خطى مستدامة

الكشري والفول أكلات مصرية بنكهة الاستدامة

الكشري والفول

الكشري والفول أكلات مصرية بنكهة الاستدامة

حين يدور الحديث عن الاستدامة، يتبادر إلى الأذهان غالبًا مشروعات الطاقة النظيفة، أو تغيّر السياسات البيئية، غير أن ما لا يدركه كثيرون هو أن الطريق نحو مستقبل أكثر استدامة يمكن أن يبدأ من أقرب نقطة، من طبق الطعام اليومي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الكشري والفول.

تلك الأكلات المصرية التي نحبها منذ زمن تبين أنها لا تشبع فحسب، وإنما لها دور كبير في حماية كوكب الأرض؛ فطبق الفول الذي نأكله في الإفطار وصحن الكشري يمكن أن يكونا جزءًا من الحل لقضية الاستدامة؛ إذ إن هذه الأكلات تحتوي على مكونات يمكن أن تسهم في تقليل التأثيرات البيئية، إذا تم استهلاكها بشكل مدروس؛ لذلك ستأخذكم حماة الأرض في هذا المقال في جولة لاكتشاف كيف يمكن لهذه الأطباق التقليدية أن تسهم في تحقيق التنمية المستدامة؛ فتابعوا القراءة.

الكشري وجبة شعبية تحمل رسالة خضراء

عند الحديث عن الكشري، تتجه الأذهان فورًا إلى نكهته الشهية ورائحته التي تملأ شوارع القاهرة، غير أن القصة لا تنتهي عند المذاق؛ فهذه الوجبة التي تجمع العدس، والأرز، والمكرونة، والحمص في طبق واحد، تقدم مثالًا عمليًّا على التكامل الغذائي والتوفير الاقتصادي في آن واحد؛ فهي تعتمد على مكونات نباتية منخفضة التكلفة وذات قيمة غذائية عالية، وهذا ما يجعلها مناسبة لجميع فئات المجتمع، ويعزز من مفاهيم الأمن الغذائي وتقليل الفاقد الغذائي.

وقد يبدو الكشري -للوهلة الأولى- مجرد وجبة مشبعة يقبل عليها الناس لشعورهم بالجوع أو لضعف ميزانيته، إلا أن ما لا يدركه الكثيرون هو أن هذا الطبق يجسد مفاهيم الاستدامة من أوسع أبوابها؛ فالكشري المكوّن من عناصر نباتية بالكامل يقدم نموذجًا عمليًّا للاستهلاك المسئول، حيث إن مكوناته متوفرة محليًّا، ما يعني تقليل الاعتماد على سلاسل الإمداد المستوردة، ومن ثم خفض الانبعاثات الكربونية المرتبطة بالنقل والتخزين، بما يخدم الهدف (13) من أهداف التنمية المستدامة المعني بالعمل المناخي.

علاوة على ذلك، يوفر الكشري قيمة غذائية متوازنة بأسعار معقولة؛ مما يسهم بشكل كبير في مكافحة الجوع وتعزيز الأمن الغذائي، بما يتوافق مع الهدف (2) من أهداف التنمية المستدامة، كما أنه يمثل دليلًا على إمكانية تحقيق نموذج غذائي صحي يعتمد على المصادر النباتية، دون تكاليف بيئية أو اقتصادية مرتفعة.

الكشري وجبة شعبية تحقق الأمن الغذائي

ومن منظور الصحة والتغذية يُعتبر الكشري وجبة متكاملة ومتوازنة؛ إذ يحتوي على مكونات غنية بالبروتينات والألياف والفيتامينات؛ مما يساعد في الحفاظ على صحة الجسم ويمنح الشخص الطاقة والنشاط، وبذلك يتماشى الكشري مع الهدف (3) من أهداف التنمية المستدامة، الذي يركز على ضمان الصحة والرفاه للجميع.

إلى جانب ذلك يمثل الكشري نموذجًا للمساواة، حيث يتمتع به الجميع بغض النظر عن خلفياتهم الاقتصادية؛ فتجد الطبق ذاته يُباع في الأكشاك الشعبية كما في المطاعم الفاخرة، في تعبير صادق عن التكافل المجتمعي والعدالة الغذائية، وهذا ما يتفق مع جوهر الهدف (10) من أهداف التنمية المستدامة “الحد من أوجه عدم المساواة”.

الفول غذاء يعزز الاستدامة

أما الفول فقصته مع الاستدامة لا تقل أهمية عن الكشري؛ إذ يُعتبر من الأغذية الأساسية في المطبخ المصري، ويشكّل عنصرًا يوميًّا في وجبة الإفطار، ومع أنه يبدو بسيطًا في شكله، فإنه غني بالبروتين النباتي، وهو ما يجعله بديلًا مستدامًا للبروتين الحيواني، خاصةً في ظل التحديات البيئية المرتبطة بتربية المواشي.

لا تخلو موائد الإفطار في مصر -وربما في كثير من العواصم العربية- من طبق الفول، الذي أصبح جزءًا من العادات الغذائية اليومية لكثير من الناس. وبالإضافة إلى أنه يعد وجبة مشبعة ومحببة، فإن الفول يحمل قيمة بيئية لا يُلتفت إليها كثيرًا؛ إذ يُزرع محليًّا في معظم الأحيان، ولا يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه كما هو الحال في بعض المحاصيل الأخرى؛ مما يجعله خيارًا عمليًّا في ظل تحديات تغيّر المناخ ونُدرة الموارد المائية التي تواجهها بلداننا.

الفول غذاء يعزز الاستدامة

وبالإضافة إلى كونه غذاءً بروتينيًا عالي القيمة، فإن إنتاج الفول يسهم في تعزيز الزراعة المستدامة من خلال تحسين خصوبة التربة، بفضل قدرته على تثبيت النيتروجين فيها بشكل طبيعي، وهنا يتقاطع الفول مع الهدف (15) من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بحماية النظم الإيكولوجية واستخدام الأراضي بشكل مستدام.

ومن جهة أخرى، يدعم الفول الاقتصاد المحلي عبر سلسلة إنتاج واسعة تشمل المزارعين، والمصنّعين، وبائعي الطعام، وحتى العاملين في المقاهي الشعبية، وهذه الدورة الاقتصادية غير المركزية تعزز من الهدف (8) “العمل اللائق ونمو الاقتصاد”، وتظهر كيف يمكن لوجبة بسيطة أن تُشغل منظومة اقتصادية مستدامة متكاملة.

الأكلات العربية التقليدية غذاء صحي ومستدام

وعند النظر إلى المطبخ العربي بشكل أوسع، نجد العديد من الأكلات التي ترتكز على مكونات نباتية بسيطة وصحية كالحمص والباذنجان، وغيرهما؛ فإنَّ هذه الأطعمة تشكل جزءًا أساسيًّا من التراث الثقافي للمنطقة، وتحمل معها نماذج غذائية متوازنة تسهم في تقليل الاعتماد على البروتين الحيواني؛ ومِن ثَمَّ تقليل الانبعاثات الضارة الناتجة عن إنتاج اللحوم، وهي من أكبر مسببات التغير المناخي عالميًّا.

كما أن الاعتماد على هذا التنوع من الأغذية النباتية يدعم الزراعة المحلية ويحافظ على التنوع البيولوجي في المحاصيل؛ مما يعزز من فرص تحقيق أمن غذائي أكثر استقرارًا، ويشكّل في الوقت نفسه أساسًا لنمط حياة صحي ومتوازن، يساعد على الوقاية من الأمراض المزمنة المرتبطة بالاستهلاك المفرط للدهون الحيوانية.

أدوار غير تقليدية للطعام

ومن هذا المنطلق، لا يقتصر دور الطعام على تلبية الاحتياجات الغذائية فقط، وإنما يتعداه ليؤدي أدوارًا أوسع في تشكيل وعي بيئي وغذائي جماعي، خاصة حين يُعاد اكتشاف الأكلات الشعبية بوصفها وسيلة للتثقيف والتغيير، حيث يمكن توظيفها في حملات التوعية لتعزيز مفاهيم الاستهلاك المسئول، وتقوية العلاقة بين الناس وبيئتهم، وربطهم بجذورهم الثقافية والغذائية بطريقة تسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهذا ما بدأت به بعض المبادرات المحلية في مصر ولبنان، بهدف تعزيز مفاهيم الاستدامة الغذائية من خلال العودة إلى المأكولات التراثية.

فعلى سبيل المثال، أطلقت “منظمة الأغذية والزراعة(FAO) ”  عددًا من المبادرات في الشرق الأوسط للتشجيع على استهلاك البقوليات، ومنها الفول والعدس، باعتبارها مصادر غذائية مستدامة تساعد على التخفيف من آثار التغير المناخي وتحديات الأمن الغذائي، كما أبرز تقرير للمنظمة نُشر في عام 2023 أن النظم الغذائية التقليدية تشكل أحد مفاتيح التحول نحو أنماط استهلاك أكثر استدامة.

ومن خلال إدماج المأكولات الشعبية في المناهج الدراسية وبرامج التوعية المجتمعية، يمكن غرس مفاهيم بيئية لدى الأجيال الجديدة، وهو ما يضمن استمرارية تأثير هذه الثقافة في المستقبل، ومن هنا تصبح المائدة مساحة للحوار والتنمية، لا مجرد مكان لتناول الطعام.

مبادرات مصرية لتعزيز الاستدامة الغذائية

وقد شهدت مصر خلال السنوات الأخيرة انطلاقة عدة مبادرات وطنية تسعى إلى تعزيز الاستدامة الغذائية من خلال الاستثمار في الأطعمة التقليدية، ومن هذه المبادرات مشروع “مستقبل مصر للإنتاج الزراعي“، الذي يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، عبر استصلاح الأراضي وزيادة الإنتاج المحلي.

ويُعد هذا المشروع من أكبر مشروعات الاستصلاح الزراعي في تاريخ البلاد، ويستهدف زراعة 2.2 مليون فدان ضمن خطة الدلتا الجديدة، مع الاعتماد على أساليب ري حديثة ومستدامة، واستخدام مياه الصرف المعالجة والمياه الجوفية، بهدف تعزيز الأمن الغذائي وتقليل الاستيراد.

ويمتد المشروع ليشمل التصنيع الزراعي، ويوفر آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، مع مراعاة حماية البيئة وتقليل الانبعاثات، ويمثل المشروع نموذجًا متكاملًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030 في مجالات الغذاء، والمياه، والعمل، والمناخ.

وحين نتأمل في دور الكشري والفول باعتبارهما مصدرين للغذاء، ندرك أننا لا نتحدث فقط عن موروث ثقافي أو عادات شعبية، وإنما عن أدوات حقيقية لإحداث تغيير ملموس في مسار الاستدامة؛ فاختيار الأطعمة التقليدية يسهم في الحفاظ على الهوية الثقافية، ويعزز من الصحة العامة، ويدعم الاقتصاد المحلي، ويحافظ على البيئة.

وإنَّ اختيار هذه الأطعمة يجعلنا نكافح التأثيرات السلبية الناتجة عن بعض الأغذية، مثل الأغذية الحيوانية التي تتسبب في زيادة وتيرة التغيرات المناخية، فإنَّ قطاع الأغذية الحيوانية يتسبب -على سبيل المثال- في انبعاث غاز الميثان؛ مما يزيد من معدلات الاحتباس الحراري بأكثر من 28 مرَّةً عن ثاني أكسيد الكربون؛ ونحن هنا لا ندعو إلى الاقتصار على البقوليات دون غيرها من الأطعمة، وإنما نسعى إلى نشر الوعي بضرورة أنْ نكون متوازنين في أنظمتنا الغذائية.

ولذلك تؤمن حماة الأرض بأن التغيير الحقيقي يبدأ من تفاصيل الحياة اليومية، وأن اختيارك لوجبة الإفطار أو الغداء قد يكون خطوة صغيرة نحو التغيير الحقيقي، كما تدعو إلى النظر بعين جديدة إلى عاداتنا الغذائية، ومنح أطباقنا الشعبية قيمتها الحقيقية باعتبارها عوامل مؤثرة في مسيرة التنمية المستدامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى