانع لاستخلاص السكر؛ فالطريقة الكيميائية الجديدة أسرع بمئات المرَّات.
ولا يحتاج السكر المُحضَّر معمليًّا -بالإضافة إلى ما سبق- إلى استهلاك كميات هائلة من المياه، مثل العمليات الزراعية، ناهيك بعدم الحاجَةِ إلى استغلال مساحات شاسعة من الأراضي، ولا الحاجَةِ إلى العناصر الغذائية مثل النيتروجين والفوسفور، وهي العناصر التي تعتمد عليها المحاصيل بشكل أساسيّ.
إعادة صياغة فهمنا للتصنيع الحيويّ
كل ما سبق لا يعني خلو السكريات المصنعة كيميائيًّا من العيوب، حيث تعتبر هذه السكرياتُ مخاليطَ تحتوي على عديدٍ من المُركبات الكيميائية غير الموجودة في الطبيعة من الأساس؛ لذا كانت هناك تحديات في استخدام محاليل السكر غير الطبيعية هذه في العمليات الحيوية، مثل وجود عوامل تمنع نمو البكتيريا اللازمة للعملية التصنيعية.
ولمعالجة ما سبق، أنشأ فريقُ البحثِ طريقةً مستقرةً للإنتاج باستخدام السكر المُصنَّع كيميائيًّا، باعتباره ركيزةً أساسيةً، مع استخدام بكتيريا C. glutamicum، باعتبارها بكتيريا نموذجيةً. كما حددوا العواملَ المثبطةَ للنمو في محلول السكر المُحضَّر، وأظهروا أنه يمكن إزالتها عن طريق المعالجة الحفزية الثانوية.
علاوةً على ذلك -ومن خلال إجراء عمليات التخمير في ظل ظروف محدودة الأكسجين- نجحوا في إنتاج مُخمَّر اللاكتات باستخدام محلول سكر مُصنَّع، على الرغم من غياب هذه المُركبات في الطبيعة، وهذه هي الحالة الأولى في العالم التي يتم فيها التصنيع الحيويّ باستخدام السكر المُصنَّع معمليًّا، دون الاعتماد على أيّ مصدر طبيعيّ.
تُشير النتائج الواعدة لهذا البحث إلى أنه يمكن استخدام السكر المُصنَّع كيميائيًّا باعتباره مادةً خامًا جديدةً للتصنيع الحيويّ، نظرًا إلى إمكانية إنتاجه بكميات كبيرة، وفي أيّ مكان، ودون التأثير في سلاسل الغذاء؛ وهو ما يعني إعادة صياغة فهمنا لعملية التصنيع الحيويّ بشكل كليّ، ما سيفتح المجال أمام التوسع في هذه الصناعة بشكل مستدام، يلبي كل احتياجات الحاضر، ويحفظ مواردنا للأجيال القادمة.