علوم مستدامة

المياه الجوفية مورد حيوي في خطر

المياه الجوفية مورد حيوي في خطر

المياه الجوفية مصدر حيوي لحياتنا؛ فهي ليست مجرد خزانات تحت الأقدام، وإنما شريان الحياة لملياري إنسان، وعنصر أساسي لـ 44% من محاصيل العالم، ودرع يحمي الأمن الغذائي من تقلبات المناخ، ومع ذلك نتعامل معها كما لو كانت بلا نهاية؛ مما يهدد بنضوبها، ويسبب أزمة عالمية في المستقبل.

فمع تزايد عدد سكان العالم إلى أكثر من 8 مليارات نسمة، واستهلاكنا لموارد الأرض بما يفوق قدرتها على التجدد؛ أصبحت إدارة المياه الجوفية قضية وجودية لا مفر منها؛ ذلك لأنَّ الحياة تعتمد بشكل مباشر على الأنظمة البيئية التي تغذيها هذه المياه، المصدر الأساسي للري والشرب.

ونظرًا لتوقعات ارتفاع عدد السكان إلى 9 مليارات بحلول عام 2050، ستزداد الضغوط على هذه الموارد، مما يفرض علينا ضرورة إيجاد حلول فعالة لتعزيز استدامتها؛ ولذلك تسلط حماة الأرض في هذا المقال الضوء على أهمية المياه الجوفية، وتقدم حلولًا مبتكرة لضمان استدامتها.

المياه الجوفية كنز مدفون

تشكل المياه العذبة نسبة ضئيلة تبلغ 2.5% فقط من إجمالي مياه الأرض، وتتوزع غالبية هذه المياه في الأنهار والبحيرات، ومع ذلك فما يمكننا الاستفادة منه بشكل مباشر يمثل أقل من 1% من إجمالي هذه المياه العذبة. وفي المقابل تحتفظ الأرض بمخزون هائل من المياه الجوفية يفوق حجم المياه السطحية المتاحة بمقدار 30 مرَّةً.

وتشير التقديرات إلى أنه إذا أُخرجت كل هذه المياه الجوفية ووزعت بالتساوي على سطح الأرض، فإن مستوى المياه سيرتفع بنحو 180 مترًا، غير أن الحقيقة هي أن أكثر من 80% من هذه المياه توجد على عمق يتجاوز كيلومترًا تحت الأرض؛ مما يجعل استخراجها مكلفًا للغاية وغير قابل للتجديد.

وتُعد المياه الجوفية إحدى الركائز الأساسية للري الزراعي، حيث تغطي نحو 38% من احتياجات الري عالميًّا؛ إذْ تعتمد مناطق وادي كاليفورنيا المركزي في الولايات المتحدة -على سبيل المثال- على المياه الجوفية بنسبة تتراوح بين 40% إلى 70% خلال فترات الجفاف، ومع تزايد الاعتماد على هذه المياه بشكل غير متوازن خلال العقود الأخيرة -إذ تُقدر نسبة استخدامها عالميًّا في الزراعة بنحو 70%- تبرز الحاجة الملحة لإدارتها إدارةً مسئولةً؛ لضمان الأمن الغذائي، وحتى يمكن التكيف مع التغيرات المناخية المتسارعة.

الآثار البيئية والاقتصادية

إنَّ الإفراط في استخراج المياه الجوفية دون تنظيم ملائم يمكن أنْ يؤدي إلى عواقب بيئية واقتصادية وخيمة، ويعد جفاف الآبار أحد أبرز هذه الآثار السلبية؛ فقد جفّ حوالي 1 من كل 30 بئرًا في غرب الولايات المتحدة، وفي مقاطعة تولاري بكاليفورنيا -تحديدًا- جفّ أكثر من 1,300 بئر في الأراضي السكنية خلال فترة الجفاف بين عامي 2012 و2016؛ مما أثر في حياة السكان المحليين واستدامة النشاط الزراعي. كما يتسبب استنزاف المياه الجوفية في هبوط التربة، وهي ظاهرة خطيرة تمثلت في هبوط سطح الأرض في وادي كاليفورنيا بأكثر من 9 أمتار؛ مما أدَّى إلى أضرار فادحة في البنية التحتية، وتسبب في خسائر تُقدّر بأكثر من 1.3 مليار دولار أمريكي بين عامي 1955 و1972.

إلى جانب ذلك، يُعد تلوث المياه الجوفية بالملوحة مشكلة بيئية خطيرة، خاصة في المناطق الساحلية؛ إذ يؤدي انخفاض مستويات المياه العذبة إلى تسرب مياه البحر المالحة إلى الداخل، وقد ظهر هذا التأثير بوضوح في جنوب جزيرة كريت باليونان، حيث انخفض مستوى المياه الجوفية بأكثر من 30 مترًا؛ مما سمح بتغلغل الملوحة لمسافة تصل إلى 1,500 متر في اليابسة.

وفي السهول الشمالية للصين أدى انخفاض مستويات المياه الجوفية بمعدل يتراوح بين 0.5 إلى 2 متر سنويًّا إلى التأثير في إنتاج الحبوب في المنطقة، التي تُعد مصدرًا رئيسيًّا لأكثر من 40% من إنتاج الحبوب في الصين. هذه الآثار مجتمعة تكشف عن أهمية الحفاظ على المياه الجوفية وإدارتها بشكل مستدام لتفادي خسائر بيئية واقتصادية جسيمة يصعب تعويضها.

نحو إدارة مستدامة للمياه الجوفية

وللحد من استنزاف المياه الجوفية والتخفيف من تأثيراته البيئية والاقتصادية، تُطبق دول كثيرة استراتيجيات صارمة لإدارة هذا المورد الحيوي، ومن بين الاستراتيجيات الأساسية المتبعة في إدارة المياه الجوفية تحديد حدود قصوى للاستخراج؛ فقد تبنت ولاية تكساس قانونًا يفرض حدًّا أقصى يبلغ 550 مليون متر مكعب سنويًّا من استخراج المياه من حوض مياه إدواردز؛ ليُخفض إلى 493 مليون متر مكعب بعد عدة سنوات.

وفي فرنسا أسهم توقيع ميثاق إدارة المياه الجوفية في منطقة بوس في حماية المستنقعات المحلية، وساعد على مراقبة مستويات المياه عبر تحقيق توازن دقيق بين الشحن والاستخراج؛ أي بين كمية المياه المتدفقة إلى الطبقات الجوفية نتيجة تسرب مياه الأمطار وكميات المياه التي يتم سحبها للاستخدام في الشرب، والري، والصناعة.

ولتقليل التأثير السلبي للاستخراج الزائد يُعد نظام إدارة شحن المياه الجوفية من الحلول التقنية الواعدة لتعويض المياه المستخرجة وضمان استدامة الموارد المائية؛ فقد زادت تطبيقات هذا النظام عالميًّا عشرة أضعاف خلال الخمسين عامًا الماضية، رغم أن إسهاماته في إجمالي المياه المستخرجة لا تتعدى 2.4%.  ويُنفذ هذا النظام بطرق متنوعة، مثل إنشاء أحواض تجميع لمياه الأمطار، بحيث تتسرب المياه تدريجيًّا إلى الطبقات الجوفية، أو من خلال ضخ المياه المعالجة مباشرة إلى أعماق الأرض عبر آبار مخصصة؛ مما يساعد على تعويض النقص وتقليل الضغط على المصادر الطبيعية.

ولا تنحصر أهمية الحفاظ على المياه الجوفية في الجوانب البيئية والاقتصادية فحسب، وإنما تشمل أيضًا الأبعاد الاجتماعية والأمن الغذائي؛ فمع استمرار انخفاض مستويات المياه، يعاني المزارعون -خاصة الفقراء منهم- من صعوبة في حفر آبار أعمق تتطلب تكاليف أكبر واستهلاكًا أعلى للطاقة؛ ما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين المزارعين الأكثر ثراءً والأقل قدرة مالية.

وفي هذا السياق، ترى حماة الأرض أنَّ الحاجة أصبحت ماسة إلى إعادة النظر في كيفية استغلال هذه الثروة الطبيعية من خلال تبني سياسات مدروسة، والاستثمار في التكنولوجيا والبحث العلمي، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على المياه الجوفية؛ فنجاح هذه الاستراتيجيات سيسهم في حماية البيئة، وتعزيز الإنتاج الزراعي، وضمان الأمن المائي والغذائي لكل من يعيش على هذا الكوكب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى