غَرسُ الأشجارِ وحقوقُ الإنسان
غرس الأشجارِ وحقوقُ الإنسان
مِنَ الضَّبَابِ الدُّخانيِّ المُنتشرِ فوقَ بعضِ المُدنِ إلى الدُّخَانِ والأتربةِ التي تَتسلَّلُ إلى المَنازل، يُشكِّلُ تلوُّثُ الهواءِ خَطرًا دَاهمًا على حقوق الصِّحةِ العامَّة، حيثُ يَتسبَّبُ تلوثُ الهواءِ منْ حولِنا سواءً في المناطقِ الرِّيفيةِ أوِ المناطقِ الحَضريةِ في تكوينِ جُسيْمَاتٍ دَقيقة، والتي تُؤدِّي عندَ استنشاقِها على مدَى السنواتِ المُتعاقِبةِ إلى عددٍ مِنَ الأمراضِ الخطيرةِ مثلَ السكتاتِ الدماغيَّة، وأمراضِ القلب، وسرطانِ الرِّئة، وأمراضِ الجهازِ التنفسيِّ الحادَّةِ والمُزمنةِ وغيرِها.
وطبقًا لإحصائيَّاتِ مُنظَّمةِ الصحةِ العالميَّة، يُصِيبُ الموتُ المُبكرُ كُلَّ عامٍ ما يَقربُ منْ “سبعة مليون” إنسانٍ؛ بسببِ الآثارِ المرتبطةِ بتلوُّثِ الهَواء، سواءً أكانَ الهواءُ المحيطُ أوِ الهواءُ الداخلي (في المنزل). ويومًا بعدَ يومٍ تَزدادُ مصادرُ التلوثِ منْ حولِنا؛ مِمَّا يَضعُنا أمامَ تحدٍّ لإيجادِ الحلولِ حتى يُمكِنَ التخفيفُ منْ حِدَّةِ التلوُّثِ والحفاظِ على حقوق الصحةِ العامَّة.
التَّشجيرُ والصّحةُ العامَّة
تَتراكمُ الأدلةُ التي تُشيرُ إلى وجودِ عَلاقةٍ بينَ استعادةِ وتحسينِ الطبيعةِ وانخفاضِ معدَّلِ الوَفَيَات، إلَّا إنَّ معظمَ الدراساتِ تَستخدِمُ التصويرَ بالأقمارِ الصناعيَّة؛ لتقديرِ مُؤشرِ الغطاءِ النباتِي، وهو الأمرُ الذي لا يُميِّزُ الأنواعَ المُختلفةَ مِنَ الغطاءِ النباتيِّ ولا يمكنُ ترجمتُه مباشرةً إلى استنتاجاتٍ دقيقةٍ مَلمُوسَة.
غير أنَّهُ وفي تَجربةٍ طبيعيةٍ حدثَتْ في مدينةِ بورتلاند بينَ عامي 1990 و2019، قامَتْ جمعيَّة “أصدقاءُ الأشجارِ” بزراعة “49246 شجرة” في الشوارع، واحتفظُوا بسِجلاتٍ لأماكنِ زرعِ هذه الأشجار. ثُمَّ قامَ فريقٌ مِنَ الباحثِينَ بالنظرِ في عددِ الأشجارِ المزروعةِ في منطقةٍ معينةٍ على وجهِ التحديدِ في هذِه المدينةِ وفي مسارٍ مُحدَّدٍ يَعيشُ فيه حوالي 4000 شخص، وذلكَ في فترةٍ منْ (5 إلى 15) مِنَ السنواتِ السابقة، ثُمَّ رَبطُوا هذهِ المَعلوماتِ بأرقامِ الوَفياتِ بسببِ أمراضِ القلبِ والأوعيةِ الدمويةِ والجهازِ التنفسي، أوْ لأسبابٍ غيرِ عَرَضيَّةٍ في نفسِ المنطقة، وذلكَ باستخدامِ بَياناتٍ منْ هَيئةِ الصحةِ في ولايةِ أوريغون.
أظهرَتِ النتائجُ التي توصَّلَ إليها الباحثونَ أنَّهُ في الأحياءِ التي تمَّ فيها زراعةُ المزيدِ مِنَ الأشجارِ كانَتْ مُعدلاتُ الوَفياتِ أقلَّ بكثير، خاصَّةً بِالنسبةِ للذُّكورِ والأشخاصِ الذينَ تَزيدُ أعمارُهم عن 65 عامًا.
علاوةً على ذلك، وُجِدَ ارتباطٌ أقوَى بينَ عُمرِ الأشجارِ ومعدَّلِ الوَفيات، فكُلَّمَا تَقَدَّمَ عمرُ الأشجارِ ونُموُّها في منطقةٍ مَا كانَ الانخفاضُ في معدَّلِ الوَفياتِ أكبر، حيثُ دلَّتِ النتائجُ أنَّ الأشجارَ المَزروعةَ قبل (11-15 سنة) كانَتْ مسؤولةً عَنِ انخفاضٍ في الوَفيَاتِ بنسبةٍ تُعادِل (30٪)، وهوَ ضِعفُ ما لُوحظَ معَ الأشجارِ المزروعةِ من (1-5 سنة) السابقة (15٪)، وهذَا يَعني أنَّ الأشجارَ القديمةَ تَرتبطُ بانخفاضٍ أكبرَ في معدَّلِ الوَفيات، وأنَّ الحفاظَ على الأشجارِ الناضجةِ الموجودةِ قد يَكونُ مُهِمًّا بشكلٍ خاصٍّ لحقوق الصحةِ العامَّة.
تأثيرٌ حَقيقيٌّ أمْ صُدفةٌ إحصائيَّة؟
لا تُقدِّمُ هذهِ التجربةُ دليلًا دامغًا على كيفيَّةِ تَحسينِ الأشجارِ لحقوق الصحة، فهي لا تَخلُو منْ كونِها نظرةً إحصائيةً سَطحيةً بعضَ الشيء. ومعَ ذلك، فإنَّ النتيجةَ التي تُفيدُ بأنَّ الأشجارَ الكبيرةَ لهَا تأثيرٌ صحيٌّ أكبرُ منْ تلكَ الصغيرةِ فهي معلومةٌ مَعروفَةٌ ومُثْبَتَةٌ علميًّا؛ لأنَّ الأشجارَ الكبيرةَ أفضلُ في امتصاصِ تلوُّثِ الهَواء، والحفاظِ على درجاتِ الحرارةِ المُعتدلَة، وتقليلِ الضَّوضاء، وهوَ مَا يُعطِي مُؤشرًا قويًّا على صحةِ الاستنتاجِ الأوَّلِ وهوَ تأثيرُ الأشجارِ على صحةِ البشر، لِتُصبحَ بذلكَ زراعةُ الأشجارِ أداةً فعَّالةً في الحفاظِ على صحةِ البشرِ وحمايةِ حُقوقِ الإنسان.