علوم مستدامة

الذكاء الاصطناعي في مواجهة حرائق الغابات

الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي في مواجهة حرائق الغابات

بينما تزداد درجات الحرارة في نصف الكرة الشمالي وتفقد الغابات قدرتها الطبيعية على المقاومة، يعود موسم حرائق الغابات ليهدد التنوع البيولوجي ويستنزف الموارد. هذه المرة، يدخل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة (Machine learning) على خط المواجهة، فما كان يُعد ظاهرة طبيعية موسمية بات يتفاقم بفعل تغير المناخ وتدهور النظم البيئية، إلى أنْ أصبح أزمة مستمرة تتطلب حلولًا مبتكرة تتجاوز الإمكانيات التقليدية.

ويُعيد هذان الحليفان الجديدان –الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة– رسم ملامح إدارة الكوارث الطبيعة التي من بينها حرائق الغابات؛ إذْ إنهما يوفران أدوات قوية لتحليل المخاطر والتنبؤ بها، والتفاعل السريع مع النيران قبل أنْ تلتهم المزيد من الحياة والأرض. والآن تحولت مكافحة الحرائق من عملية معقدة ومتأخرة إلى منظومة ذكية قادرة على توقع اللهب قبل أنْ يندلع، وهذا من خلال الاعتماد على صور الأقمار الصناعية، وبيانات الطقس، وغيرها من الأدوات التكنولوجية.

مِن هنا، سوف تجيب حماة الأرض عن سؤال: كيف يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل أساليب مكافحة الحرائق، وكيف تتكامل هذه الابتكارات مع أهداف التنمية المستدامة، خصوصًا الهدف الثالث عشر المتعلق بالعمل المناخي، والهدف الخامس عشر المتعلق بالحياة على الأرض؛ فتابعوا القراءة.

حرائق تتجاوز التوقعات

تشير التقديرات إلى أنَّ مساحة الغابات التي تلتهمها النيران -سنويًّا- قد تضاعفت أربع مرَّات بين عامي 2001 و2023، وهذا دفع العلماء والمبتكرين إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في رصد الحرائق والتنبؤ بها، والحد من امتدادها الكارثي.

ومِن أحدث هذه الكوارث وأبرزها ما جرى في بداية عام 2025، حيث ضربت سلسلة من حرائق الغابات المدمرة مدينة لوس أنجلوس ومقاطعة سان دييجو الأمريكية، مدفوعةً برياح عاتية وفترات جفاف طويلة، وقد أودت هذه الحرائق بحياة ما لا يقل عن 30 إنسانًا، وأجبرت مئات الآلاف على الفرار من منازلهم، ودمرت أكثر من 16 ألف مبنى.

ومثل هذه الكارثة لا تقتصر أضرارها على الأشجار، فهي تمتد لتشمل تلوث المياه، وتآكل التربة، وانخفاض التنوع البيولوجي، والانبعاث الهائل لثاني أكسيد الكربون؛ فكل موسم من مواسم الحرائق يُسجل خسائر اقتصادية تفوق 50 مليار دولار أمريكي، بالإضافة إلى التأثيرات النفسية والصحية على المجتمعات المتضررة.

الذكاء الاصطناعي خط دفاع أول

في مواجهة خطر حرائق الغابات المعقّد والمتسارع، بدأت المنظمات البحثية، وفرق الطوارئ، والشركات التقنية في تبني أدوات الذكاء الاصطناعي لتكون خط الدفاع الأول ضد هذه الكارثة، وذلك بالاعتماد على فهم “مثلث النار“، المكوّن من مصدر اشتعال، ومصدر وقود، وتوفر الأكسجين؛ وهي العوامل التي إذا توفرت اشتعلت الكارثة.

ويأتي هنا دور أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على تحليل البيانات البيئية بدقة متناهية، مستفيدة من صور الأقمار الصناعية، وتقارير الأرصاد الجوية، وخرائط الغطاء النباتي، والتاريخ السابق للحرائق، إلى جانب المعطيات البشرية، مثل الكثافة السكانية واستعمالات الأراضي. وكلما زادت كمية البيانات زادت دقة الخوارزميات؛ مما يجعل الذكاء الاصطناعي أداة تتطور مع كل موسم.

تحليل البيانات البيئية بدقة متناهية، مستفيدة من صور الأقمار الصناعية، وتقارير الأرصاد الجوية

في تركيا -على سبيل المثال- نجحت مبادرة “فاير إيد” (FireAid) في تطوير خريطة حرائق تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهي خطة تتنبأ بالحريق قبل 24 ساعة بنسبة دقة تصل إلى 80%؛ مما يمنح فرق الإنقاذ وقتًا ثمينًا للاستعداد.

ومن الأمثلة البارزة أيضًا ما نشرته شركة “بانو” (Pano) في أمريكا من مئات الكاميرات الذكية، التي يمكنها رصد علامات الدخان والبؤر الحرارية بدقة، وهي قادرة أيضًا على تنبيه السلطات قبل أنْ يدرك البشرَ الخطرُ.

وأمَّا الأقمار الصناعية فهي صاحبة دور أساسي؛ ففي غابات كاليفورنيا -على سبيل المثال- أسهم التعاون بين إدارة الحرائق وشركة “دراياد” (Dryad) في نشر حساسات كيميائية تستطيع رصد أولى علامات الحريق من الغازات المتصاعدة حتى مع انعدام الرؤية، وهو تقدم بالغ الأهمية في البيئات المعقدة.

من التنبؤ إلى التمكين

ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على التنبؤ المبكر فقط، بل يشمل أيضًا محاكاة حركة النيران واتجاهها وسرعتها؛ فمن خلال نماذج تحليلية تعتمد على التاريخ المناخي، والتضاريس، ونوع الغطاء النباتي، يمكن لمنصات مثل “تكنوسيلفا” (TechnoSylva) مساعدة فرق الإطفاء على تحديد أفضل المواقع لنشر الفرق، وإصدار أوامر الإخلاء، واتخاذ قرارات حيوية لحماية البنية التحتية والسكان.

لكن التحدي لا يقتصر على التكنولوجيا، بل يشمل البنية التحتية والتمويل والثقة؛ فبينما توفر الأنظمة الذكية حلولًا واعدة، فإنَّ اعتمادها بشكل واسع لا يزال يواجه عقبات كبيرة. ومن بين هذه العقبات ارتفاع التكاليف، حيث إنَّ نظامًا واحدًا من كاميرات “بانو” (Pano) يتطلب ميزانية تشغيل سنوية تصل إلى 50 ألف دولار أمريكي، كما أنَّ السياسات العامة تميل إلى الاستثمار في الاستجابة الطارئة أكثر من الوقاية؛ مما يعيق دمج هذه التقنيات في الخطط الوطنية.

الابتكار في خدمة الاستدامة

رغم هذه التحديات، يبقى الذكاء الاصطناعي أحد أبرز أدواتنا لمواجهة حرائق الغابات في ظل الأزمة البيئية العالمية. ولا يمكن لهذا النوع من الابتكارات أن يُحدث تأثيرًا حقيقيًّا إلا في إطار تحول شامل نحو اقتصاد مستدام يعتمد على حلول مبنية على الطبيعة؛ فالذكاء الاصطناعي وحده لا يكفي إنْ لم يُدمج مع جهود حماية التنوع البيولوجي، وإعادة تشجير المناطق المتضررة، وتغيير سياسات استخدام الأراضي.

ولا يخدم الاستثمار في هذه الأدوات الحد من الحرائق، فهو يسهم أيضًا في بناء مجتمعات أكثر قدرة على الصمود، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة مثل الهدف (11) الخاص بالمدن والمجتمعات المحلية المستدامة، والهدف (13) المتعلق بالعمل المناخي، والهدف (15) الخاص بحماية الحياة في البر؛ فمن خلال هذه الابتكارات يمكننا تخفيف حدة الكوارث قبل وقوعها، وإنقاذ الأرواح، وتوفير التكاليف، والحفاظ على رئة الأرض من الاحتراق وأضراره.

وفي الختام، تُذكِّركم حماة الأرض بأهمية الاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة الحرائق؛ لأنَّ الاستثمار في الأدوات المبتكرة يوفر لنا بيئة آمنة، ويحقق -واقعيًّا- أهدافَ التنمية المستدامة في جميع مناحي الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى