خارج الصندوق.. كيف يمكن لريش الدجاج إعادة صياغة صناعة المواد اللاصقة؟

خارج الصندوق.. كيف يمكن لريش الدجاج إعادة صياغة صناعة المواد اللاصقة؟

يعتمد تصنيع المواد اللاصقة -بشكل أساسيّ- على المواد الخام الأحفورية، إلا إنَّ الباحثينَ في معهد “فراونهوفر للهندسة البينية والتكنولوجيا الحيوية” بألمانيا؛ استطاعوا مؤخرًا -بفكرة خارج الصندوق- تطوير عملية تصنيع جديدة للمواد اللاصقة باستخدام الكيراتين. والكيراتين هو نوع من البروتينات متعددة الاستخدامات، ويمكن الحصول عليه من خلال عديد من المصادر الحيوية، مثل ريش الدجاج على سبيل المثال.

تفتح العمليةُ الجديدةُ لتصنيع المواد اللاصقة المختلفة الطريقَ أمام تحويل هذه الصناعة إلى الاستدامة، حيث يمكن تطويع هذه المنتجات في عدد كبير من التطبيقات، وهو ما يحقق كثيرًا من أهداف التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تبني المبادئ الأساسية للاقتصاد الدائريّ، وإعادة صياغة مستقبل هذه الصناعة، التي تمثل عشرات مليارات الدولارات من الاقتصاد العالميّ.

الكيراتين والمواد اللاصقة

نجد المواد اللاصقة -تقريبًا- في كل مكان حولنا، في الأحذية الرياضية، والهواتف الذكية، ومواد تجليد الأرضيات والحوائط، والأثاث، والمنسوجات، ومواد التغليف، وغيرها كثير، حيث يشير خبراء الصناعة إلى وجود أكثر من 1000 نوع مختلف من المواد اللاصقة تستخدم في جميع التطبيقات المختلفة.

تتميز المواد اللاصقة بعدد من الخصائص، مقارنةً بحلول التثبيت الأخرى مثل المسامير، فهي خفيفة الوزن، وتُوزع الحِمْلَ بشكل متساوٍ، كما أنها لا تصدأ وتمنع الرطوبة، هذا بخلاف تكلفتها المنخفضة وسهولة استخدامها، ولكنها تحمل -أيضًا- بصمةً بيئيةً معتبرةً؛ نظرًا إلى اعتمادها -بشكل أساسيّ- على المصادر الأحفورية، وهذا بخلاف استهلاكات الطاقة خلال مراحل تصنيعها.

في العادة، تُصنع أغلبيةُ المواد اللاصقة -على نطاق تجاريّ- من المواد الخام الأحفورية، ولكنَّ باحثِي فراونهوفر توصلوا إلى طريقة جديدة تسمح لهم باستخدام ريش الدجاج، باعتباره مصدرًا للمادة الخام الأساسية، بدلًا من الموارد الأحفورية. وكما نعلم، فالريش منتج ثانويّ في صناعة الدواجن، ويتم التخلص منه، أو خلطه في علف الحيوانات، لكنه يحوي مُركبًا مهمًّا هو الكيراتين. ويوجد الكيراتين في الحيوانات -بشكل عامّ- حيث يشكل أجزاءً مثل المخالب والحوافر والريش؛ نظرًا إلى ما يتمتع به هذا البروتين الحيويّ من هيكل بنائيّ قويّ للغاية.

ولكن، ما الذي يجعل الكيراتين مادةً مثاليةً للاستخدام في صناعة المواد اللاصقة؟ الكيراتين مادة قابلة للتحلل بيولوجيًّا؛ وبالتالي صديقة للبيئة، كما تتميز بنيتُها بخصائصَ تجعلها مناسبةً بشكل خاص لصناعة المواد اللاصقة؛ فالكيراتين هو بوليمر في الأساس، يتكون من سلاسل طويلة جدًّا، هذا فضلًا عن إمكانية خضوعه لتفاعلات التشابك “Cross linking” اللازمة لتصنيع المواد اللاصقة المختلفة؛ ما يعني أنَّ الكيراتين الموجود في المصادر الحيوية يحتاج فقط إلى الاستخراج والمعالجة للحصول على المنتجات المطلوبة.

إنتاج المواد الكيميائية من ريش الدجاج

على مدى السنوات الثلاث الماضية، تعاون معهد فراونهوفر مع عددٍ من الشركات الرائدة في مجال تصنيع المواد اللاصقة في مشروع متخصص لإنتاج المواد الكيميائية من الكيراتين. وقد نجح هذا التعاون في التوصل إلى عملية لإنتاج المواد الكيميائية الأساسية اللازمة لصناعة المواد اللاصقة، وهذا باستخدام ريش الدجاج.

تبدأ المرحلة الأولى في العملية بتوريد مخلفات الريش من المسالخ والمزارع، ليتم بعد ذلك تعقيمها وغسلها، ثم تقطيعها ميكانيكيًّا. بعد ذلك يتم استخدام الإنزيمات لتكسير سلاسل بوليمر الكيراتين الطويلة إلى سلاسل أقصر، عن طريق عملية التحلل المائيّ. وفي نهاية العملية، نحصل على المنتج النهائيّ، وهو عبارة عن مادة كيميائية يمكنها أنْ تمثل المدخل الأساسيّ في صناعة المواد اللاصقة.

وقال المدير المسئول عن المشروع، الدكتور “مايكل ريشتر”: «التجارب التي نقوم بها حاليًّا تهدف إلى دمج مجموعة من الخصائص المحسَّنة بيولوجيًّا في خصائص المنتج النهائيّ؛ لفتح المجال أمام مختلف التطبيقات، حيث نحتاج إلى إنتاج مواد لاصقة متنوعة في المرونة، والخصائص الحرارية، والقوة، كما نحتاج إلى الوصول إلى أفضل طريقة لتسهيل العملية الإنتاجية وتسريعها، هذا بخلاف أننا نقوم ببحث مدى إمكانية استخدام الكيراتين المستخرَج من المصادر الحيوية في صناعات أخرى مثل الطلاء».

في المرحلة التالية للمشروع، شرع فريق فراونهوفر إلى توسيع نطاق عمليات الإنتاج التجريبية، وهذا لإثبات أنَّ المواد الكيميائية الناتجة عن معالجة الكيراتين يمكن تصنيعها بكفاءة من حيث التكلفة على نطاق تجاريّ. ولبحث هذا الأمر، قام الفريق بمعالجة عدة كيلوجرامات من ريش الدجاج، مع استخدام المادة المنتجة في تجارب المواد الأولية؛ لإنتاج المواد اللاصقة في عدد من الشركات الرائدة في هذا المجال، مثل هنكل ” Henkel”.

اقتصاد دائريّ حيويّ

هذه الطريقة المبتكرة لإنتاج المواد اللاصقة من المصادر الحيوية تُعتبر ذات أهميةٍ خاصةٍ، ليس فقط لتطويعها موادًّا قابلةً للتحلل في العمليات الإنتاجية، بدلًا من الاعتماد على المصادر الأحفورية؛ وإنما لقدرتها على استخدام المخلفات باعتبارها مادةً خامًا أساسيةً، وهو ما يمثل روح الاقتصاد الدائريّ.

مِن الجدير بالذِّكْرِ، هو أنَّ هذه الطريقة الواعدة تحمل ثِقلًا اقتصاديًّا محتملًا، على الأقل لألمانيا؛ لكونها موطنًا لعدد من مصانع المواد اللاصقة، التي يصل إنتاجها إلى حوالي مليون طن سنويًّا، وتبلغ قيمتها الإجمالية 1.87 مليار يورو؛ لذا يمكن أنْ تمثل ألمانيا نقطةَ الانطلاقِ لهذه التكنولوجيا المبتكرة، ليتم استخدامها في مختلف البلدان حول العالم.

هذه الطريقة الجديدة الواعدة لإنتاج المواد اللاصقة يمكنها أنْ تحقق عددًا من أهداف التنمية المستدامة، أبرزها الهدف التاسع: الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية، والهدف الثاني عشر: الإنتاج والاستهلاك المسئولان، بالإضافة إلى تبنيها للاقتصاد الدائريّ.

إنَّ مثل هذه الأفكار الخارجة عن المألوف، التي تسعى إلى إيجاد حلول مِن خارج الصندوق لمشكلاتنا المناخية، تُعدُّ مصدرَ إلهامٍ لنا جميعًا، وهو ما تستهدف مجلة حماة الأرض نشره وتسليط الضوء عليه من خلال سلسلة مقالات “خارج الصندوق”.