علوم مستدامة

الاقتصاد الدائري نموذج ذكي لبناء عالم بلا نفايات

الاقتصاد الدائري

الاقتصاد الدائري نموذج ذكي لبناء عالم بلا نفايات

في القرن الحادي والعشرين، تتصاعد التحديات البيئية التي تواجه اقتصاد العالم، من فيضانات مدمرة إلى حرائق غابات متكررة تعكس تأثير التدخل البشري المكثف في الطبيعة، ووسط هذه الأزمات يتزايد الحديث عن نماذج جديدة لإعادة التفكير في استهلاكنا للموارد، منها الاقتصاد الدائري، الذي يعد أحد الاتجاهات الحديثة التي تسعى إلى تقليل الهدر وتحقيق توازن بين التنمية والحفاظ على البيئة.

في هذا المقال، تستعرض حماة الأرض كيف يشكل الاقتصاد الدائري خطوة ضرورية لإعادة تشكيل أنماط الإنتاج والاستهلاك التقليدية، مع التركيز على دوره الحيوي في تقليل الهدر وحماية الموارد الطبيعية، وكيف يمكن لهذه الرؤية الجديدة أن تقودنا نحو مستقبل أكثر استدامة؛ فتابعوا القراءة.

النموذج الخطي للاقتصاد العالمي

يبدأ التغيير بتعديل جذري في العقليات والسياسات، وإعادة النظر في أساليب الاستهلاك والإنتاج التقليدية التي تستنزف موارد الأرض بلا هوادة؛ فالنموذج الاقتصادي العالمي السائد حتى اليوم يعتمد بشكل أساسي على منهج خطي تقليدي يقوم على سلسلة من المراحل المتتابعة: استخراج الموارد، ثم الإنتاج، تليه مرحلة الاستهلاك، ثم التخلص النهائي من المخلفات. هذا النموذج بات عتيقًا وخطيرًا في آنٍ واحد، حيث يؤدي إلى استنزاف غير مستدام للموارد وتراكم هائل للنفايات؛ ما يبرز الحاجة إلى اعتماد مفهوم الاقتصاد الدائري باعتباره بديلًا أكثر استدامة.

 ومع ارتفاع مستويات المعيشة في العديد من مناطق العالم، تزداد وتيرة الاستهلاك بلا هوادة، غير أن هذا الرفاه المادي له ثمن باهظ: استنزاف للموارد الطبيعية بشكل أسرع مما يمكن تعويضه، إذا استمرت معدلات الإنتاج الحالية، حيث إن أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي -على سبيل المثال- قد يستنفدان احتياطات الغاز الطبيعي خلال 13 و9 سنوات على التوالي، في حين ستنفد احتياطات النفط خلال 28 و16 سنة.

تراكم هائل للنفايات

وكذلك ينتج البشر في كل عام أكثر من 2 مليار طن من النفايات الصلبة، وتتوقع التقديرات أن يصل هذا الرقم إلى 3.8 مليار طن بحلول عام 2050. وهذه الغالبية العظمى من النفايات تُدفن في مقالب النفايات أو تُلقى في المحيطات، مسببة أضرارًا جسيمة للتنوع البيولوجي، وملوِّثةً المياه والتربة؛ مما يفاقم أزمة البيئة بشكل خطير.

أزمة سلاسل الإمداد

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المشكلة لا تقتصر على استهلاك الأفراد فقط، وإنما تبدأ منذ المراحل الأولى لسلاسل الإمداد العالمية التي تمثل شريان الإنتاج الحديث، هذه السلاسل -التي تبدأ من استخراج المواد الخام، مرورًا بعمليات التصنيع، ووصولًا إلى النقل والتخزين- تتحمل نصيبًا كبيرًا من المسئولية البيئية نتيجة استهلاكها الكثيف للموارد الطبيعية وانبعاثاتها الملوثة.

يبدأ الأمر من استخراج المواد الخام، مرورًا بعمليات التصنيع، ووصولًا إلى النقل والتخزين، كل مرحلة من هذه المراحل تنطوي على استهلاك كثيف للموارد الطبيعية، وانبعاثات ملوثة، وفاقد كبير في الكفاءة؛ ومن ثم فإن تحسين الاستدامة في هذه المراحل لا يمثل مجرد تحسين تقني، وإنما يمكن أن يُحدث تحولًا هائلًا في المسار البيئي العالمي، ويعيد تشكيل العلاقة بين الاقتصاد والطبيعة.

أزمة النفايات والفاقد الغذائي

ومن جهة أخرى، يمثل الهدر الغذائي أحد أبرز الأمثلة على الخلل في منظومة الإنتاج؛ فبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن 13.8% من الأغذية تُفقد بعد الحصاد وقبل أن تصل إلى أيدي المستهلكين، أي خلال عمليات النقل والتخزين والمعالجة الأولية. هذه النسبة تعني في الواقع خسائر اقتصادية تتجاوز 400 مليار دولار سنويًّا، وتُهدر معها موارد ثمينة مثل المياه والطاقة والأراضي الزراعية.

ولا تقتصر الأزمة على الهدر والنفايات فقط، وإنما امتدت لتشمل الانبعاثات الكربونية الناتجة عن عمليات التصنيع، التي تُعتبر من أبرز العوامل المسببة لتغير المناخ، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 50% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تأتي من الصناعات المرتبطة باستخراج الموارد مثل النفط والغاز والتعدين؛ مما يضاعف الضغط على البيئة ويعزز الحاجة الملحة إلى تبني حلول أكثر استدامة.

التحول نحو الاقتصاد الدائري

مما سبق نجد أنه من الواجب على جميع القطاعات تحسين كفاءة استهلاك الموارد، وتبنّي نهجٍ يعيد النظر في سلسلة القيمة بأكملها، من المواد الخام إلى النفايات، وهو ما يقودنا إلى مفهوم الاقتصاد الدائري، الذي بات يشكل محورًا رئيسيًّا في جهود التحول نحو استدامة حقيقية.

ولذلك بدأ العالم بالتوجه نحو نموذج الاقتصاد الدائري باعتباره بديلًا ذكيًّا ومستدامًا للنموذج التقليدي، حيث يهدف الاقتصاد الدائري إلى تقليل الهدر من خلال إعادة استخدام الموارد وإعادة تدويرها؛ لتحقيق توازن حقيقي بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة، وضمان استدامة الموارد للأجيال القادمة.

لا يمكن الحديث عن الإنتاج أو الاستهلاك المسئولين دون التطرق إلى الدور المحوري الذي تلعبه الحكومات في صياغة البيئة التنظيمية الداعمة لهذا التحول؛ فالتغيير يتطلب أطرًا تشريعية واضحة تضع الاستدامة في صميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، حيث تمتلك الحكومات أدوات قوية لتوجيه السوق نحو سلوك أكثر مسئولية واستدامة.

يمكن أن تفعل الحكومات ذلك من خلال الضرائب البيئية التي تُحمّل الملوث تكلفة الضرر الذي يسببه، والحوافز الضريبية المخصصة للشركات الخضراء، وسن قوانين تحظر المنتجات البلاستيكية أحادية الاستخدام، وفرض معايير صارمة تتعلق بالطاقة والانبعاثات. ولا يقتصر هذا الدور على التشريعات فقط، وإنما يشمل أيضًا الاستثمار في البحث العلمي والتقنيات النظيفة، ودعم الابتكار المحلي، وتثقيف المواطنين بأهمية التحول نحو نمط إنتاج واستهلاك أكثر توازنًا.

ومِن هنا برزت مبادرات عالمية بارزة، مثل الاستراتيجية الأمريكية الوطنية لإعادة التدوير لعام 2021، التي سعت إلى بناء اقتصاد دائري فعال يشجع استخدام المواد المعاد تدويرها، ويدعو إلى تقليل الاعتماد على الصناعات الملوثة. وعلى الصعيد المحلي في مصر، أطلقت الحكومة مبادرة “إي تدوير” (E-Tadweer) في عام 2021، وتُعد هذه المبادرة أول منصة إلكترونية وطنية للنفايات، وهي نتاج شراكة بين الحكومة المصرية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتهدف “إي تدوير” إلى تعزيز جمع وفرز النفايات وتحفيز الاستثمار في قطاع إعادة التدوير؛ مما يشكل خطوة عملية نحو تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري في البلاد.

دور الشركات في التحول نحو الاقتصاد الدائري

وامتدادًا لهذا التوجه، بدأت الشركات تدرك أن الاستدامة أصبحت ميزة تنافسية حاسمة في عصر يتغير بوتيرة متسارعة؛ فالمستهلك المعاصر -وخاصة الأجيال الشابة- لم يعد يركز على السعر فقط، وإنما بات أكثر وعيًا وتأثيرًا، ويميل إلى دعم العلامات التجارية التي تحترم البيئة، وتصون حقوق الإنسان، وتعتمد الشفافية والمساءلة في ممارساتها.

ومن خلال تحسين ما يُسمَّى بمؤشرات الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات “Environmental, social, and governance”، لا تكتفي هذه الشركات بكسب رضا الجمهور، وإنما تجني أيضًا فوائد استراتيجية متراكمة، من خفض التكاليف التشغيلية بفضل تحسين كفاءة استخدام الموارد، إلى تعزيز ولاء العملاء، وجذب المستثمرين، والامتثال للمعايير التنظيمية المتزايدة في الأسواق العالمية.

وأصبح يُنظر إلى الأداء الجيد في مؤشرات (ESG) باعتباره إشارة إلى قدرة الشركة على إدارة المخاطر والاستعداد للمستقبل؛ مما يزيد من جاذبيتها لدى الشركاء الماليين والمؤسسات التمويلية، ومن هنا تتحول الاستدامة من التزام أخلاقي إلى استراتيجية ذكية تضمن الاستمرارية والنجاح طويل الأمد.

دور المستهلك في الاستدامة

وفي الوقت الذي تُشكل مبادرات الاقتصاد الدائري على مستوى الحكومات والشركات ركيزة أساسية، يغفل البعض عن أن المسئولية في مواجهة الأزمات البيئية لا تقع عليهم وحدهم، غير أن الحقيقة هي أن كل فرد، وكل مستهلك، هو جزء من الحل؛ ففي عالم تحكمه الإعلانات المبهرة، وثقافة الاستهلاك السريع، واللهث خلف الجديد بلا توقف، أصبح تبنّي سلوكيات واعية ضرورة أخلاقية وبيئية.

تبدأ هذه السلوكيات من أبسط القرارات اليومية كاختيار المنتجات القابلة لإعادة الاستخدام بدلًا من المواد أحادية الاستخدام، وتفضيل العلامات التجارية التي تتبنى ممارسات شفافة وأخلاقية ومستدامة، مرورًا بتقليل الطلب على السلع غير الضرورية، وتشجيع الآخرين على إعادة التفكير في أنماط استهلاكهم. قد تبدو هذه التصرفات فردية وصغيرة، إلا أنها حين تتكرر وتنتشر على نطاق واسع، تتحول إلى حركة جماعية تُحدث تغييرًا ملموسًا في سلاسل الإنتاج، وتُرغم الأسواق على التكيّف مع الطلب الجديد الأكثر وعيًا ومسئولية.

وفي هذا السياق، تؤكد حماة الأرض أن التصدي للثقافة الاستهلاكية السائدة يتطلب إعادة تعريف مفاهيم النجاح والرفاهية، بحيث تقوم على الجودة والاستدامة، لا على الكم والتراكم، وترى أن اختيار المستهلك لأسلوب حياة أكثر بساطة ووعيًا لا ينقذ الكوكب فحسب، وإنما يسهم أيضًا في بناء اقتصاد عالمي أكثر عدلًا واستدامة، تُقاس فيه قيمة المنتج بما يضيفه للحياة، لا بما يُنفق عليه من أموال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى