كأس العالم 2026.. كرة القدم تواجه مخاوف متصاعدة بسبب أزمة عالمية
كأس العالم 2026.. كرة القدم تواجه مخاوف متصاعدة بسبب أزمة عالمية
في الوقت الذي تزداد فيه حماسة شعوب العالم مع اقتراب الحدث الكروي الأضخم، وهو كأس العالم 2026، لا يبدو أن كرة القدم ستسجل هذه المرة أهدافًا داخل الملاعب فقط، وإنما أيضًا في سجلات الانبعاثات الكربونية؛ إذ تُثار مخاوف متصاعدة بشأن الأثر البيئي الكبير للبطولة، في ظل توسع غير مسبوق على مستوى عدد الفرق والمسافات المقطوعة جوًّا.
تُعد هذه النسخة من المونديال الأولى في التاريخ التي تُقام في ثلاث دول متجاورة، وهي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، على أن تنطلق فعاليات البطولة في شهر يونيو 2026، وقد اعتمد الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” نظامًا جديدًا يشمل مشاركة 48 منتخبًا بدلًا من 32؛ مما يعني تنظيم 80 مباراة موزعة على 16 مدينة في قارتين، وهو توسع يصفه البعض بأنه احتفالية عالمية بكرة القدم، إلا أن تداعياته البيئية تثير قلقًا متزايدًا.
فرغم أن هذه النسخة يُروَّج لها بوصفها حدثًا تاريخيًّا من حيث الحجم والتنوع والعدد القياسي للمباريات، فإن الواقع البيئي لا يبدو بنفس الإشراق؛ إذ تشير التقديرات إلى أن البصمة الكربونية للبطولة ستكون الأكبر في تاريخ المونديال، وهذا ما يضع الفيفا أمام اختبار حقيقي يتعلق بمدى التزامها الفعلي بالوعود البيئية التي أطلقتها في السنوات الأخيرة، لا سيما في ضوء إخفاقات سابقة لم تغب عن أذهان المتابعين.
ومن هذا المنطلق، تسلط حماة الأرض الضوء في هذا المقال على أبرز الجوانب البيئية المرتبطة بكأس العالم 2026، مستعرضة التحديات والمخاطر، ومتتبعة وعود الفيفا ومدى اتفاقها مع الواقع، كما تقدّم نماذج رياضية بديلة أثبتت أنه من الممكن الجمع بين الشغف الجماهيري ومتطلبات حماية الكوكب، دون أن تفقد اللعبة بريقها.
استراتيجية الفيفا حبر على ورق
في عام 2021، أطلقت الفيفا استراتيجيتها المناخية من منبر مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP26)، وتعهدت حينها بخفض انبعاثاتها بنسبة 50% بحلول عام 2030، والوصول إلى الحياد الكربوني الكامل في 2040، وكانت الوعود طموحة، وشملت خططًا لبناء بنى تحتية مستدامة، وتحسين كفاءة الطاقة، وتشجيع الطاقة المتجددة.
غير أن إحدى أبرز أدوات الفيفا في تلك الخطة كانت “تعويض الكربون”، أي شراء أرصدة بيئية لتغطية الانبعاثات الناتجة عن الفعاليات، وهي وسيلة يراها العديد من الخبراء غير شفافة، ومضللة أحيانًا، خصوصًا عندما تُستخدم باعتبارها ستارًا لتجنب خفض الانبعاثات الفعلية.
خلال بطولة كأس العالم 2022 في قطر، أعلنت الفيفا أنها نجحت في تحقيق الحياد الكربوني، غير أن هيئة النزاهة السويسرية شكّكت في هذه الادعاءات، مؤكدة أنها لم تستند إلى أدلة كافية، كما لم تُقدَّم خطة واضحة لتعويض الانبعاثات الناتجة عن الحدث، وهذا القصور ألحق ضررًا بمصداقية الاتحاد الدولي لكرة القدم أمام الأوساط البيئية. ومع اقتراب مونديال 2026، تعود الشكوك مجددًا، في ظل توقعات بارتفاع حجم الانبعاثات وتعقيد التحديات، ما يدفع إلى التساؤل عن جدية تحويل تلك الوعود البيئية إلى خطوات ملموسة على أرض الواقع.
توقعات صادمة لانبعاثات كأس العالم 2026
وتشير تقديرات ملف الترشح المشترك للولايات المتحدة وكندا والمكسيك إلى أن كأس العالم 2026 سينتج نحو 3.7 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون؛ مما يجعله الأعلى من حيث البصمة الكربونية في تاريخ البطولة. ثم إنَّ النسبة الكبرى من هذه الانبعاثات (85%) ستكون بسبب السفر، منها 51% للسفر الدولي، و34% للتنقل بين المدن داخل البلدان الثلاثة.
هذا الرقم يتجاوز قليلًا انبعاثات نسخة مونديال قطر 2022، التي بلغت 3.6 مليون طن، رغم أن نسخة قطر تطلبت بناء ملاعب جديدة وتشغيل أنظمة تبريد ضخمة للتغلب على المناخ الصحراوي. أما في 2026، فإن التحدي الرئيسي يكمن في المسافات الشاسعة ووسائل النقل غير المستدامة.
ومن المنتظر أن تُقام 80 مباراة خلال كأس العالم 2026، موزعة على رقعة جغرافية واسعة تشمل 16 مدينة في ثلاث دول، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع كبير في حركة الطيران بين المدن، سواء للفرق أو الجماهير أو وسائل الإعلام، وهذا النمط من التنقل، المعتمد بشكل رئيسي على الرحلات الجوية، يتناقض بوضوح مع الأهداف البيئية التي تعلنها الفيفا.
ورغم أن البطولة ستُقام في ملاعب قائمة فعليًّا، فإن ذلك لا يُلغي حجم التحديات، إذ إن العديد من المدن المستضيفة، لا سيما في الولايات المتحدة، تفتقر إلى أنظمة نقل عام فعالة ومستدامة، الأمر الذي يعقّد من فرص تقليل الانبعاثات الناتجة عن التنقل الداخلي.
هل تتعلم الفيفا من تجربة أوروبا 2024؟
وفي ضوء هذه الصورة المقلقة، تزداد الحاجة إلى استلهام تجارب ناجحة في تنظيم البطولات الكبرى بشكل أكثر مراعاة للبيئة، كما حدث في بطولة أمم أوروبا 2024، التي قدمت نموذجًا يُحتذى به، حيث اعتمدت على الملاعب الموجودة سابقًا، وطبقت تقنيات كفاءة الطاقة، وشجعت استخدام وسائل النقل العام للجماهير والفرق.
وأسفرت هذه الإجراءات عن خفض الانبعاثات بنسبة 21% مقارنة بالتوقعات الأولية، فضلًا عن إنشاء صندوق مناخي بقيمة 7 ملايين يورو لتمويل مشروعات بيئية مرتبطة بالبنية التحتية الرياضية، وهو ما منح البطولة إرثًا إيجابيًّا يتجاوز حدود المستطيل الأخضر.
ويكشف هذا الفرق الكبير بين ما حدث في بطولة أوروبا وما يُتوقع في كأس العالم 2026 عن مسارين مختلفين تمامًا، أحدهما يضع البيئة في الحسبان، والآخر لا يبدو أنه أعطاها أولوية حقيقية. وهذا يدفع إلى التساؤل: ألم يكن بوسع الفيفا أن تختار طريقة تنظم بها البطولة بشكل أكثر مسئولية تجاه الكوكب؟!
ورغم أن الظروف الجغرافية تختلف بين ألمانيا وأمريكا الشمالية، فإن المسألة في النهاية لا تتعلق بالمسافات دون غيرها، وإنما بالإرادة والقرارات؛ فإذا توفرت النية الجادة يمكن لأي جهة منظمة حينئذٍ أنْ تتخذ خطوات حقيقية تحمي البيئة، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن بعض المكاسب أو التسهيلات.
تضارب المصالح هو سبب الأزمة
ومن المفارقات اللافتة في مشهد كأس العالم 2026 أن الفيفا، التي تؤكد التزامها البيئي في كل مناسبة، تعقد شراكات مع شركات تُعد من أبرز مصادر التلوث على مستوى العالم، مثل قطر للطيران وأرامكو السعودية، وهما شركتان ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بصناعة الوقود الأحفوري، المسئولة عن جانب كبير من الانبعاثات الكربونية عالميًّا. هذا التناقض يثير تساؤلات جوهرية حول جدية الفيفا في تطبيق معايير الاستدامة التي تروج لها؛ إذ لا يُعقل أن تتحدث المؤسسة عن الحياد الكربوني وهي تعتمد ماليًّا على جهات تمثل جزءًا أساسيًّا من الأزمة المناخية.
ولا يتوقف الجدل عند حدود الرعاة فحسب، وإنما يمتد إلى غياب الشفافية في إعلان البيانات البيئية، حيث لم تُقدّم الفيفا حتى الآن خطة مفصلة لكيفية معالجة الانبعاثات المتوقعة، خاصة بعد ما وُجه لها من انتقادات بشأن فشلها في إثبات ادعاءات الحياد الكربوني في مونديال قطر 2022.
من هنا يصبح من الضروري أن تُعيد الفيفا النظر في علاقاتها التجارية وأولوياتها الاستراتيجية، وأن تضع الاستدامة في صلب قراراتها، إذا كانت جادة فعلًا في الحفاظ على صورتها أمام جمهور عالمي بات أكثر وعيًا وانتباهًا لما يدور خارج حدود الملعب.
الجماهير تطالب بمونديال صديق للبيئة
ولا يقتصر الضغط البيئي على المؤسسات، وإنما يمتد ليشمل جماهير اللعبة نفسها، حيث كشفت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة (Pledgeball) البيئية بالتعاون مع (Mastercard) أن 81% من مشجعي كرة القدم يشعرون بالقلق إزاء أزمة المناخ، فيما طالب 82% منهم أنديتهم باتخاذ خطوات أكثر جرأة نحو تقليل الانبعاثات.
ومع اقتراب انطلاق نسخة 2026، ترى حماة الأرض أن إدارة الفيفا تواجه اختبارًا دقيقًا فيما يخص مصداقية وعودها المناخية؛ فإمَّا أنْ تتحول تلك الوعود إلى واقع فعلي يلمسه الجميع، وإمَّا أنْ تستمر في تقديم مجرد كلمات خضراء سرعان ما تتلاشى أمام التدقيق والمساءلة؛ فالمشهد الإعلامي الدولي لم يعد يغفل التفاصيل، وكل خطوة ستخضع للتدقيق، وكل تقرير بيئي سيتم تحليله من قِبل جماهير واعية وهيئات رقابية لا تتهاون مع التناقضات.