خطى مستدامة

هكذا يكون السلام والتنمية.. يد تبني ويد تحمي

هكذا يكون السلام والتنمية.. يد تبني ويد تحمي

السلام هو المسار الذي تسعى المجتمعات المضطربة إلى الوصول إليه، غير أن مفهومه اليوم لم يعد مقتصرًا على غياب الحروب، وإنما بات يُنظر إليه اليوم باعتباره شرطًا جوهريًّا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بشكلٍ شامل؛ فكيف يمكن لمجتمعات مضطربة أن تنمو، ولأفرادها أن يبدعوا، ولبيئتها أن تتعافى؟

التنمية المستدامة هي الأساس الذي يتيح لهذه المجتمعات أن تنمو بشكل شامل ومتوازن، حيث تضمن الاستدامة في الموارد والفرص للأجيال القادمة؛ ولذلك سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال العلاقة العميقة والمركبة بين السلامِ والتنمية المستدامة، كاشفةً عن خيوط الترابط التي تجمع بين الاستقرار المجتمعي والازدهار الاقتصادي وحماية كوكب الأرض؛ فتابعوا قراءة المقال.

اتساع مفهوم السلام

لطالما ارتبط مفهوم السّلام في أذهاننا بوقف إطلاق النار أو انتهاء النزاعات المسلحة، غير أن هذا التعريف لم يعد كافيًا في عالم تتعدد فيه أشكال العنف وتتداخل فيه جذوره، ويوضح عالم السّلام النرويجي “يوهان جالتونج” أن السلامَ السلبي هو مجرد غياب العنف المباشر، في حين أن السلام الإيجابي يتجلى في العدالة الاجتماعية، والمساواة، وبناء مؤسسات عادلة تضمن الحقوق والفرص للجميع.

وصنّف “جالتونج” العنف ثلاثة تصنيفات:

  1. العنف المباشر الذي نراه في الحروب والجريمة.
  2. العنف البنيوي الناتج عن حرمان فئات كاملة من أفراد المجتمع من الموارد.
  3. العنف الثقافي الذي يُرسَّخ في العادات والتقاليد التي تكرّس التمييز.

وهذه الأنماط الثلاثة تعيق أي محاولة لتحقيق تنمية حقيقية؛ فالبلدان التي تعاني من مثل أشكال هذا العنف تجد نفسها في دائرة مغلقة من الفقر وعدم الاستقرار.

بالإضافة إلى ذلك، يمثل السَّلام عاملًا حاسمًا في حماية الفئات الضعيفة في المجتمع، خاصة الأطفال الذين يتأثرون بشكل مباشر بالنزاعات وعدم الاستقرار؛ ففي غيابه يواجه الأطفال أزمات متعددة، أبرزها سوء التغذية نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وانهيار الأنظمة الغذائية؛ مما يؤثر سلبًا في نموهم الجسدي والعقلي.

النزاعات والحروب

علاوة على ذلك، يؤدي غياب الأمن إلى انقطاعهم عن التعليم، سواء بسبب تدمير المدارس أو اضطرارهم للنزوح؛ مما يحرمهم من حقهم الأساسي في التعلم ويقوض فرصهم في بناء مستقبل أفضل، ومن هنا فإن تحقيق السّلام لا يعني فقط وقف إطلاق النار، وإنما يشمل أيضًا تأمين بيئة آمنة تضمن للطفل الغذاء والتعليم والحياة الكريمة.

ولذلك لا يمكن الحديث عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة من دون معالجة جذور العنف؛ فالسلام الإيجابي -كما يرى جالتونج- هو أساس التقدم البشري، وهو البنية التحتية غير المرئية التي تسمح للاقتصاد أن ينمو، وللمجتمعات أن تتماسك، وللبيئة أن تُحمى.

أعمدة السلام الإيجابي

و في مواجهة التحديات العالمية المتزايدة مثل النزاعات، وتغير المناخ، والتفاوت الاقتصادي، تبرز الحاجة إلى نموذج شامل لبناء السَّلام يتجاوز المفهوم التقليدي لغياب العنف، وهنا يأتي دور مؤسسة الاقتصاد والسَّلام (IEP) Institute for Economics and Peace  التي وضعت إطارًا عمليًّا لبناء المجتمعات السلمية، من خلال ما يُعرف بـ”أركان السَّلام الإيجابي الثمانية”، وهي عناصر مترابطة تعزز مناعة المجتمعات ضد الأزمات.

وهذه الأعمدة لا تتعلق بالسياسات الحكومية فقط، وإنما تمتد إلى مناخ الأعمال، ومستوى التعليم، وحرية المعلومات، واحترام الحقوق، وتسهم التنمية المستدامة في تعزيز هذه الأعمدة عبر توفير استراتيجيات طويلة الأمد للنمو الاقتصادي والاجتماعي؛ مما يعزز استقرار المجتمعات على المدى البعيد.

ويمثل هذا الإطار نهجًا شموليًّا في تعزيز استقرار الدول، خاصة في ظل ما يشهده العالم من تحولات تكنولوجية متسارعة وتغيرات مناخية جذرية، وهنا تزداد أهمية السلام الإيجابي بوصفه أداة لتعزيز الحوكمة الرقمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ودعم المساءلة، وضمان الأمن البيئي.

أعمد السلام

ويتطلب هذا وجود حكومة قادرة على التكيف مع الابتكار من خلال تشريعات مرنة وشفافة، إلى جانب بيئة أعمال تؤمن بالحوكمة البيئية والاجتماعية وتطبقها بفعالية، كما أن هذا الأمر يرتبط بتوزيع الموارد بشكل عادل، في وقت أصبحت فيه التغيرات المناخية تؤجج النزاعات على المياه والغذاء والطاقة، ويشمل هذا المفهوم أيضًا تعزيز العدالة عبر احترام حقوق الآخرين، وتشجيع علاقات دولية مستقرة تُسهم في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.

نحو مستقبل ينعم بالسلام والاستدامة

ويعد التغير المناخي من أكبر مهددات السَّلام في القرن الحادي والعشرين؛ فارتفاع درجات الحرارة وجفاف الأراضي وتراجع الموارد المائية كلها عوامل تُهيّئ بيئة خصبة لنشوب صراعات على الموارد، وتزيد من حدة التوترات بين الجماعات المحلية أو بين الدول.

ولا يتوقف الأمر عند النزاعات المباشرة؛ إذ أصبحت موجات الهجرة الناتجة عن الكوارث الطبيعية واقعًا ملموسًا يفرض ضغوطًا متزايدة على المجتمعات المضيفة، هذه المجتمعات باتت تواجه تحديات مزدوجة، تتضمن الحفاظ على تماسكها الاجتماعي من جهة، وضمان اندماج الوافدين الجدد اقتصاديًّا واجتماعيًّا من جهة أخرى، ومن دون سياسات إدماج عادلة تضمن الحقوق وتكافؤ الفرص، قد تتحول هذه الضغوط إلى توترات قابلة للانفجار.

وفي المقابل تثبت التجارب أن المجتمعات التي تستثمر في بنى تحتية مستدامة، وتوفر فرص عمل خضراء، وتحترم حقوق المهاجرين البيئيين، تنجح في تحويل التحديات إلى فرص، وتصبح نماذج ملهمة للاستقرار والتحول الأخضر، أما عندما تُترك الفئات المتأثرة دون حماية أو دعم، فإنها غالبًا ما تتحول إلى بؤر للتوتر والصراع.

وفي سياق التحديات المتسارعة التي تعيق تحقيق التنمية المستدامة، تلعب التكنولوجيا اليوم دورًا مزدوجًا في تشكيل مستقبل المجتمعات فهي سلاح ذو حدّين؛ فمن جهة تفتح آفاقًا غير مسبوقة لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، بفضل تقنيات مثل البلوك تشين (Blockchain)، التي تُستخدم لإنشاء سجلات رقمية آمنة وغير قابلة للتلاعب، والذكاء الاصطناعي الذي يسهم في تحسين كفاءة الخدمات ومراقبة الأداء.

ومن جهة أخرى، يمكن لهذه الأدوات نفسها أن تتحول إلى وسائل للرقابة الصارمة، ونشر المعلومات المضللة، وتأجيج الانقسامات داخل المجتمعات، وهنا تبرز أهمية تعزيز الأمن السيبراني، ووضع أخلاقيات لتطوير التكنولوجيا، وضمان أن يظل التطوير في إطار سلميّ.

وفي هذا السياق، تؤمن حماة الأرض بأن بناء السلام ضرورة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، من القضاء على الفقر، إلى تحسين جودة التعليم، وحماية الحياة على الأرض، وأنه من دون أسس متينة من الثقة، والعدالة، والتماسك الاجتماعي، لن تنجح أي خطة تنموية، مهما كانت طموحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى