ملف خاص

الاقتصاد الدائري.. أهم المقومات وأصعب التحديات

الاقتصاد الدائري

الاقتصاد الدائري.. أهم المقومات وأصعب التحديات

يعتمد نظامُ الاقتصاد العالميّ المعاصر -بشكل أساسيّ- في مختلف قطاعاته الصناعية والخدمية على سلسلة من العمليات، يُطلَقُ عليها الاقتصاد الخطيّ. ونقصد بهذه العبارة عمليةَ استخراج المواد الخام البكر من مواطنها الأصلية، ثم نقلها لاستخدامها باعتبارها مدخلاتٍ أساسيةً في عمليات تصنيعية عديدة.

وباستخدام التكنولوجيا يتم إمرار هذه المواد الخام على مجموعة متنوعة من العمليات، حتى يتم تحويلها في نهاية المطاف إلى منتَج يُلبي احتياجات الشرائح المختلفة من المستهلِكينَ، لتُستهلك هذه المنتجاتُ بعد ذلك في أثناء دورة حياتها إلى أنْ تُستبدلَ بأخرى جديدة، أو حتى استبدالها بمجرد ظهور منتَجٍ آخرَ في الأسواق يحمل مميزات أفضل.

وفي الغالب تجد المنتجاتُ المستهلَكةُ أو القديمةُ طريقها إلى مكبات النفايات، أو حتى يتم حرقها، وهو ما يسبب عديدًا من الأضرار السلبية في البيئة، ليس فقط من خلال إطلاق الملوثات، وإنما أيضًا بسبب الحاجَةِ إلى استخراج مواد خام بكر جديدة، وإعادة الكَرَّة.

هذا النموذج من الاقتصاد -الاقتصاد الخطيّ- يؤدي إلى مشكلات مختلفة، مثل استنزاف الموارد الأولية، بالإضافة إلى زيادة الحِمْلِ على كثيرٍ مِن الأنظمة البيئية، سواء في أثناء عمليات استخراج المواد الخام، أم في أثناء عمليات نقلها ومعالجتها، إلى أنْ تجدَ مستقرَّها بين يدي المستهلِك النهائيّ.

وفي خضم هذا الاهتمام العالميّ بقضية تغيُّر المناخ، وظهور مصطلح التنمية المستدامة؛ وَجَدَ العالَمُ نفسه محاصَرًا أمام هذا النظام الخطيّ، الذي يلبي احتياجات التنمية من جانبٍ، ولكنه على الجانبِ الآخرِ يدمر مفهومَ الاستدامةِ، وهو ما لَفَتَ الانتباه لحاجتنا إلى التحول بعيدًا عن هذا النوع من الاقتصاد، في حالة رغبتنا تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ليبقى السؤال، كيف يمكننا إيجاد نظام اقتصاديّ يحقق متطلبات النمو المتزايدة، مع تمكيننا من تحقيق أهداف التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة؟ وهنا كانت الإجابة: الاقتصاد الدائريّ – Circular economy.

الفكرة الرئيسية وراء الاقتصاد الدائريّ “CE” هي تحويل الاقتصاد الخطيّ إلى حلقة، حيث النفايات التي ننتجها يتم الاستعانة بها مرَّةً أخرى في العمليات الإنتاجية، باعتبارها مدخلًا بديلًا للمواد الخام البكر، محققةً بذلك تطلعاتنا التنموية، ومحافِظةً على البيئة ومواردها في الوقت نفسه؛ مما يعني الإسهام -بشكل مباشر- في جهودنا للحد من تغيُّر المناخ.

ما سبق جعل مفهومَ الاقتصاد الدائريّ رائجًا في الأوساط الأكاديمية، وكذلك الاستثمارية. وفي الملف الخاص لعدد ديسمبر من مجلة حماة الأرض، سوف نسلط الضوء بقدر من التفصيل على ما الاقتصاد الدائريّ، وكيف يمكننا دمجه في عالمنا المعاصر، وما الأهداف المرجوَّة من الاعتماد عليه؟

تاريخ الاقتصاد الدائريّ

ظهر مصطلحُ الاقتصاد الدائريّ -وفقًا للمركز المصريّ للفكر والدراسات الاستراتيجية- قبل ما يزيد على 3 عقود، تحديدًا في العام 1989، وهذا مع إطلاق كتاب “اقتصاديات الموارد الطبيعية والبيئة”، الصادر عن مطبعة جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، لمؤلِّفَيْهِ: “كيري تيرمز” و”ديفيد بيرس وآر”.

وقد بيَّن الكِتابُ العَلاقةَ بين الاقتصاد والموارد الطبيعية والأنظمة البيئية، وطبيعة التكامل بين النظامينِ الاقتصاديّ والبيئيّ، كما استعرض الكِتابُ الاقتصادَ الخطيّ، وأهمَّ عيوب هذا النظام الاقتصاديّ، ولمَ يجب التحول عنه.

ولكن، ماذا عما قبل 1989؟ يمكننا القول: كان الاقتصادُ الدائريّ قبل هذا التاريخ حاضرًا بالفعل، سواء في أروقة الجامعات أم في ساحات المصانع، ولكن تحت مسميات أخرى، أبرزها إعادة التدوير، بل إنه من الممكن أنْ نتتبعَ الاقتصادَ الدائريّ حتى العصرِ البرونزيّ، حيث كان يُعادُ تدويرُ البرونز واستخدامه مرَّةً أخرى.

ربما يكون الاقتصاد الدائريّ مصطلحًا معاصرًا، لكن الممارسات الدائرية كانت لمدة طويلة جزءًا من التاريخ الإنسانيّ. وفي هذا الصدد، يمكننا اعتبار العصر البرونزيّ أول مثال على الاقتصاد الدائريّ بشكل عمليّ، حيث كان البرونز المادةَ الرئيسيةَ في هذا العصر، وكانت إعادة تدويره محورَ الاقتصادِ حينها.

عندما ندرك ما سبق، فإننا سنبدأ في تصحيح فهمنا عن الاقتصاد الدائريّ، باعتباره منهجًا ناشِئًا، فالحقيقة تقول: إنَّ الدائريةَ كانت أساسًا وجزءًا أصيلًا مِن تاريخ الإنسانية، في حين أنَّ الاقتصاد الخطيّ هو الغريب والمستحدث.

محركات الاقتصاد الدائريّ

الانتقال إلى الاقتصاد الدائريّ لن يتم لمجرد كونه أفضل لكوكبنا، وإنما يتطلب مجموعةً من المحركات التي تعمل على دفعه إلى الأمام؛ لضمان تبنيه بشكل حقيقيّ، سواء من المجتمع أم الشركات والأفراد؛ وبناءً على هذا يمكننا تقسيم محركات الاقتصاد الدائريّ هذه إلى ثلاثة أقسام، تندرج تحت كل منها مجموعةُ عناصر أساسية.

1- محركات المجتمع

جوهر الاقتصاد الدائريّ هو تقليل الطلب على الموارد؛ لذا يجب -على المستوى المجتمعيّ- التركيز على إظهار الفوائد التي يمكن أنْ يحققها النظامُ الدائريّ من ناحية التأثير في الأنظمة البيئية المختلفة، وهي أربع فوائد رئيسية:

أولًا- كفاءة استهلاك الموارد: يؤدي الطلب المتزايد على الموارد -خصوصًا غير المتجدد منها- إلى تناقصها مع الوقت، وهنا يأتي الاقتصاد الدائريّ بحلول تُقلل من الطلب على مختلف المواد، مع الاستمرار في تلبية متطلبات النمو.

ثانيًا- خفض الانبعاثات: ربما سيُدهشُ بعضُ قارئي حماة الأرض عند علمهم بأنَّ حوالي 50% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية يمكن إرجاعها إلى إنتاج المواد المختلفة؛ لذا يمكن تقليل الانبعاثات -بشكل حاد- ومعالجة تغيُّر المناخ من خلال خفض الطلب على المواد البكر.

ثالثًا- كفاءة التغذية: يؤدي التفكير الخطيّ في أنظمة إنتاج الغذاء إلى تدهور الأراضي الزراعية، وتلويث المحيطات والبحيرات بكميات ضخمة من مخلفات هذه الأنظمة، وهنا تعالج الزراعةُ الدائريةُ هذه المشكلة عن طريق إعادة استخدام المخلفات الناتجة عن العمليات الزراعية وعمليات إنتاج الغذاء.

رابعًا- صحة التنوع البيولوجيّ: يؤدي تقليل استخراج المواد الخام إلى انخفاض الطلب على الأراضي، وهو -بكل تأكيد- أمر جيد للتنوع البيولوجيّ، الذي يعاني -بشكل مستمر- عملياتِ هدم وتشويه أنظمته البيئية.

2- محركات الشركات

من الناحية الاستثمارية تَنظر الشركاتُ إلى الاقتصاد الدائريّ -وغيره من الأنظمة- من باب المكسب والخسارة، فدون جدوى اقتصادية لتبني الاقتصاد الدائري، ستعزف الشركاتُ عن بذل أيّ جهد أو مال لتحويل أنشطتها الصناعية والخدمية. وفي ما يأتي ثلاثة محركات قد تدفع الشركات إلى تبني الاقتصاد الدائريّ:

أولًا- التحول في فكر العملاء: الوعي المتزايد لقطاع عريض من المستهلِكين بقضايا المناخ والاستدامة، خَلَقَ طلبًا متزايدًا على السلع الخضراء في مختلف الأسواق؛ مما يعني أنَّ استدامةَ المنتَجِ أصبحتْ عاملًا يُحدد قرارَ الشراءِ في قطاعٍ مُتَنَامٍ من الناس.

ثانيًا- الإيرادات طويلة الأجل: تتطلب نماذجُ الأعمالِ الدائرية العديدة تغييرًا جذريًّا في أيّ مؤسسة ترغب في تبنيها. وهي عملية يمكن أنْ تكون مكلفةً في البداية، ولكنها تؤدي إلى فوائدَ اقتصاديةٍ على المدى البعيد؛ فالاستقلال عن الوقود الأحفوريّ، وتقليل الاعتماد على المواد البكر، وتعظيم إعادة التدوير – ستأتي بثمارها في نهاية المطاف.

ثالثًا- التوافق مع التشريعات: نظرًا إلى الطبيعة الرأسمالية التي تغلب على الشركات، تفرض الحكوماتُ المحليةُ التشريعاتِ التي تُلزم هذه الشركات بخفض بصمتها البيئية، والتحول إلى البدائل المستدامة؛ لذا فتبني الاقتصاد الدائريّ من الآن سيضمن جاهزيةَ الشركاتِ للتشريعات المستقبلية المختلفة، وسيخفض من تكاليف التحول المفاجئ.

3- محركات الأفراد

ربما يظن بعضٌ أنَّ فوائدَ الاقتصاد الدائريّ الأساسيةَ محصورةٌ في الحفاظ على البيئة، أو تحسين إدارة ثروات الشركات، ولكنَّ الأمرَ يمتد ليشمل الأفرادَ؛ فعلى المستوى الفرديّ يمكن أنْ يساهم الاقتصاد الدائريّ في تحسين عدد من الأمور المهمة، نذكر منها:

أولًا- خَلْقُ فرص العمل: تتطلب عمليةُ إعادة تدوير واستخدام المواد مرَّةً أخرى كثيرًا من المنشآت الجديدة، ومزيدًا من خطوط الإنتاج المطوَّرة؛ مما يعني خلق مزيد من فرص العمل؛ وبالتالي خفض البطالة، وتقليل الفقر.

ثانيًا- الصحة: تعاني صحةُ الإنسانِ في البلدان النامية، نتيجة سوء إدارة المخلفات والسموم الناتجة عن الأنشطة المختلفة؛ لذا فإنَّ تحسينَ معالجة النفايات وزيادةَ إعادة التدوير سيؤديانِ إلى تقليل انتشار الأمراض، وتحسين جودة المياه والهواء على المستوى المحليّ.

ثالثًا- تقاسم الفاتورة البيئية: في المجتمع الدائريّ لا يتحمل المستهلِكون وحدهم فاتورةَ شراء المنتجات المختلفة، وتبديلها من وقتٍ إلى آخرَ، وإنما تكون المسئوليةُ محمَّلةً -أيضًا- على عاتق سلسلة التوريد بشكل كامل؛ من المُصَنِّع إلى تاجر التجزئة.

ممارسات التحول إلى الاقتصاد الدائريّ

سيكون للمحركات السابقة دورٌ كبيرٌ في تحويل المجتمع إلى الإيمانِ بالدائريةِ. وسنحاول في ما يأتي تسليط الضوء على مجموعة من الممارسات المهمة، التي يجب أنْ نقوم بها في أرض الواقع حال أردنا التحول إلى الاقتصاد الدائريّ. ويمكننا تقسيم هذه الممارسات إلى ثلاثة محاور رئيسية؛ الأول منها هو الممارسات التشريعية، وثانيها ممارسات الشركات، وآخرها الممارسات الحياتية.

1- التشريع الدائريّ

تُعتبر الممارساتُ التشريعيةُ ذات أهمية خاصة لدفع أيّ مجتمع للتحول إلى الاقتصاد الدائريّ، فدون هذه التشريعات المنظِّمة لن تكون هناك أداةٌ حقيقيةٌ تُمَكِّنُ -أو تُلزم- الشركات والأفراد مِن فِعل ما هو لازم للتحول إلى الاقتصاد الدائريّ. ويمكن تلخيص دورَ التشريع الدائريّ في ما يأتي:

أولًا- وضع المعايير والمقاييس: تحتاج جميع المؤسسات -بلا استثناء- إلى معايير ومقاييس تستطيع من خلالها تقييم مدى التقدم في تطبيقها لمفهوم الاقتصاد الدائريّ، كما تحتاج المجتمعاتُ والحكوماتُ إلى هذه المعايير والمقاييس؛ لأجل فرض ما يلزم على الشركات.

ثانيًا- تحديث القوانين الحالية: لا شك في أنَّ هناك عديدًا من القوانين واللوائح التي تجعل الانتقالَ إلى الحلول الدائرية أمرًا صعبًا بالنسبة إلى كثيرٍ من الشركات في الوقت الحاليّ؛ لذا يتوجب على المُشرِّع مراعاة تحديث هذه القوانين بما يتواكب مع متغيرات العصر؛ لتحقيق الأهداف المرجوَّة.

ثالثًا- خَلْقُ حوافز اقتصادية للشركات: في الوقت الحاليّ تفتقر تشريعاتٌ محليةٌ كثيرةٌ إلى المواد التي تنص على وجود حوافز اقتصادية للشركات، التي تتبنى الاقتصاد الدائريّ بشكل حقيقيّ. ونظرًا إلى أنَّ تكلفةَ الاقتصاد الدائريّ تكون في البداية أكثر مقارنةً بالاقتصاد الخطيّ؛ فسوف يكون للحوافز الاقتصادية دورٌ مهمٌّ في تشجيع الشركات على التحول.

رابعًا- رفع وعي المستهلِكين: يفتقر الأفرادُ -وكذلك الشركات- إلى المعلومات والحوافز اللازمة للتحول إلى الاستدامةِ والدائريةِ، ولكن عند رفع الوعي وتوفير النماذج الإرشادية التي تُمهد الطريق أمام الجميع، تكون هناك حالةٌ من الشفافية التي تخلق مناخًا مشجعًا على التحول إلى الاقتصاد الدائريّ.

2- ممارسات الشركات

يتوجب على أصحاب رءوس الأموال إدراك أنَّ الاستدامةَ قادمةٌ إليهم لا محالةَ، سواء عن طريق ضغط المستهلِكين أم ضغط التشريعات المحلية والعالمية؛ لذا من الواجب على أصحاب القرار في مختلف الشركات تبني الممارسات الآتية:

أولًا- الاستثمار في المعرفة: قبل أنْ تبدأ أيُّ مؤسسةٍ في تنفيذ نماذج أعمال جديدة، من المهم في البداية فهم الفرص والتحديات التي يواجهها القطاعُ الذي تعمل فيه، والتحقق من إمكانية توفير الموارد اللازمة للتحول إلى نموذج الاقتصاد الدائريّ.

ثانيًا- الانفتاح على الابتكارات الثورية: لتحقيق النجاح باستخدام نماذج الأعمال الدائرية، ربما يكون التغيير التنظيميّ الجذريّ في الشركة أمرًا بالغ الأهمية في بعض الأحيان؛ لذا يتوجب على متخذِي القرار في الشركات التحلي بعقلية منفتحة على الحلول الجديدة والثورية، ومحاولة فهم مدى تأثيرها في أنشطتهم.

ثالثًا- التعاون مع الشركات الأخرى: لضمان استمرار تدفقات المواد الدائرية -بشكل آمن وجودة عالية- فهناك حاجَةٌ إلى الشفافية على طول سلاسل التوريد؛ لهذا يُشار إلى التعاون والثقة في كثير من الأحيان على أنهما عنصرانِ حاسمانِ في الاقتصاد الدائريّ.

رابعًا- الاستعداد للتحول الرقميّ: إنَّ التحولَ الرقميّ للاقتصاد الدائريّ سيجعل نموذجَ الأعمالِ هذا أكثر استدامةً وشمولًا، وهذا من خلال تحسين تدفق الموارد، وتمكين المستهلِكين من اتخاذ القرارات الصحيحة، ومساعدة الشركات على تطبيق استراتيجيات التحول بشكل أكثر فاعليةً.

3- الممارسات الحياتية

بالنسبة إلى الأفراد، يتمتع الاقتصاد الدائريّ بقدرةٍ على جعل الحياة أسهل، مع الحفاظ على البيئة بشكل أكبر. ولكن كيف يمكننا المشاركة -على المستوى الفرديّ- في تطبيق الاقتصاد الدائريّ؟ نلخص هذا في النقاط الآتية:

أولاً- الاستهلاك المسئول: الطريقة الأكثر فاعليةً لتقليل الطلب على الموارد هي -ببساطة- عدم الاستهلاك أو خفضه إلى الحدود الدنيا؛ لذا عليكم قبل اتخاذ قرار الشراء طرح هذا السؤال: هل هذا الشيء أحتاجه أم أريده؟ إذا لم يكن هناك شيء تحتاجونه، فربما من الأفضل تأجيل قرار الشراء قليلًا.

ثانيًا- إعادة الاستخدام: ونقصد هنا المفهومَ الأوسعَ لإعادة الاستخدام، والذي يشمل شراءَ الأغراضِ المستعمَلة، وهو الأمر الذي قد يكون معقدًا في بعض الأحيان، ولكن إذا سنحت الفرصة لتلبية احتياجٍ ما عن طريق شراء المستعمَل، فافعلوا هذا دون تردد.

ثالثًا- زيادة الوعي: إنَّ قضيةَ التحولِ إلى الاستدامة بشكل عامّ، والاقتصاد الدائريّ بشكل خاصّ؛ هي قضية وعي في الأساس، خصوصًا على المستوى الفرديّ، فبتشكيل وعي الفرد -المستهلِك- ستكون قراراتُه مشجعةً على التحول إلى الاستدامة.

رابعًا- التصويت الدائريّ: إنَّ الانتقالَ إلى الاقتصاد الدائريّ يتطلب توفير الاستثمارات اللازمة في الأماكن الصحيحة. ويقع على عاتق السياسيين -بكل تأكيد- دورٌ مهمٌّ في توجيه هذه الأموال نحو الاتجاه الصحيح، وهو ما يضع المسئوليةَ على عاتق الأفراد في اختيار أعضاء المجالس النيابية، الذين يدركون ويتبنون الاقتصاد الدائريّ.

تحديات التحول إلى الاقتصاد الدائريّ

في كثير من الأحيان يبدو التحولُ إلى الاستدامة وتبني الاقتصاد الدائريّ أمرًا بديهيًّا، وهو ما يدفع شركات ومؤسسات كثيرة إلى الإعلان عن استراتيجيات للتحول المستدام، ولكن الحلقة المفقودة هنا هي -في معظم الأحيان- عدم دراسة حقيقة تأثير هذه الاستراتيجيات، سواء بالسلب أم بالإيجاب، وإنما يُكتفى بتبني الممارسات الخضراء؛ ومن هنا نشأت مجموعةٌ من التحديات التي تواجه الاقتصاد الدائريّ، سنناقشها في السطور القادمة.

تكمن أبرزُ التحديات التي تواجه تطبيقَ الاقتصاد الدائريّ في التأثير العكسيّ، وهو أمرٌ يحدث عندما يتم التحول بعملية تصنيعية أو خدمية إلى الدائريةِ، ليس لأجل الدائرية، وإنما لاعتباراتٍ اقتصاديةٍ بحتةٍ، وهو الأمر الذي يعني ترشيد النفقات -أيضًا- على طول سلسلة التوريد، واستغلال فائض هذه الأموال في مشروعات أخرى قد لا تكون مستدامةً بالضرورة، فتكون المحصلةُ تأثيرًا متضاربًا، وربما سلبيًّا بشكل أكبر من السابق.

تحدٍّ آخرُ هو تأجيل التأثيرات السلبية، ونقصد بهذا أنه عند تقييم الأثر البيئيّ لنشاط ما، يكون من الصعب جدًّا -بطبيعة الحال- مراعاة والحد من جميع التأثيرات الناتجة؛ لذا نضطر إلى التعامل مع بعض التأثيرات في إطار تنظيميّ يسمح بها، ولكن في حدود معينة، وهو أمرٌ قد لا يحمل أيّ تهديدات على المدى القريب، ولكن على المدى البعيد تبقى الاحتمالاتُ مفتوحةً.

الحلول غير المدروسة تُمثل -هي الأخرى- واحدًا من التحديات الصعبة في طريق التحول نحو الاقتصاد الدائريّ؛ فَتَحْتَ الضغوطِ التشريعيةِ والمجتمعيةِ قد يتحول قطاعٌ ما إلى أسلوبٍ جديدٍ في التصنيع أو تقديم الخدمة، ويكون في واقع الأمر أقل ضررًا من سابقه، لكنه في الوقت نفسه ما يزال يحمل ضررًا معتبرًا على البيئة. ومثال ذلك: تحول العديد من الدول حول العالم من الفحم إلى الغاز الطبيعيّ، وهو -بكل تأكيد- خطوة جيدة، لكنه في الوقت نفسه تحول من مصدر أحفوريّ إلى مصدر أحفوريّ آخرَ.

بالإضافة إلى ما سبق، فالعديد من أنظمة التصنيع الحالية وأنظمة تقديم الخدمات هي نتاج عقود من التطوير والخبرة؛ مما يعني أنها أنظمة تعمل بكفاءة عالية، وأنَّ التحولَ عنها إلى أنظمةٍ جديدةٍ -أكثر استدامةً وما تزال في طَور التطوير والتحسين- يُعدُّ مخاطرةً يعزف عن خوضها كثيرون.

الاقتصاد الدائريّ والتنمية المستدامة

قد يظن بعضٌ للوهلة الأولى أنَّ الغرضَ الوحيدَ مِن عملية التحول إلى الاقتصاد الدائريّ هو حفظ الموارد والحفاظ على البيئة، ولكنَّ الأمرَ يتخطَّى هذا إلى العديد من الأغراض الأخرى، التي تؤثر -بشكل مباشر- في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

تُظهر البحوثُ وجودَ صلةٍ وثيقة بين الاقتصاد الدائريّ وكثير من أهداف التنمية المستدامة، بما في هذا الهدف رقم (6) “المياه النظيفة والنظافة الصحية”، والهدف رقم (7) “طاقة نظيفة وبأسعار معقولة”، والهدف رقم (8) “العمل اللائق ونمو الاقتصاد”، والهدف رقم (12) “الإنتاج والاستهلاك المسئولان”، والهدف رقم (15) “الحياة في البرِّ”.

وبالإضافة إلى ما سبق، يمكن الربط بين الاقتصاد الدائريّ وعدد من الأهداف الأخرى الأكثر ارتباطًا بالمجتمع، مثل الهدف رقم (1) من أهداف التنمية المستدامة “القضاء على الفقر”، والهدف رقم (2) “القضاء على الجوع”، والهدف رقم (3) “الصحة الجيدة والرفاه”، والهدف رقم (17) “عقد الشراكات لتحقيق الأهداف”.

ونناقش في النقاط الآتية التأثيرَ المباشرَ للاقتصاد الدائريّ في تحقيق بعض أهداف التنمية المستدامة التي سبقت الإشارةُ إليها؛ وهذا للوصول إلى فهم أشمل للدور المنتظَر من تبني الفكر الدائريّ.

أولًا- الدائرية والقضاء على الفقر: بالنظر إلى الأساليب الزراعية التي نتبعها حاليًّا، فهناك مجموعة من المبادئ الدائرية التي يمكن تطبيقها في جميع أجزاء سلسلة القيمة الغذائية، ويمكن أنْ تساعِدَ على تعزيز الحفاظ على التربة، وزيادة مرونة الأنظمة الزراعية المختلفة. ومن الأمثلة على هذه المبادئ: استخدام الفحم الحيويّ، والغاز الحيويّ، والسماد الطبيعيّ المنتَج من المخلفات العضوية (Compost)، بالإضافة إلى الزراعة الدائرية، وهي مفهوم يمكن أنْ يقدم إسهامًا عظيمًا في القضاء على الفقر.

ثانيًا- المياه النظيفة والنظافة الصحية: يمكن للاقتصاد الدائريّ أنْ يساعِدَ على تحقيق الوصول الشامل والعادل إلى خدمات آمنة وبأسعار معقولة لمياه الشرب، وهذا من خلال تطوير التقنيات والأنظمة، مثل: تقنيات تنقية المياه على نطاق صغير، وتحلية المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحيّ للحد من تصريفها في مجاري مياه الشرب.

ثالثًا- طاقة نظيفة وبأسعار معقولة: ركزتِ الجهودُ المبذولةُ في معالجة تغيُّر المناخ على الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، وهو -بكل تأكيد- أمر بالغ الأهمية؛ لاتساقه مع الاقتصاد الدائريّ. ولكن على الرغم من هذا فإنَّ التحولَ إلى مصادر الطاقة المتجددة سيخفض حوالي 55% من الانبعاثات، حيث تأتي النسبة المتبقية من العمليات الإنتاجية في قطاعات مثل السيارات، الملابس، المواد الغذائية، وغيرها. وهنا يأتي دور الاقتصاد الدائريّ، الذي ستكون لديه قدرة على تحويل هذه العمليات الإنتاجية؛ لتكون أكثر كفاءةً وأقل تطلبًا للموارد.

رابعًا- العمل اللائق ونمو الاقتصاد: النظام الاقتصاديّ الخطيّ هو نظام مسرِف في استهلاك الموارد، ومُنتِج كبير للنفايات، ولكن في الاقتصاد الدائريّ يتم التفكير في العمليات الإنتاجية بشكل مختلف، بحيث يمكن الاستفادة من المنتجات في نهاية دورة حياتها عن طريق إعادة التصميم، وإعادة الاستخدام والتدوير، وغيرها. وكلها عمليات تتطلب مزيدًا من الأيدي العاملة، التي سيكون لها دورٌ مزدوجُ التأثيرِ؛ فمن ناحية ستوفر الدخل المناسب لأسرهم، ومن ناحية أخرى ستساهم في حفظ البيئة، ونمو الاقتصادات المحلية.

خامسًا- الإنتاج والاستهلاك المسئولان: كثيرٌ من الممارسات الدائرية له أهمية كبيرة لتحقيق هذا الهدف من أهداف التنمية المستدامة؛ فإنَّ إدارةَ المياه -على سبيل المثال- والإدارةَ الذكيةَ للنفايات، والاعتمادَ على الطاقة المتجددة، والتصميمَ الذكيّ، وسلاسلَ التوريد المستدامة؛ ممارساتٌ يمكن أنْ تقلل من التلوث الصناعيّ للمياه والتربة.

سادسًا- الحياة في البرِّ: ممارسات الاقتصاد الدائريّ -مثل الزراعة الدائرية، وإدارة المخلفات الزراعية، واستعادة التربة الزراعية، واستزراع الغابات- كلها تصب في مصلحة تعزيز الأنظمة البيئية المختلفة، والحفاظ على التنوع البيولوجيّ في البرِّ، كما أنَّ لها تأثيرًا مباشرًا في مكافحة تغيُّر المناخ؛ وبالتالي حفظ هذا التنوع في ما وراء الحياة في البرِّ.

سابعًا- عَقْدُ الشراكات لتحقيق الأهداف: يتطلب التحولُ إلى الاقتصاد الدائريّ تغييرًا منهجيًّا وجذريًّا في أنظمةٍ ولوائحَ وتشريعاتٍ عديدةٍ، وهو أمرٌ يتطلب -بطبيعته- التعاون على نطاق واسع؛ فلنْ تستطيع الحكوماتُ المحليةُ وحدها تحقيق ذلك، كما لنْ نستطيعَ تحقيق الأهداف العالمية المرجوَّة دون التعاون على جميع المستويات؛ مما يعني أنَّ الاقتصاد الدائريّ سيمثل حلقةً جديدةً من التعاون، سواء على المستوى المحليّ أم الدوليّ.

الاقتصاد الدائريّ والثورة الصناعية الرابعة

في العقود الأخيرة أصبح يُنظر إلى الاقتصاد الدائريّ -بشكل متزايد- على أنه نموذج التصنيع المفضل لتحقيق التنمية المستدامة، لكن على الرغم من هذا فإنه ما يزال هناك عديدٌ من الحواجز التكنولوجية والمالية والتنظيمية والاجتماعية والثقافية، التي تعيق الانتقالَ من أنظمة الإنتاج الخطية إلى أنظمة الإنتاج الدائرية.

وللتغلب على ما سبق، فهناك شبه اتفاق عامّ على أنَّ التقنيات الرقمية المتقدمة المعروفة مجتمعةٌ باسم الثورة الصناعة الرابعة، وتعمل باعتبارها عواملَ مساعدة على تمكين الاقتصاد الدائريّ من إزالة العديد من العقبات سابقة الذكر. كما تعمل تقنيات الثورة الصناعية الرابعة على سد العجز المعلوماتيّ والمعرفيّ الناتج عن هذه العقبات.

ولتوضيح ما سبق، فعلى سبيل المثال، عند التعامل مع نوع معين من المخلفات لدمجه في عجلة الاقتصاد الدائريّ، يمثل نقصُ المعلومات عن هذا المخلف مثل أماكن التولد، والكميات المتولدة، والخصائص الفيزيائية والكيميائية – عنقَ زجاجةٍ أمام تحويل هذا النوع من المخلفات إلى مادة خام مرَّةً أخرى، وهنا يأتي دور تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، التي تستطيع تمكين العديد من نماذج الأعمال الجديدة.

تتميز الثورة الصناعية الرابعة -أيضًا- بالتقارب والتكامل بين عدد من المجالات التقنية الناشئة، مثل تكنولوجيا النانو، والتقانة الحيوية، وتقنيات الإنتاج الرقميّ المتقدمة (ADP)؛ وكلها تقنيات ضرورية للانتقال إلى الاقتصاد الدائريّ.

تعتمد الثورة الصناعية الرابعة -أيضًا- على جمع وتحليل البيانات، والتعلم منها بشكل كبير، وهذا باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعيّ والبيانات الضخمة، وهو ما يساهم في تعزيز مجموعة من التقنيات الأخرى مثل الاستشعار عن بُعدٍ، ومراقبة العمليات الإنتاجية الذكية؛ وبالتالي إعطاء العامل البشريّ قدرةً على التفاعل بشكل لحظيّ مع العمليات الإنتاجية؛ للعمل على تحسينها وزيادة كفاءتها.

تتيح تقنيات الإنتاج الرقميّ المتقدمة رقمنةَ المعلوماتِ ودمجَها ضمن سلاسل القيمة، كما تتيح رقمنةَ عمليات توريد المنتجات والخدمات وتطوير نماذج الأعمال الثورية، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تحسين تفاعل المستهلِك مع المنتجات والخدمات، وتسهيل عملية الوصول إليها من خلال تبادل المعلومات؛ مما يعني المزيد من الإيرادات التي يمكن ضخ جزء منها في بناء استراتيجيات الاقتصاد الدائريّ المختلفة.

عيوب الاقتصاد الدائريّ

وكعادتنا عند مناقشة الملف الخاص، نحاول إلقاء الضوء على الجوانب السلبية التي يتم نسيانها عادةً، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيا خضراء أو استراتيجية مستدامة، حيث يتم التركيز على الفوائد العظيمة بشكل واسع؛ مما يمنعنا من الحصول على رؤية واضحة لجميع الجوانب. وفي السطور القادمة سنناقش بعضَ عيوبِ الاقتصاد الدائريّ.

أولًاتعقيد التنفيذ: لا يخلو الانتقالُ من الاقتصاد الخطيّ إلى الاقتصاد الدائريّ من التحديات، التي يأتي في مقدمتها تعقيدُ تنفيذِ الممارسات الدائرية؛ نظرًا إلى ما ترتبط به من تكاليف وحاجَةٍ إلى إعادة صياغة سلاسل التوريد، وكذلك تعديل تصميم المنتجات بشكل يتوافق مع المبادئ الدائرية. وكل ما سبق يتطلب استثماراتٍ ضخمةً وتكنولوجيا متقدمةً.

ثانيًا- النطاق المحدود: تعمل استراتيجياتُ الاقتصاد الدائريّ في الوقت الحاليّ على نطاق محدود، حيث يواجه التطبيقُ -على نطاق واسع- مجموعةً من العوائق المختلفة، متمثلةً في الأُطُرِ التنظيمية غير المحدثة، التي لا تتبنى الاقتصاد الدائريّ؛ مما يجعل بعض الشركات عاجزةً عن الموازنة بين التشريعات والقوانين المختلفة. بالإضافة إلى هذا، فإنَّ توسيعَ نطاق الاقتصاد الدائريّ معتمِدٌ على وجود طلبٍ مُتَنَامٍ ومستمرٍّ على المنتجات والخدمات الدائرية في السوق.

ثالثًا- القيود التكنولوجية والتصميمية: لبعض المنتجات والمواد تحديات تقنية أمام الحلول الدائرية؛ فقد تحتوي المنتجات الإلكترونية المعقدة -على سبيل المثال- على مكونات تصعب إعادة تدويرها أو تجديدها، كما قد تشكل الموادُّ المُركَّبةُ المستخدَمةُ في بعض الصناعات تحدياتٍ من حيث الفصل وإعادة التدوير.

رابعًا- قلة التوافر: في حين أنَّ مفهومَ الاقتصاد الدائريّ يكتسب زخمًا في السنوات الماضية، نجد أنَّ توافرَ المنتجات والخدمات الدائرية ما يزال محدودًا، وهو ما يمكن أنْ يشكل تحديًا للمستهلِكين والشركات، فحتى عند تبني الاقتصاد الدائريّ بشكل صادق، ستؤدي قلة توافر الخيارات الدائرية إلى بذل مزيدٍ من الجهد لإيجاد الحلول.

خامسًا- الاعتماد على عقلية المستهلِك: يتطلب الانتقالُ إلى الاقتصاد الدائريّ تحولًا في عقلية المستهلِك وسلوكه، للانتقال من ثقافة التخلص من النفايات نحو ثقافة الإصلاح وإعادة الاستخدام والتدوير؛ لذا يُعدُّ تثقيفُ المستهلِكين وإشراكهم لتبني الممارسات الدائرية، واتخاذ الخيارات المستدامة، ودعم الأعمال الدائرية – أمرًا بالغَ الأهميةِ لنجاح الاقتصاد الدائريّ، ولكن بعض العادات والتفضيلات المتأصلة في المستهلِكين تقف عائقًا أمام الاقتصاد الدائريّ.

ومن خلال اعتماد الممارسات الدائرية -مثل الحفاظ على الموارد، وحفظ البيئة، وتوفير الفرص الاقتصادية- يمكننا معالجة القضايا المُلِحَّةِ، المتمثلة في ندرة الموارد وتولد النفايات. ومع ذلك، فإنَّ تعقيدَ التنفيذِ، ومحدوديةَ توافر الحلول الدائرية، وعوائقَ التوسع، والقيودَ التكنولوجية المختلفة، أضفْ إلى هذا الحاجَةَ إلى التحول في سلوك المستهلك – كلها تشكل عيوبًا في منظومة الاقتصاد الدائريّ، وتتطلب جهودًا متضافرةً للتغلب عليها.

ما سبق يمكن تلخيصه في أنه حتى لو تَبَنَّتِ المؤسساتُ المختلفةُ الاقتصادَ الدائريّ -بشكل حقيقيّ وصادق- فإنَّ هذا وحده ليس كافيًا لتحقيقه؛ نظرًا إلى اعتماد الاقتصاد الدائريّ على مجموعة من المتغيرات التي يصعب التحكم بها أو التنبؤ بمخرجاتها.

خاتمة الملف الخاص

إنَّ ما نشهده من تحدياتٍ مناخيةٍ في عالمنا المعاصر سببٌ كافٍ لنعطي عظيمَ الاهتمامِ لكل فكرة أو نهج يهدف إلى مواجهة هذه التحديات. ولعل الاقتصاد الدائريّ، بما يقدمه من منهجية شمولية تهدف إلى دعم التنمية وضمان الاستدامة – هو السبب في الزخم الشديد والقبول العامّ لهذا النموذج الاقتصاديّ. وقد حاولنا في عدد ديسمبر من مجلة حماة الأرض تسليط الضوء على مختلف الجوانب المتعلقة بالاقتصاد الدائريّ.

يتوجب علينا عند الدفع في اتجاه تبني المؤسسات للاقتصاد الدائريّ أنْ نعي عيوبه والتحديات التي تواجه، وهذا حتى تكون التوقعاتُ منطقيةً، وكذلك الالتزامات التنظيمية على الشركات والأفراد، وإلَّا سيتحول مفهومُ الاقتصاد الدائريّ إلى عنوان للحملات الدعائية للشركات، أو إلى مجموعة من اللوائح التي يتم الالتفاف عليها.

وإجمالًا، يجب دمج البُعدينِ الاقتصاديّ والاجتماعيّ مع البُعدِ البيئيّ؛ لإبراز جدوى التحول إلى الاقتصاد الدائريّ، وهذا رغبةً في تحقيق الأهداف قصيرة وطويلة الأجل لهذا النموذج الاقتصاديّ الواعد، مع العمل على نشر الوعي، سواء على مستوى الشركات أم الأفراد؛ لتسهيل عملية التحول، وخلق سوق جديد يدفع الطلب على المنتجات والخدمات الدائرية.

ومن هذا المنطلق، يجب أنْ نعي أنَّ تبني الاقتصاد الدائريّ ليس حلًّا سحريًّا لمشكلاتنا المناخية، حيث يجب أنْ يكون لهذا التبني إنجازات في أرض الواقع، مع دمجه بغيره من الحلول المناخية في إطار استراتيجية شاملة تحقق الأهداف المرجوَّة؛ لنضمنَ نموًّا مستدامًا.

ولا ننسى في هذا المقام أنْ نُشيرَ إلى مصرَ باعتبارها واحدةً من أُولى الدول التي ظهر فيها الاقتصاد الدائريّ، وهذا في صورة عشرات المنشآت التي ظهرت للنور في ستينيات القرن الماضي، للعمل في مجال إعادة التدوير. والآن يوجد ما يزيد على 6000 منشأة عاملة في هذا القطاع الواعد الذي يَلقَى اهتمامًا خاصًّا من الدولة.

وبالنسبة إلى دولة نامية مثل مصر تتمتع بتعداد سكانيّ ضخم، فإنَّ الكميات الهائلة من المخلفات التي يتم توليدها تمثل مصدرًا غنيًّا ومهمًّا لدعم الاقتصاد الدائريّ الوطنيّ، وتحقيق عدد من الأهداف الاجتماعية الأخرى، مثل: توفير فرص العمل، وتحسين مستوى الدخل بين كثيرٍ من الأُسَرِ.

خلاصة القول، هي أنَّ الاقتصاد الدائريّ يمثل سبيلًا إلى حفظ موارد أنظمتنا البيئية للأجيال القادمة، بالإضافة إلى كونه نموذجًا واعدًا من نماذج الاستهلاك والإنتاج التي تعتني بإعادة التدوير والاستخدام، وهذا بهدف تأخير اللجوء إلى استخراج مواد خام بكر، وتصنيع منتجات جديدة.

مما سبق نستنتج أنَّ الاقتصادَ الدائريّ سيساهم -بشكل واضح- في تحقيق أهداف الأجندة الوطنية “رؤية مصر 2030″، عن طريق خلق مناخ إيجابيّ يحفظ البيئةَ ويحقق التنميةَ المستدامةَ، وهو الأمر الذي سيضمن لمصرَ الحفاظ على مكانتها، باعتبارها نموذجًا تنمويًّا فريدًا في إفريقيا والشرق الأوسط.

وفي الختام، نؤكد على محورية نشر الوعي وأهميته في تبني الاقتصاد الدائريّ، وهو الدور الذي تبذل فيه حماة الأرض عظيمَ الجهدِ؛ لتصحيح المفاهيم، والتحول بالسلوك الجمعيّ للمجتمع إلى الاستدامة، سعيًا إلى حفظ الأرض وحمايتها، وضمان مستقبل عادل للأجيال القادمة.

الثورة الصناعية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى